الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهامش الديمقراطي

سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)

2020 / 8 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


عند الحديث عن الديمقراطية بمفهومها الأصيل ، لان معايير ممارسة الديمقراطية الكونية ، تبقى كمسلمات فارضة نفسها بنفسها ، وبدونها تتحول الديمقراطية الى مجرد شَبهٍ ديمقراطي ، او شِبْه ديمقراطية على المقاص باسم الخصوصية المفترى عليها ، لتبرير ولشرعة الاستبداد والطغيان الذي لا علاقة له اطلاقا بالديمقراطية ... ، يتوجب التمييز بين مستويين .
--- المستوى الأول نظري عام يحدد منطلقات ومبادئ لا يمكن ان ينتهي النقاش فيها الى إيجاد ما يؤكد صلتها المباشرة بالواقع ويحقق مصداقيتها .
--- والثاني ، وكثيرا ما يأتي لاحقا عن الأول ، فانه يتصدى للتجربة الملموسة في ممارسة الديمقراطية ، يكشف حيثياتها ويجلي حقيقة مكوناتها وعناصر تشكلها ، غير ان تباين المستويين لا يعني غياب اية صلة تربط بينهما ، فنحن لا يمكن ان نخوض في أي منهما دون ان نأتي اليه من الاخر ، بمعنى انه قبل ان نخوض في تجربة ما ، فإننا نعمل أولا على تحديد المنطلقات والمبادئ التي تُسوّغ تصورنا ، وتجعله نسقيا ومحكما في تحديداته ، كما اننا حين نعود الى مراجعة المبادئ والاحكام المطلقة ، يكون دافعنا الى ذلك ، هو خلل تجلى في تلك الاحكام والمبادئ على مستوى الواقع وصعيد الممارسة . الاّ انّ ما يلفت الانتباه في ملاحظاتنا ومعالجتنا للديمقراطية ، هو اتفاقنا في المنطلقات العامة لأي تجربة ديمقراطية ، وعند تحديدنا لمواصفات الديمقراطية في خصائصها ، وابعادها التاريخية ، لكن سرعان ما ننتهي الى خلاف حاد في تعيين شروط تموضعها ، ومستوى تحققها .
واذا كنا نحن نؤكد على اتفاقنا المبدئي ، على التحديات العامة التي تتميز بها الديمقراطية كسلوك ومنهاجية ، تحكمها مجموعة من المبادئ يوجد في أساسها حق الشعب في حكم نفسه ، فإننا نزيد على ذلك التأكيد بتشديدنا على ان تجلي تلك المبادئ في الواقع ، وتشكلها كممارسة ، هو مسار تاريخي ، و صيرورة يفرضها التناحر المجتمعي والطبقي ، الذي ينتهي الى تحقيق صيغة " توافق اجتماعي " ، تعكس حقيقته التاريخية ومستواه الحضاري في مرحلة من مراحل تطوره .
على أساس هاتين الحقيقتين اللتين تسندهما مختلف التجارب ، بتلويناتها واسهاماتها المتعددة في اغناء وتوسيع مفهوم الشعب ، وتحديد معناه ، سنحاول باختصار شديد ، مناقشة بعض جوانب " التجربة الديمقراطية " في المغرب في حقيقتها وحدود امكانياتها .
أولا : ما يسمى بالهامش الديمقراطي :
ماذا نقصد بمصطلح الهامش الديمقراطي الذي يتردد على أكثر من لسان؟
ان التخلف المجتمعي العام الذي يعاني منه المغرب ، وقد عرّى عليه جليا الوحش كورونا الذي اظهر المغاربة كمتسولين ، سواء في مستواه الاقتصادي ، والاجتماعي ، والايديولوجي ، والسياسي ، لم يفسح المجال للديمقراطية الحقيقية ، الاّ كهامش يضيق وينعدم وفق شروط الصراع الاجتماعي ، ومستوى الفعالية السياسية فيه ، وهو في محدوديته وبساطة ما يسمح به ، ظل يبدو كهبة سياسية يجود بها النظام الرجعي الكمبرادوري ، البتريمونيالي ، البتريركي ، الاثوقراطي ، الثيوقراطي ، القروسطوي ، الأكثر من استبدادي ، والأكثر من طاغي ، والحگار على احرار وشرفاء الشعب المغربي ، وناهب ثروات الشعب المُفقر ، ومهرب الدولار الى خارج المغرب ... كلما عنَتْ له أهمية ذلك ، دون ان يعني في الموضوع السياسي الجمعي ، مكسبا يشكل حلقة تدعيم المسار الشعبي ، نحو إرساء الديمقراطية في أساسها كممارسة اجتماعية ، اقتصادية ، وسياسية ، فضاعت بذلك حقيقته بين عنف حيفٍ اجتماعي واستبداد سياسي من جهة ، وطموح ثوري راديكالي مشروع في التغيير من جهة ثانية .
فما هي أسس هذا الهامش المسمى ديمقراطي وما هي حدوده ؟
لقد اثبتت التجربة وبكثير من التجلي ، ان مسار الصراع الاجتماعي / السياسي في بلادنا ، تحكمه سمتان بارزتان :
-- الأولى ، اختلال ميزان القوة بشكل كبير لصالح النظام الكمبرادوري ، البتريركي ، الذي يستمد مشروعيته من الله ومن القرآن ، وهو نظام الامارة الذي يعطي للأمام الأمير سلطات استثنائية ، مدعما بالطبقة الهجينة التي تحوم حوله ، وهي المسمات بالبرجوازية العفنة ، لأنه سيكون من قبيل الجرم مقارنتها بالبرجوازية الاوربية .
-- والثانية ، استحالة القضاء على نضال الشعب المغربي الذي يصمد ويتضاعف ، وعلى القوى الحقيقية التي تمثله في نضالها المستميت ، من اجل كسب معركة التغيير ، وتحقيق بعض شروطها .
ان تجلي هاتين السمتين ، يعود في أساسه الى مجموعة من الملابسات التاريخية ، التي لعبت دورها في تثبيت الاختلال ، بان افسحت المجال لنوع من " التوافق الاجتماعي " ( الضمني والغير المباشر ) المحدود في سعته ، ليفتقد لكل مقومات الاستمرارية والاستقرار ، كان النظام فيه طرفا معاديا ولا يزال ، لكل توجه ديمقراطي ، او اية صيغة سياسية تؤكد حق الشعب في حكم نفسه ، من خلال ممارسته السلطة ، وتقنين مساهمته في تسيير شؤونه بنفسه ، بينما سعت القوى الوطنية الديمقراطية الحقيقية كطرف ثان ، الى توسيع دائرة " الوفاق " ، بالاستجابة لمطالب وطموح فئات واسعة من الشعب ، يسندها في ذلك دورها الحاسم والمتميز في معركة الاستقلال ، وكذا مساهمتها الفعالة في إعادة بناء الدولة ، وتحديث دواليبها غداة استقلال " ايكس ليبان " .
واذا كان " الوفاق " في صيغته الشعبية يتنافى والطبيعة الطبقية للفئات الحاكمة ، فانه بالمقابل ، لم يكن في امكان تلك الفئات الاستمرار في ممارسة السلطة ، في غياب تام لأي نوع من " السند الشعبي " ، مهما كان مستواه .
ان هذه الحاجة ، هي التي جعلت " الهامش " ضرورة سياسية ، تكلف النظام الرجعي تنازلا محدودا ، وتكسبه إمكانية تخفيف حدة ازماته، وهذا ما تؤكده كل محاولات الاستغناء والتهميش ، التي سعى من خلالها النظام الرجعي الى الحد من نشاط ، وفعالية القوى الوطنية والتقدمية ، وإلغاء دورها في التعبير عن مصالح الفئات الشعبية ، التي تعاني من كل ويلات الحيف والاستبداد ، وقد اجْلَتْ التجربة ، انّ كل قمع يستهدف استئصال القوى الديمقراطية في البلاد ، يكون له انعكاسه الواضح على الوضع السياسي العام ، ويعرض النظام نفسه الى هزات قوية داخلية ، وعزلة شعبية عميقة ، ناهيك عن العزلة الدولية .
بهذا المعنى يكون " الهامش " في حدوده ، وسياق تشكله ، متنفساً يمَكِّنُ النظام ، في شروط اختلال ميزان القوى ، من الاستمرار في ممارسة السلطوية ، والحفاظ على توازن علاقاتها شكلياً ، الاّ ان سعيه ذلك ، بقدر ما يريده " مبادرة تلقائية " ، تؤكد رغبته في الحوار و " اشراك الجميع " في تحديد وجهة الأمور ، فهولا يعدو ان يصير مكسبا شعبيا يصطدم في نموه ، ومحاولة اتساع مجاله ، بكل اشكال الخنق والحجز ، التي يحاول اعادته ، والإبقاء عليه في مستواه الضيق البسيط .
انّ فهمنا لاطار " الهامش " ، والشروط التي جعلته كذلك ، مكننا من فهم حقيقة الصلة القائمة بين ما يسمح به هذا الحيز من جهة ، وما تعنيه مصلحة الشعب في ممارسة الديمقراطية ، والاخذ بأساليبها من جهة ثانية ، وهو يمدنا كذلك بتصور مستوى الفعل ، الذي تتسع له ظروف اختلال ميزان القوى ، ويسمح بالتقدم خطوات ، في اتجاه تحقيق شروط مُغالبة كل معيقات تطور الممارسة الديمقراطية في المجتمع ، ذلك ما يدفعنا الى التأكيد على ضرورة الاستفادة من اطار " الهامش " ، كمكسب بسيط يسمح بأكثر من إمكانية ، لتوسيع اطار نضال الجماهير ، والرفع من مستوى فعاليتها السياسية ، وتمييز اطاراتها التنظيمية ، في سياق دعم خط ديمقراطي جماهيري ، يعتمد في أساسه على الإمكانيات الفعلية لهذه الجماهير ، سواء على مستوى وعيها لشرط وجودها ، او على مستوى طاقاتها واستعداداتها النضالية ، وهو ما يعني الاخذ بحقيقة الشرط التاريخي الملموس ، الذي قلنا انه يتميز بتخلف مجتمعي عام ، فوّت الغلبة للاستبداد ، وللطغيان ، وابّدَ واقع خنق الحريات ..
ان العمل على أساس ذلك ، لا يستقيم في غياب تصور نظري ، يحدد وجهة الصراع ، وشروط تطوره بمساهمة فعلية وفعالة ، من مجموعة الفئات الشعبية ، صاحبة المصلحة القصوى في إشاعة الديمقراطية ، واعتماد مبادئها في الحياة الاجتماعية ، كما في الاقتصاد والسياسة .
انّ افتقاد هذا التصور النظري في حدوده الواقعية ، هو الذي يرجح استمرارية اختلال موازين القوى ، لصالح النظام البتريركي ، الكمبرادوري ، القرسطوي ، الثيوقراطي ، الاثوقراطي ، الميركانتيلي .. ، على الرغم من كل التضحيات والعطاء النضالي المتجدد ، الذي ميز كفاحية الشعب في سبيل انتزاع حقه في الحرية والعيش الكريم .
وفي اعتقادنا انّ استمرار واقع الحال في حدوده تلك ، والمتميز بتعثر انطلاق صيرورة ارتقاء نضال الشعب ، من مرحلة الدفاع العفوي المتعدد الجبهات ، الى مرحلة الهجوم ومراكمة المكتسبات ، في اتجاه تقويم الاختلال لصالح تحقيق أهدافه ، يعكس عمق الازمة التي مازالت تعاني منها الحركة الجماهيرية وقواها التقدمية ، بصرف النظر عن صِدْق نواياها ، وحقيقة ايمانها بقضايا الشعب ، واندفاعها في الذود عن حقوقها ومكتسباتها .
ان الوقوف على حقيقة هذه الازمة ، وإبراز كل جوانبها ، يعطي إمكانية تخطي واقع العجز والاخفاق ، الذي تتردى فيه حركة النضال الشعبي الجماهيري ، بقدر ما يسمح بتجلي آفاقه ، وهو ما نراه في المسالتين السالفتين .
ثانيا ، الحركة الجماهيرية ومشروع التغيير :
لم تكن كل مشاريع القوى التقدمية الديمقراطية ، ومختلف تصوراتها لمسألة التغيير، من الوضوح والتجلي ، بحيث يمكن معها تحديد كل معالم المجتمع البديل ، في علاقاته الاجتماعية واطاراته السياسية ، وكذا صلته بالمسار التاريخي لواقع التحولات الاجتماعية ، ومستوى الوعي بشروطها .
كما ان هذه القوى ، لم تهتم كبير اهتمام ، بمسألة توضيح مشاريعها وتصوراتها تلك ، بالقدر الذي تأخذ معه بُعْدها التعبوي ، وتقوي من صلة التحام هذه القوى بحركة الجماهير، ومدها بكل أدوات كسب الوعي بشروط وجودها ، وكذا بمستوى الفعل فيه .
وما يبرر غياب هذا الاهتمام ، ويفسر ابعاد حقيقته ، هو طبيعة الرؤية التي اعتمدتها هذه القوى ، في صياغة فهمها لحقيقة الواقع ، وتحديد عناصر تشكله ، ومجمل مكوناته . فهي انْ سعت الى بلورة مشروعها في التغيير ، فإنها لم تصل الى مستوى فهم وتحديد شروطه ، وطبيعة اداته . فكان ان اختزلت كل إمكانيات تحقيق الفعل ، وإنجاز التحول المجتمعي في مختلف مستوياته ، في مسالة السلطة ، والاستيلاء على جهاز الدولة ، كسبيل لتحرير الشعب من قبضة مستغليه ، وتمكينه من العيش في شروط اجتماعية واقتصادية افضل ، يضمنها انجاز مجموعة من المشاريع ، والبرامج الاقتصادية ، والاجتماعية التي تكون جاهزة للتنفيذ .
هكذا تبقى المسألة عالقة ، بين نجاح او فشل الوصول الى الحكم ، والسيطرة على السلطة ، دون ان يكون لكل ذلك أيُّ تأثير في نمو وارتقاء مستوى اسهام الحركة الجماهيرية ، او نضال الشعب في عملية التغيير ، وإرساء اسسه ، وهذا ما يسمح لنا بالقول ، على ان مختلف تصورات الحركة التقدمية المغربية ، صيغت في شروط الصراع ، ومن خارج اطاره في نفس الوقت . أيْ انها حاولت ان تعكس الحاجة الى التغيير ، دون ان تصل الى مستوى بلورة الفعل التاريخي ، الذي يحققه في سياق تطور شروطه ، فضاعت بذلك طبيعة العلاقة التي تميز صلة الحركة الجماهيرية كفعالية تاريخية ، بعملية التغيير ، ومجمل شروط التحول النوعي ، الذي لابد وانْ يتجلى في الواقع كوعي ، واطارات للممارسة .
تلك سمة عامة ميزت مختلف الحركات التقدمية المغربية ، والعربية ، او على مستوى العالم ، اذ كثيرا ما اعتبر الاستيلاء على جهاز الدولة بأسلك الطرق ، بمثابة المقدمة او المدخل لكل تحديث او تنمية للمجتمع . وبصرف النظر عن حمولة الخطاب السياسي الذي يعتمده هذا التوجه ، وما يزخر به من شعارات ، فان اهتمامه الضيق والمحدود بحركة الجماهير، ورؤيته المشوبة بنوع من النفعية لنضالها ، جعلته يساهم في إعاقة تطور فعاليتها ، ويكرس حالة من الريب تنتهي الى النفور، والابتعاد عن كل نشاط سياسي كيفما كان مستواه .
ان الحركة الجماهيرية في فهم هذا التوجه والذي ( لا يزال اليوم سائدا عند بعض التقدميين ) وانقرض عند دعاة البلانكية ، او ثورة الجيش باسم الشعب وباسم الثورة ، او دعاة الثورة الوطنية الديمقراطية بمفهومها الكلاسيكي ، لا تزيد عن كونها قوة ضاغطة يمكن الاستفادة من نضالاتها في تحقيق اهداف سياسية ، دون ما حاجة بها لوعي طبيعة تلك الأهداف ، ولا مدى صلتها المباشرة او غير المباشرة ، بمصلحتها الآنية او التاريخية ، حيث كان التحريض هو النهج المتبع في تعبئة هذه القوة الضاغطة ، والذي لا يجعلها على بيّنة الاّ بما طفا من حقيقة الأمور .
وانْ كنا نبسط هذه الملاحظة على هذا النحو ، فإننا نعتقد ان الاهتمام بنمو وتطور حركة الجماهير ، لا يقف عد حدود تعبئتها لخوض نضالات مطلبية محدودة ، او اللجوء الى اعتماد طاقاتها في كسب مواقع سياسية في الصراع الدائر ، بل انه يتعدى كل ذلك ، الى ضرورة ربط هذه الحركة كوعي وممارسة ، بسياق عملية التغيير ، وتنظيم الفعل فيها ، بما يتناسب وسعة إمكانيات عطائها النضالي ، وقوة اندفاعها فيه ، دون الدفع بالأمور الى حد تفجير معارك تكون فيها الجماهير مكشوفة الظهر ، وتجهل كل ابعادها السياسية .
ان هذا الفهم ينطلق من معاينة لواقع الصراع في بلادنا ، ورصد لمستوى تطوره ، ومدى فعالية اسهام الحركة الجماهيرية فيه ، ويعتمد كخلاصة ، ضرورة تغليب ، وتقوية خط النضال الديمقراطي الجماهيري ، الذي يفسح المجال لانخراط الجماهير في كل مستويات الصراع ، بما يكسبها وعيا بحقيقة شرط وجودها ، ويحول اندفاعها العفوي ، الى فعل واع يقوي من مستوى فعاليتها في عملية التغيير ، وتثبيت مشروع المجتمع الجديد .
ولا يفوتنا ان نؤكد على ان التقدم في اتجاه ذلك ، يقتضي بالأول تجاوز كل المفاهيم والتصورات الضيقة ، التي قادت الجميع الى تكثيف محاولاته في اتجاه بسط هيمنته ، واحكام سيطرته على كل الإطارات الجماهيرية ، وخنق كل إمكانيات الصراع الديمقراطي المفتوح ، بين مختلف مكونات القوى التقدمية . ففي الوقت الذي كان على الجميع ان يعمل على تطوير مجالات ممارسة الديمقراطية ، وتعميق أساليب الاخذ بها ، اعتمد كل طرف نهج التصفية واقصاء الاخر ، ذلك الى حد الملاحقة والحرمان ، من حق التواجد في الكثير من الأحيان ..
ثالثا ، الديمقراطية والعمل الجبهوي :
بصرف النظر عن كل قراءة استراتيجية لتاريخ واقع علاقات القوى التقدمية فيما بينها ، وكذا بسط الحديث في تحديد كل مظاهر السلب فيها ، فان ما يمكن تأكيده بكثير من الضّيم ، هو طابع العداء والتجاهل اللذان اتسمت بهما العلاقات السياسية ، في صفوف القوى التقدمية المغربية ، بمختلف فصائلها وتياراتها ، وهو واقع استحال معه وجود أي شرط من شروط العمل الجبهوي ، او خلق اية إمكانية لتوفير جو صحي للصراع النظري والسياسي ، تتقابل من خلاله مختلف التصورات والبرامج السياسية ، في محاولة لتأكيد حقيقة صلة هذا التصور او ذاك بكل مكونات الواقع ، وتحديد مقتضيات تطوره .
ان هذه السمة التي ميزت العلاقة التي حكمت الصلة بين مختلف مكونات القوى التقدمية المغربية ، فوتت عليها الفرصة كفعالية سياسية تجمعها جملة من المصالح المشتركة ، في تحسين مواقعها السياسية ، وتمتين اطاراتها التنظيمية ، في اتجاه تصليب علاقتها بالجماهير ، والانخراط العضوي في ديناميكية حركتها بما يضمن لها الاستمرارية والتجذر .
كما انها قَادتْها على مستوى آخر ، الى الاسهام في تكريس الوعي المتأخر ، وإعادة انتاج كل عوامل استفحاله كحالة معيقة ، لكل اندفاع واعٍ للحركة الجماهيرية في معركة التغيير وتحقيق التنمية . ولا يكفي هنا التأكيد ثانية على ضرورة تخطي هذه العلاقة ، وكل ما انتجته بالتالي من سلبيات ، بل لا بد من التشديد على أهمية وعي حقيقة تشكلها في خلفياتها التاريخية ، وابعادها النظرية والأيديولوجية .
ان غياب علاقات ديمقراطية بين اطراف القوى التقدمية ، وافْتُقد مظاهرها في صفوف كل طرف على حدة ، وداخل اطاراته ، يتعدى اطار ظاهرة سلبية يسهل تجاوزها ، عند التأكيد من مضاعفات التمادي في إعادة انتاجها ، الى مستوى التعاطي معه كعائق حضاري ، لا يستقيم مع مسار تطور أي كيان اجتماعي ، الاّ باستئصال كل عناصر تشكله . وهذا يقتضي كمدخل للكشف عن حقيقة تشكل هذا العائق ، القيام بنقد الذات ، وتقويم كل المفاهيم ، والتصورات التي سوغت العداء للتعددية الثقافية والسياسية ، على الرغم من كل الادعاءات والتبريرات الأيديولوجية ، الى جانب تعميق التجربة المعرفية ، وتوسيع مجالات تطورها ، وهي كلها مقومات تكتسي أهمية بالغة في صياغة التصور النظري ، الذي يُسْند خط النضال الديمقراطي ، ويجلي حقيقة مساره وابعاد تطوره ، بقدر ما يوسع رؤيتنا ويعمق فهمنا للممارسة الديمقراطية كسلوك سياسي وعلاقات اجتماعية .. الخ .
ان العمل على إيجاد هذه الصياغة النظرية ، يفسح المجال لتجاوز وتخطي كل ما تعاني منه القوى التقدمية الحقيقية ، من تصدع في اطاراتها ، واستفحال الانشقاقات ، والانقسامات ، والتشتت في صفوفها .
لكل ذلك نرى انه لا بد ان يأخذ التطور بعده الاخر ، في ان يبحث في حقيقة التصور العام ، وطبيعة المشروع المجتمعي ككتلة شعبية تاريخية ، يفيدها في تحقيق عملية تطورها ، انتزاع جملة من المكتسبات السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، تقوي منحى الانسجام التام ، وتقوي الوحدة الحقيقية لا الوحدة الانتخابوية ، في مواجهة النظام العصي عن أي تغيير، والذي يواصل سعيه لتكريس حالات العجز والتردي في حمأة مستنقعات الجهل والامية والتخلف ...
اذن السؤال المحور ، يصبح اليوم ، وامام الحقيقة التي عرّى عنها الوحش كورونا بالنسبة للأوضاع بالمغرب ، وامام المرض الحرج للملك ، هل من أحزاب تقدمية وديمقراطية تعج بها ساحة الفعل السياسي في بلادنا ؟
وهنا هل من المستساغ القول بان وضع الحركة السياسية اليوم بالمغرب ، هو شبيه او استمرار للحركة التقدمية التي طبعت العمل السياسي المغربي بشقيه الإيجابي والسلبي منذ ستينات القرن الماضي ، وحتى وفاة الحسن الثاني ، وتولي محمد السادس بعده الملك ؟
اذا كانت الحركة التقدمية المغربية طيلة الستينات والسبعينات ، قد بصمت بصماتها الحارقة العلاقة بينها وبين النظام المخزني ، حيث كان الصراع يدور على الحكم لا على ضفافه ، أي الحكومة ، ورغم الجفاء الذي كان يضرب العلاقة بين مكونات الحركة التقدمية التي ابانت عنه انشقاقات وانسحابات ، مما كان يعطل العمل النضالي لخدمة الشعب والجماهير ، فان الواقع اليوم ومنذ عشرين سنة خلت ، اضحى مختلفا عن الوضع أيام الحسن الثاني ، لان الساحة أضحت فارغة ، والأحزاب التي كانت ترفع التناقض الأساسي مع الحكم ، اصبحت جزءا منه تستظل بمظلته ، وتنعم في فتاته ، ولنا ان نتساءل : اين الاتحاد الاشتراكي من المؤتمر الاستثنائي الى المؤتمر الرابع ؟ وأين حزب التحر والاشتراكية Pls ، وأين منظمة العمل الديمقراطي الشعبي Oadp ، وأين كل تيارات وفصائل اليسار الجديد السبعيني ، وأين المنظمة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب ، ومن حقنا ان نسأل عن الكنفدرالية الديمقراطية للشغل ، وعن الاتحاد المغربي للشغل ... ونوع الجرائد و الإصدارات التي كانت تملئ الفضاء الثقافي السياسي منذ ستينات القرن الماضي ... ونقارن هذا الرصيد الغالي الذي لن يتكرر ، مع واقع الحال اليوم ، حيث لا قياس مع وجود الفراق الشاسع ، في الحقيقية سيكون امراُ محزناً .
فباستثناء الحزبين الرئيسيين في فدرالية اليسار الديمقراطي ، اللذان يتوقان الدخول الى البرلمان ، اذا حصلا على بعض المقاعد البرلمانية ، للعب دور المعارضة الاتحادية في ثمانينات القرن الماضي ، وحزب النهج الديمقراطي الذي فقد بوتقة الاصطفاف ، مرة الى جانب العدل والإحسان ، ومرة الى جانب أحزاب الفدرالية ، فالوضع بالنسبة لهؤلاء لا يبشر بخير ، خاصة وانّ مشاركتهم المقبلة في الانتخابات ، لن تضيف قيمة مضافة للعملية الانتخابوية ، وللديمقراطية الخصوصية التي ينظمها دستور الملك الممنوح ، وتنظمها الامارة والامامة ، المتعارضة مع الديمقراطية بمفهومها الكوني المتعارف عليه دوليا .... فالخيبة التي ستصدمهم بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات ، ستسبب في تشتيت كل أحزاب الفدرالية ، وليعود كل حزب الى دائرته الأولى قبل التنسيق للانتخابات ... وهذا الحاصل القادم ، سيسدد ضربة لهذه الأحزاب ، وسيشكل نقطة سلبية لصالح الجماهير التي ستجد نفسها بعيدة كل البعد عن وجود هيئة ترفع مطالبها ، وتستميت ملتصقة بحقوقها .
ان هذا القادم وهو قادم ، سيزكي الديمقراطية المغشوشة ، وسيطيل عمر الفساد ، وسيساهم بدرجة اكبر في الإحباط الذي يعم الشارع الشعبي ، واكيد سيساهم في القضاء على أي حس جماهيري ، قد يتطور الى نضال حضاري مشروع ، باستعمال تكتيك الهامش الديمقراطي قصد التوعية العامة ، وقصد تثقيف الشعب ، حتى لا يُصْدم الجميع بالمشاريع الانتحارية التي تستفيد من هكذا تناقض في الممارسة السياسية اليومية ، وفي النضال السياسي التقدمي الذي يجب ان يراكم ليوم القفزة النوعية ، التي لن تكون غير دولة ديمقراطية تحتكم الى القانون لا الى الأشخاص ، دولة المؤسسات لا دولة اشخاص ، مع التركيز على مبدأ الفصل بين السلطات حقيقي ، وربط ممارسة المسؤولية والاشتغال بالشأن العام ، بالمحاسبة السياسية ، وبالمحاسبة الجنائية ..
النظام المخزني اليوم رغم انه تقوّى كثيرا وليس قوي ، لأنه وجد الساحة فارغة بعد قتله للأحزاب التي كانت تشكل حاجب وقايته من الاخطار التي كانت تهدده ، اصبح اليوم وجها لوجه ليس مع الأحزاب التقدمية التي تم تخريبها بإضعافها الى مستوى الدونية ، لكنه اصبح وجها لوجه مع تسعين في المائة من الجياع التي ليس لها ما ستخسره ، غير الانتقام من الدولة الظالمة التي افقرت الجميع ، واغنت الأقلية القليلة من المريدين ، والانتقام من كل مظاهر رموز الفخفخة والطاووسية اللعينة ، وعند نزول هؤلاء الى الشارع ، وهم سينزلون انْ حصل فراغ كبير في الحكم ، سيصبح النزول كأمواج تسونامي ستجر كل ما ستجده في طريقها ، ولن ينفع هذه المرة مع القادم لا ملك الفقراء ، ولا المفهوم الجديد للسلطة ، ولا الملك الديمقراطي ، لأن الأكاذيب لم تعد تنطلي على احد .
ونظرا للامية التي تضرب هاته الجحافل ، بفعل سياسات النظام التعليمية الممنهجة في تخريج أفواج من الاميين العاطلين ، ومن خلال قتل المدرسة العمومية ، وافتقار الخدمات الأساسية الاجتماعية التي تحللت منها الدولة المخزنية بالخصخصة اللعينة ، ونظرا للتركيبة النفسية لهاته الحشود التي صقلها النظام بتقاليده المرعية ، وبطقوسه القروسطوية الغريبة ، مرة باسم الدين والامارة ، ومرة باسم المحافظة ، وباسم قيم المجتمع ، ومرة باسم الخضوع للولي الحاكم حتى ان كان جائرا مستبدا وطاغية ، فان استغلال نزول هذه الحشود الى الشارع حيث يغلب على كل تصرفاتها العنف ، من قوى تنتظر وتتربص اليوم المشهود ، لن يكون الحل المرتقب ، غير حل اسلاموي لنظام شمولي سيحتكم الى القرآن والسنة ، فيصبح قطع الاعناق ، وبتر الايدي والاجل ، والجلد ، وتحليل ما يريدون ، وتحريم ما لا يريدون ... من الأساسيات لتنزيل دين الله ، كان ذلك في نظام مغلف برداء الخلاقة ، او باسم جمهورية اسلاموية فاشية تحتكم الى العصور الخوالي ، لا الى العلم والمنطق ، والتحديث الليبرالي الديمقراطي للمؤسسات الدستورية ، وسنصبح نعيش في نظام الحزب الوحيد ، وفي ظل الجماعة الوحيدة . والمجتمع بحكم تركيبته النفسية الملتصقة بالدين ، حتى في مظهره الرجعي النفاقي ، سيقبل متعطشاً وبلهف ، بنظام شمولي باسم الدين ، عوض نظام ديمقراطي يستمد كل قوته من القوانين الإنسانية الوضعية ، ومن التجارب المختلفة للمجتمعات الإنسانية التي دخلت التاريخ من الباب الواسع .. فانتصار هذا النموذج من الحكم في مخيلة العامة ، هو انتصار على المسيحية ، وعلى اليهودية ، وانتصار على إسرائيل ...
اذن هل الحل يكمن في الانتخابوية ، وفي السياسوية ، لصنع الاهرام الشكلية ، والموميات الفارغة من الداخل ، بحيث ان التهديد يطل من فوق السطوح ، ام ان الحل في طرح الإشكاليات السياسية ، وليس السياسوية ، وطرح الانتخابات وليس الانتخابوية ، لفرملة اخطار الفتنة ، وهذا الحل لن يكون الاّ بالانخراط وسط الجماهير لتوعيتها بحقوقها التي تجهلها ، وبدورها في صنع تاريخها ، وبناء مستقبلها ، لأنه بدون وعي جماهيري وشعبي اصيل ، فلا بديل عن الاناركية والفتنوية التي ستدمر الجميع ..
فهل بالساحة السياسية المغربية اليوم ، أحزاب تقدمية على شاكلة الأحزاب التقدمية التي عرفها المغرب منذ استقلال " ايكس ليبان " ، وحتى بداية الثمانينات من القرن الماضي ؟
وهل فهم الجميع الرسالة التي بلغها فوز حزب العدالة والتنمية بما مجموعه 107 مقعدٍ بالبرلمان ، وهو الرقم الذي لم يصله أي حزب منذ انتخابات بداية الستينات ؟
وهل طرح دعاة الانتخابوية في ظل غياب الدستور الديمقراطي ، لماذا جماعة العدل والإحسان وحدها تضفي التمييز على كل المسيرات التي تنظم بمناسبة او بغير مناسبة ، حيث كانت سيدة حركة عشرين فبراير ، وعندما انسحبت منها شُلّت قوة الحركة في الشارع ؟
لا بد من التوعية الشعب بحقوقه ، ومن دون وعي ، فانتظروا مسيرات طوفانية ستحمل شعارات اسلاموية على راسها " لا اله الا الله محمد رسول الله " ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تتطور الأعضاء الجنسية؟ | صحتك بين يديك


.. وزارة الدفاع الأميركية تنفي مسؤوليتها عن تفجير- قاعدة كالسو-




.. تقارير: احتمال انهيار محادثات وقف إطلاق النار في غزة بشكل كا


.. تركيا ومصر تدعوان لوقف إطلاق النار وتؤكدان على رفض تهجير الف




.. اشتباكات بين مقاومين وقوات الاحتلال في مخيم نور شمس بالضفة ا