الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-حصاد وأحلام غير بريئة-

عادل امليلح

2020 / 8 / 6
الادب والفن


يقف سي اللمطي على التل في ظلال شجرة الزيتون فاسحا عن فراسة مبهرة، تنم عن رضا داخلي كبير، وهو يتسلى بلحيته الشقراء ممررا عليها بكفه الأيسر مرارا وتكرارا، بينما يرمي ببصره إلى المنخفض حيث يمتد حقل من القمح إلى حدود الوادي الذي يحد سافلة التل، ويلتف حوله بشكل عجيب، وهناك في أسفل الحقل الشاسع تنتظم تلة من النسوة في صف واحد لا تبرز منهن سوى حركة طفيفة بالكاد يميزها سي اللمطي مع قبعاتهم المصنوعة من الدوم التي تتخللها تكويرات صوفية زاهية الألوان، ومناديل مخططة بالأبيض والأحمر تغطي كتفي العديد منهن، تتصاعد من هناك زغاريد متكررة، مع ألحان معهودة في مثل هذا الطقس.. إنه موسم الحصاد وهذه تويزة سي اللمطي، يتأمل سي اللمطي حقله في سعادة مكتومة، هذه السنة هي سنة العطاء سنة فريدة له ولأهل المدشار، سوف يحقق بعضا من أحلامه التي راودته حديثا، وفي نفسه يردد قائلا:
- اذا كان سعر القمح جيدا في السوق كما كان في السنة الماضية، فلا ريب أن ذلك سيكون كافيا لاقتناء شقة بالمدينة، طبعا بعد الزواج من سيدة المحاسن "نرمين" ..
فهو يرى أن زوجته الحالية "مديحة" قد هرمت وفقدت بريقها المعتاد في عينه وقلبه، فقد ركبت التجاعيد وجهها واشتعل رأسها شيبا، وانحنى ظهرها ونحل بدنها.. ولطالما يردد: مديحة للدار والأبناء، وليست بقادرة على أن تروي عطشه النهم
مثل نرمين التي تشتغل في حانة المدينة، يفكر سي اللمطي في الزواج منها، وقد وعدها بذلك سرا.. على الرغم من أنها تصغره بعقدين من الزمن.. يتيه في ملامحها الشبابية وجسدها الندي، ووجهها الفضي الدائري وعينيها البياضتين.. ناسيا ما يقف في صدده.. في هذه اللحظة يقبل الشيخ والفقيه عليه..
ينطلق الفقيه كعادته مفشيا السلام:
- أهلا بسي اللمطي!!
ولتوه لم يرد..
ثم يتغامز مع االشيخ ويعيد بصوت جهوري:
اهيا سي اللمطي؟؟
يستدير هذا الأخير مقاطعا سهوه. وشروده.. ونشوة المقادير التي تعانق ذهنه في سخاوة، يرد بسرعة:
- وعليكم السلام..
ماذا دهاك؟ يقول الشيخ
فقط كنت متنزها في الحقل..
أهي لالة زهور!!
يطلقها الشيخ ثم يلتفت إلى الفقيه..
ينم الفقيه عن ابتسامة ماكرة يعلم سي اللمطي دلالاتها جيدا كيف لا والفقيه صاحبه وجالسه ليل نهار في المسجد وفي غير المسجد.. وكذلك يرد سي اللمطي.. مقهقها.. ثم يطلب منهم السير إلى ظلال شجرة التين الورافة حيث ينبسط حصير ومجمار طيني لإعداد الشاي.. يجلس الثلاثة وبعد أن يملأ لهم سي اللمطي كؤوس الشاي.. يشرع الثلاثة في الحديث عن خيرات هذه السنة، وسي اللمطي يعد أكثر الناس غلة ووفرة خلال هذه الفترة نظرا لما حرث من أراضي، وكذلك لأن بذور قمحه هي بذور الفلاحة "وزارة الفلاحة"..
يصارحه الفقيه: هذه السنة سيبقى قمحك مشتتا في الخوالي وستكسر الخبز للناس أجمعين، لن يجوع أو يخيب ظن الذين سيطرقون بابك، وهنا يمهد الفقيه لمراده، فلا بد أن ينال قسطا من قمح سي اللمطي، ونصيب الفقيه ليس كنصيب الناس العاديين، فما يليق بشرفه كثير مما يعطى للأخرين، ولا أحد هنا يشك في العطايا التي تعطى للفقيه سوى بعض الشباب، الذين يستنكرون نهم الفقيه عندما يلزم الأسر باحضار وجبات يومية مكونة من ديك بلدي..
نحمد الله ونشكره، ما رأيت مثل هذه السنة عطاء ولا مدرارا..
ينطق الشيخ:
- الحق عليك سي اللمطي ستنظم لنا زردة إن شاء الله
-زردتان أسي شيخ..
وستحضر لالة زهور لتطبخ لنا على جهتين، أكاد أجزم أن لا أحد يمكن أن يمنح اللحم لذة غيرها في العالم كله..
- وهل للزردة صفة وحلاوة بدون لالة زهور؟ يقول سي اللمطي.
لالة زهور امرأة أرملة، في الاربعينيات من عمرها، إنها نجمة الدوار ببشرتها البيضاء وجسدها المكتنز وابتسامتها التي تعكس سجية امرأة تطابق ذاتها، وهي بذلك تجذب شهية الكثير من رجال المدشار وشبابه، فلا تغيب في مجالسهم ولا في فكهاتهم ومستملحاتهم.. وهي أيضا حاضرة في أحلامهم.. وعلى الرغم من أنها تمثل روح التضامن والعمل المشترك في المدشار، حيث لا تتردد في مساعدة نساء المدشار سواء في الحصاد أو غير ذلك من الأشغال.. فهي ماهرة وتعد طباخة المدشار، بل قد تطبخ في مداشير أخرى في الحفالات والمواسم.. لقد كانت متزوجة من "حمو" الذي كان يشتغل في مطعم عريق بمدينة الدار البيضاء، وهناك تعلمت الطبخ جيدا، لكن لسؤ حضها توفي زوجها إثر حادثة سير تاركا لها فتاة تدعى "سمية" إبنتها الوحيدة.. وعلى الرغم من ذلك تدور الشائعات بين النساء والرجال.. فزهور الجميلة والضاحكة تخفي خلفها ما تمقت عليه، وتكرهها النساء هنا بمقت فبعضهن يخاف أن يمتد زوجها إليها، والكثير يحسدونها لجمالها، وما يدور من حولها حول تهافت رجال المدشار عليها.. ورغم ذلك فلا أحد منهم استطاع أن يصارحها بالأمر علنا، فكلهن ينادونها "بأختي زهور" في حضرتها، و امرأة الخلاء أو السائبة في غيابها.. تعلم أن هناك اشعات تحيط حولها لكنها لا تهتم أو تعتقد أن ذلك مجرد هم لا غير..
الذين يعلمون يقينا حقيقة لالة زهور هما الثلاثة اللمطي والشيخ والفقيه، فهم كلهم يعلمون علاقة الشيخ بها.. وهو ما ينفك يحكي لهم في زهو عن مغامراته معها.. في التلة المحادية للمسجد، وفي منزلها.. وفي حقول الفول والقمح.. يقول سي شيخ: متباهيا بفحولة رجل تمتزج فيها السلطة بالزهو.. طلبت منها مرارا أن تتزوجني لكنها رفضت..
يسأل اللمطي: ولماذا ترفضك؟؟
قالت: إنها تخشى على ابنتها..
للنساء في الحقل حديث أخر، فهن تتبارين في "تعياع" و الزغاريد.. ولا أحد يستطيع أن يتحدى لالة رحمة، عجوز في عقدها السابع، ورغم ذلك تحفظ الكثير من الأهازيج ولها صوت صادح يرتد صداه في الأصقاع، وعندما تستفسر حول هذه الروح الغناء تجيب في حنو:
- كم زرنا سيدي زرواط، وسيدي عبد السلام بالمشيش، ومولاي عمران الأندلسي.. ففي كل مرة كنا نسير في الطريق، نتبارى في التعياع والزغاريد.. اه على الأيام الجميلة أيام العطاء والخير!!
كنت فخر أمي رحمها الله أمام كل النسوة الزائرات والمصاحبات لنا، سواء من المداشير الأخرى أو من مدشرنا.. آنئذ كان لي الجهد لأسمع من في السموات والأرض.
ولكن عندما يكبر الإنسان يبدأ في خسارة قواه، وعنفوان شبابه..
هنا ترد عليها أحدهن:
-لاواه !! للالة رحمة ما تزال فيك روح امرأة عازبة وسيزيد الله في عمرك..
تشعر لالة رحمة بالفخر وهي تسمع مثل هذا الإطراء وينتابها شبه اعتزاز داخلي افتقدته لعقود.. وأما لالة زهور فهي معتادة الحديث عن محاسن مدينة الدار البيضاء ووصفات الطبخ، وخصال وفضال امرأة المدينة، بكل ما يحمله ذلك من رمزية ودلالة عند الناس هنا في المدشار.. وعندما تتحدث يخشع لها الجميع، في صمت وانتباه.. فالمدينة في قلب كل إنسان هنا، ولكن الفاقة هي التي تحول دون ذلك.. إن القرية ليست سوى خيار الأقلية أولئك الذين يستنفعون منها بحق، ويرتبطون بها بعمق، إذ اعتادوا رائحة التراب. أما الباقي فلولا سلطة الفقر وقلة اليد والحيلة لكانوا جميعا هناك في المدينة، حيث يمتد مخيال النساء مختلطا بين المشاهد التلفزيونية وما يحكى لهن.. وإن كانت لالة زهور تبالغ أحيانا عندما تحكي عن راحة نساء المدينة واقتصارهن على اشغال المنزل، وتمتعهن بالبحر والاسواق الكبرى، فلا أحد يشك في ذلك.. فكل ما تقوله حقيقي باستثناء موقعها هي داخل القصة، القليلات منهن زرن المدينة، لكن قلة من تمتع بفرصها، فالكثير يجد نفسه فاقدا لقيمته غريبا عن مجاله، فالمرأة القروية تريد أن ينتبه لها الجميع، خاصة بني جلدتها، أما في المدينة فهي لا تلقى هذه الميزة، مما يشكل لها نقصا كبيرا وتضطر إلى اعادة قراءة ذاتها..
أما سي اللمطي فما ينفك يتحدث عن لالة زهور منبها الفقيه قائلا:
لقد ارتكب سيدي الشيخ ذنبا.. عقابه الجلد..
يرد الفقيه ومن يجلد المخزن؟؟
إنه مجرد ذنب والله يغفر الذنوب..
أما الشيخ فيرتشف كوب شاي ويدخن نثرات من غليونه.. يتصفح وجه اللمطي جيدا، ويرد عليه مبتسما:
لالة زهور تستحق السلخ، وليس الجلد فقط.. تلك المرأة لا تنسى أبدا.. إنها تتستحق أن يهلك الإنسان حتى.. ولو قبلت أن تتزوجني لتزوجتها الآن قبل الغد.. فالشرع اعطى أربعة، يقول هذا وهو يدرك أنه يثير حنق كل منهما..
يقهقه الإثنان معا، ثم يرد اللمطي..
الظاهر أنها سحرت لك أليس كذلك سي الفقيه؟؟ ما نوع أهل المكان الذين يسكنون سيدي الشيخ..
يرد الفقيه:
- سيدي شيخ لازال رجلا شابا في أوج عطائه ولحسن حظه ذاق من روض من رياض الجنة، حور عين المدشار، تماما كما تذوق أنت حور عين المدينة..
يضحك الجميع.. فكذلك الفقيه له إجرامه وذنوبه مع بعض نسوة المدشار.. ولكن هنا تبقى لالة زهور المثال والمعيار الأعلى الذي يخلد في نفس كل طامح.. فما تثيره امرأة المدينة في نفوس القرويين لا يدريه أحد، إنها مثل التسونامي الذي يتخطى الجبال المنيعة مخلفا دمارا رهيبا في نفوس المحرومين..
وما إن يتم الحصاد حتى يجمع سي اللمطي شباب المدشار ورجالها لكي يساعدوه في نقل المحاصيل إلى "الناذر" إذ ينتهي دور النساء ويبدأ دور الرجال.. تصطف صفوف من البغال والحمير متفرقة في الحقل.. ليحمل عليها حزما كبيرة من القمح.. يتم شدها ثم حملها والتوجه بها نحو الناذر. المكان الذي يجمع فيه سي اللمطي حصاده السنوي.. وهنا تدور أحد أكبر ملاحم موسم الحصاد، حيث يسعى الرجال إلى ابراز عضلاتهم.. فالتويزة ليست مجرد تجمع تعاوني، ولكن مرحلة حاسمة في التأريخ للحضوة والقدرة.. فالبعض يشفع له تاريخه المجيد وبغله السمين.. والبعض سيبدأ مجده من هنا.. وهكذا يصبح حجم الحزم وإيصالها للناذر بسردعة دون إسقاطها في الطريق، أحد أهم المعايير للفصل والتقييم.. وغالبا ما تؤول الكفة للرجال الذين لهم ممارسة طويلة في المجال.. لذلك ينشأ نوع من الصراع بين الأجيال.. إذ يتهم الرجال الشباب بالضعف وفقدان الشهامة.. ويتهم الشباب الرجال بالجهل وقتل النفس دون داع.. فليست الفائدة في حجم الحزمة أو اسقاطها، وإنما في بذل أقل جهد ممكن لنقل القمح.. وما ينفك هذا الصراع إلا أن يملأ الحياة القروية برمتها.. فها هو "أسامة الريحاني" يدخل في جدال مع "الناصر" الذي يعتبر أحد أعمدة ((تَّمَارة)) في المدشار..
يقول الناصر: لقد أصبح الشباب كالديك الرومي.. يأكل ويتغوط فقط.. ولا جهد له حتى على اطعام نفسه والكفاح في سبيل رغد العيش ومشقة الحياة..
إيه على شبابنا نحن، وقوة الذراع.. إيه على قسوة الأجداد والأباء.. إيه على الأيام التي كنا نعمل فيها من الفجر إلى العصر.. يقول الناصر في تحسر: تكاد تقفز الدموع من عينيه الغارقتين في وجه جامد يحكي في صفحاته علاقة الإنسان هنا بمجاله.. وكفاحه عبر الزمن..
يرد عليه أسامة الريحاني:
- لم تكونوا شيئا.. كنتم تعيشون عيشة البهائم.. ماذا حققتم من كل ذلك؟؟
حتى الأن أراك ما تزال كما كنت.. ما تزال زير حقول.. ومتعبد الفؤوس.. ماذا تغيير آعمي ناصر؟
- لو لم يكن الأمر كذلك لما درست أنت.. أتنكر أن هذه الحرفة الموروثة أبا عن جد هي التي جعلتك رجلا وأبلغتك ما بلغت؟ فكبرت لحيتك.. وعلا كعبك ثم بدأت في التكبر علينا.. هل نسيت عرق أبيك وأخيك "حماد" هل نسيت ما بذلته أمك في رعي الغنم وقضاء أوقات طويلة في بيت الطبيخ وجلب الحطب من أصقاع الجبال والتلال؟؟
ثم ماذا قدمتم أنتم غير اللغط وكثرت الكلام؟؟ كم عدد قطرات العرق التي سالت من جباهكم؟ وهل جربتم حر الشمس وا
برد الشتاء؟ هل عانيتم أي شيء؟ لاتقدمون لنا غير الكلام واللغط.. قل لذلك أن يطعمك الخبز ويسد رمق جوعك.. ثم ماذا احضرتم من هذه المدينة غير سراويل متقطعة ورؤوس مجنحة وملابس فاضحة.. ولو كنتم رجالا لما عدتم إلى هنا، فأنتم تدركون فضائل المدينة وتقدمها.. فلماذا عدتم إلى المدشار وأنتم تكنّون له ولأهله كل هذا الحقد والتنقيص؟؟
هذا هو سلاح الأجداد الكلام. هنا مهما كان جميلا مهما كانت علميته لا يصنع أي فرق.. وهنا يجمد الريحاني الذي لا يجد أي جواب أمام واقعية إنسان حكته السنوات ورصرصت ملامحه، وأكسبته نظرة نافذة لمعيشه اليومي.. لكنه يواصل قائلا:
لو كانت الأمور بيدي لرأيت الفرق.. اعلموا أن عملكم هذا مصيره الزوال والانقراض.. انظروا من حولكم من اخترع هذه الطريقة في نقل القمح؟ المحراث من أتى به اليكم؟ للآلاف السنين وأنتم تعيشون بنفس الأدوات وبنفس الطريقة، ألا تلاحظون أن الأشياء تتغير بوثيرة سريعة جدا؟ لاحظوا كيف طور الغرب أنفسهم صنعوا الجرار ومواكن الحصاد وكل شيء جعلوه آليا يسير لوحده.. انظروا كم ينتجون وكيف ينتجون.. بينما لسنوات وأنتم تعيشون تحت رحمة السماء تقضون أيامكم في الشقاء وتمضون الليل بطوله في الدعاء.. تنتظرون المطر متطاوليين بأعناقكم إلى الأعلى.. هذا عقاب وليس عمل.. هذا هو العذاب.. عندما لا تكون هناك نتيجة واضحة بين الجهد المبذول والنتيجة المرجوة..
وهنا يقفز "الخبزي" .. هذا شرك والعياد بالله.. نحن لنا الله.. وعندما لا يرحمك الله لن تفلح أبدا مهما صنعت وتطورت..
- ولكن لنكن واقعيين مع أنفسنا.. لماذا هم يفلحون ونحن لا، على الرغم من أننا أكثر دعاء وأكثر ارتباطا بأولياء الله والصالحين؟
- هم لهم الدنيا ونحن الآخرة..
يطول النقاش.. ويتصاعد الصياح، ويكاد الأمر يتحول لمشادات.. حتى إن بعض الرجال ينتفضون ويعتبرون أن العمل مع الشباب ينتهي بتبديد الوقت وسلب العمل حلاوته.. لذلك يقسم بعضهم ألا يعمل إلى جانبهم في المرة القادمة.
ورغم ذلك تاتي الأوقات التي يضطرون فيها إلى التنازل أمام الشباب عندما يتعلق الأمر بقراءة رسالة أو وثيقة أو كتابة شيء ما..
تتراس الحزم في الناذر.. مئات ومئات الحزم من القمح والشعير والفول.. صبائب كالجبال.. وفي رمشة عين أصبح اللمطي مضرب المثل في غلة السنة.. وكذلك أصبح موضع حسد وضغن من طرف البعض. أولئك الذين لا غرض لهم غير رؤية الكل مثلهم، يتربصون بالصاعدين الجدد ويكنون لهم حقدا كبيرا، ويتمنون من صميم قلوبهم أن تحدث لمن يحقدون عليهم بلوة، وإذا ما حدثت كانوا الأول من ينعاهم ويرثيهم، ولعل الشيخ أولهم.. لذلك يعي سي اللمطي جيدا المخاطر التي قد تهدد محصوله ورزقه، وإن حدث شيء سيتحول في لحظة من قدوة إلى موضع شفقة من طرف الأعداء(سيبرد اكبادا ويبكي بواكيا) فالبعض يعرفهم والبعض الأخر يعرفون أنفسهم، ولهذا يكلف إبنه سعيد بحراسة الناذر.. لربما أقدم أحد الحاقدين على اضرام النار في المحصول ويذهب كل شيء هباء..
تحين لحظة درس المحصول.. حيث إستقدم سي اللمطي مكينتين للدرس.. وهي سابقة في تاريخ المدشار والأدهى أن الدرس استغرق قرابة تسع ساعات.. تراست أمامه المئات من أكياس القمح والفول.. وذاع صيته حتى في باقي المداشر الأخرى.. حيث تجند الفقراء لجمع الأعشار والصدقات.. لذلك كان اللمطي مستعدا للوفود التي بدأت تتهاطل عليه.. لكنه كان شحيحا في عطياه وإن أعطى لكل سائل باستثناء للالة زهور الأرملة التي قدم لها سي اللمطي قنطارين من القمح وقنطارا من الفول وسي الفقيه الذي أخذ نصيبا أكبر..
وهنا تحين لحظة الحقيقة "الزردة" إذ سيقدم ذبيحة ويعد العدة لليلة زاهية رفقة الشيخ والفقيه وبعض رجال المدشار.. فتطلب زوجته المساعدة من لالة زهور وبعض النسوة الأخريات.. وتنطلق الاستعدادات من طهي وطبخ وتجهيز وغيرها.. أما مجمع الرجال فتنتظم فيه جوقة المدشار التي يقودها "القاض بوعلامة".. وينخرط في ترديد مقاطع شعبية تجعل الجميع يرقص باستثناء الفقيه الذي يتوخى الحذر.. وإن كان ما في داخله عكس ما يبديه.
تشكل هذه الطقوس الاحتفالية فرصا لتمرير النفوذ والامتياز.. فاللمطي يشعر بالفخر ويعلن عن ذلك من خلال ملمح وجهه الملتحي.. وعمامته الحريرية الجديدة.. فلا حديث في المدشار غير الحديث عنه وعن محصوله وزردته.. لقد امتلأ منزله بأكياس القمح.. ويتركه في وسط المنزل بمحاذاة المدخل ليكون في مرمى الزائريين والناظريين.. فالمراد والكمال في اشعال الغيض في قلوب البعض.. فلا أحد هنا ينظر بعين الرضا إلى هذه الخيرات.. ولا أشد حديثا من النساء التي تستغل الموضوع ويبالغن في الحديث عن سي اللمطي رجل السنة ورمز الفلاحة.. ورجاء البعض ومطمح البعض الأخر.. ويستدل من خلال ذلك على عطاء الأرض وامكانية تحقيق ما هو أبعد.. فالبعض يجد عزائه وتعويضه النفسي في الماضي عندما يعتبر أنه عاش مثل هذه الفترات في السابق.. والبعض ينمي نفسه بأن يكون هو طرف اللسان في السنة المقبلة.. لذلك سيظهر ذلك عندما يعمد بعض رموز القرية إلى توسيع حرث استغلالياتهم وانفاق الكثير من أموالهم في شراء بذور الفلاحة..
في المنزل تنبعث قهقهات الرجال متبادلة بعض الطرائف المتبادلة بأنغام الجوقة.. وفي مقروبة من باب الغرفة يفترش "سي التامي" بطانية صوفية يعد الشاي باعتباره قدوة في ذلك.. فشايه يضرب له المثل والأفضلية.. وقد تعود على دوره المجاني هذا ويجد فيه فخره واعتزازه فهو يبقيه على مقروبة من الصفوة، وحديث رجال المدشار.. فيشحن الكؤوس التي لا تحل الجلسة الا بارتشافات منها وتبادلها بدخان السجائر تارة وبدخان الغليون عند البعض..
أما لالة زهور فَبخِفّة يدها وحيويتها المعهودة ودقتها في الممارسة، تفتنّ في اعداد أطباق الكسكس والدجاج المحمر واللحم بالبرقوق الذي يسيل لعاب الحضور.. البعض لا يأكل مجرد لحم وإنما لحم من يد لالة زهور بكل ما يعني ذلك من أهمية وقيمة عند البعض.. خاصة أولئك الذين تملأ لالة زهور جزءا من عيونهم..
ولتكتمل دورة القدر.. ترتفع أثمنة القمح بشكل غير معهود في السوق، فيكون سي اللمطي قد حقق حلمه وأصبح الأن بامكانه أن يقتني شقة بالمدينة.. وليحقق هدفه المنشود مع نرمين فارسة خياله وعقله، تغتاله في كل لحظة وحين، وهنا يسها في شبقها السحري.. في عينيها الفياضتان ووجهها المدهون واردافها النازلة.. في لحظاتها الفريدة وكلماتها الدانية بما تلقيه في النفس من سكون وجنون.. بما تحركه من أحاسيس فياضة لم يعهد لسي اللمطي بها.. فنجاحه هذا لا معنى له من دونها، فهي الخميرة التي تعطي للخبز مداقه وشكله.. ألا يستحق الأمر المحاولة والتضحية في سبيل اعادة استنباث حياة جديدة لم يكن يعي أنه يمكن له أن يعيشها قبل.. هنا يردد مع نفسه قائلا:
- إن نرمين هي جنتي هي خلاصي.. وتعويض كل ما فاتني.. معها أشعر أنني أكثر فتوة وشبابا.. معها أشعر بالحياة والأمل في المزيد.. ألا يحتاج الأمر لتضحية في سبيل هذا الملك الذي أرسله الله؟ وأنا ساتزوجها على سنة الله ورسوله.. وسيغفر لي ما سبق..
ثم ما ينفك يتذكر ملامح زوجته مديحة وأبنائه الخمسة فتبدوا له، بعيدة بعيدة أمام هذا المحيط الجديد..

ومع حر الصيف الذي يكتنف المدشار ويبطل كل حيوية ويدفع الناس نحو الخمول والكسل.. فإنه أيضا يحيي تلك الرغبات الدفينة في كيان كل من الشيخ ولالة زهور.. فلا يعود للشيخ شغلا شاغلا غيرها ويتربصها لينفرد بها..
كان ذلك يوم السبت عندما استيقظت لالة زهور باكرا وسارت لجلب الحطب.. فما كان من الشيخ سوى أن تبعها.. ليكون اللقاء قرب الوادي حيث تمتد حقول القصب الكثيفة.. وما إن تراه تتظاهر بعدم الاهتمام.. ورويدا رويدا يتم اللقاء المحموم.. لاخماد نران الانتظار، عطش الصيف.. لكن للمصادفة أن شابا اكتشف أمرهما.. وعرف بشأنهما.. لذا هدده الشيخ قائلا:
- إذا تجرأت وأفشيت ما رأيت لأحد ما فإنك ستدفع الثمن غاليا.. لن يمر عليك الدهر في أمان أنت وعائلتك.. لعلك تعرف الشيخ عبدول.. ومن لا يعرفه..
كن رجلا يا ابني وانس ما رأيت.. وإني أعهدك شابا ناضجا..
- لست طفلا سيدي شيخ سرك في بئر عميق..
أما زهور فيعتمرها الخوف من الفضيحة.. ويمتليء محجر عينيها بالدموع وتحس بدوار شديد يهز رأسها وندم عميق فيما أقدمت عليه من فعل..
وعندما يسير الشاب، يعود الشيخ متلهفا إليها لكنها ترفض.. يحاول تهديئتها.. إلا أنها ترفع منديلها وتسير بسرعة عائدة إلى منزلها.. إنها كارثة بالنسبة لها.. ورغم كل الوعود ينتقل الخبر بين بعض الشباب.. فالبعض تتحقق شكوكه والبعض الآخر يتأكد من إمكانية الفوز بلالة زهور من خلال تهديدها بإفشاء السير والفضيحة، بينما لا يستطيع أحد أن يتجرأ على الشيخ لما له من أبناء أقوياء البنية شداد لا يرحمون من يحاول أذية أسرتهم.. وعندما انتهى الخبر إلى الشيخ.. فما كان منه إلا أن دبر مكيدة للشاب.. إذ جعل حزمة من المخدرات في حقيبته لما كان مسافرا، وأبلغ عنه.. وتم محاكمته بسنتين سجنا نافذا.. وأما الباقي ممن يعرف السر فهم الرسالة واضطروا لإغلاق أفواههم ودفن سرهم، بل إن البعض لشدة خوفه من المخزن والسجن سيضطر لنسيان ما يعرفه وحتى ما عرفه.. وهنا سيضرب الشيخ ضربته إذ ستستسلم لالة زهور خوفا من الفضيحة بعدما صعب عليها مقاومة شكوكها، ويعقد عليها.. ولكن لم يمض الوقت طويلا حتى طلقها.. وهذا كان كافيا لتدني صمعتها في المدشار إلى الحضيض، فقد بدأت النساء في التهرب منها، ولم يعد أحدا يدعوها لمساعدته، بل إن البعض ممن كانوا صديقاتها لم يعودوا حتى يفشين السلام عليها.. وتنكرن لكل شيء في لحظة، فقد اتهمت بكل أنواع التهم بما قامت به وبما لم تقوم به، فحتى الشيطان يصبح أكثر عفة، وكذا أصبحت حديث سوء لكل لسان.. فهناك من اتهمها بالطمع وهناك من اتهمها بالسحر.. وكل حسب زعمه وهواه.. فما كان منها سوى أن حزمت أمتعتها وعادت لمدينة الدار البيضاء.. لتعمل طاهية في أحد الفنادق.. وأقسمت ألا تعود لذلك المدشار أبدا.
أما سي اللمطي فقد ابتاع منزلا جديدا وتزوج معشوقته نرمين.. لكنها سرعان ما فرضت هيبتها عليه.. وكسرت رجولته وخشونته البدوية.. فامتصت كل معانيه، وتعلق بها كثيرا.. ليتطور الأمر إلى جعل الشقة في اسمها.. معتقدا أن ذلك سيحل مشكلته، لكن سرعان ما تنكرت له وطردته من المنزل.. فهاهنا تلتقي خديعة المدينة ونية البداوة، فتنتصر الأولى على الثانية.. مالا يدركه أو مالم يكن يدركه سي اللمطي أن نرمين عيونها أكبر بكثير من أكياس قمحه وأحلامه العفوية والبسيطة.. فذات يوم عاد على سجيته، دخل منزله سلم على زوجته الجديدة:
- أهلا بحبيبة القلب
- اهلا برجل الدار..
لم يعتاد منها مثل هذه التحية أبدا، ورغم ذلك تغاضاها
ولكنها وقفت وقالت:
- أين كنت حتى الأن، لماذا تأخرت؟؟
ابتسم لها.. فهو كان يتأخر أكثر من هذا!!
ثم أضافت:
- أيها الشيْخ الهرم سألتك!!
وهنا التفت سي اللمطي مستغربا ومستفسرا:
- نرمين!! ما هذا الكلام؟ ماذا بك ماذا دهاك؟ هل لديك مشكلة ما؟ أخبرني لم أتعود منك مثل هذا الكلام فيما مضى..
فما كان منها سوى أنها قهقهت مستهزئة منه: أسيدي!! يجب عليك أن تبدأ في التعود على مثل هذا من هنا إلى الأمام..
وهنا بدأت ثائرة سي اللمطي تثور، إذ لم يعد بمقدوره تمالك أعصابه بالبتة، وتحركت فيه عواصف الإنسان القروي الخشن، الذي قد يسمح بكل شيء إلا أن تمس كرامته..
أما هي فكانت تصطنع المشكلات.. وحققت مرادها عندما دفعت سي اللمطي إلى صفعها.. وهنا مباشرة تضخمت المشكلة وطلبت منه الطلاق مباشرة ومغادرة منزلها..
إلى هنا أدرك سي اللمطي حقيقة أمره وتذكر ما سمعه يوما على نساء متحايلات على الرجال في المدينة.. عض على شفتيه وأمسك بلحيته بقوة، إنها سذاجة، وشعر بنفسه يغرق، تبتلعه الأرض بدون رحمة، فسقط مغشيا عليه..
ولم تكتمل دائرة العراء بالنسبة للسي اللمطي إلا عندما خسر القضية في المحكمة، ولم يفقد داره وحسب، وإنما فقد كل ثروته، فقد اضطر لبيع بعضا من أرضه بالمدشار ليتخطى كارثة سجنه...
وعلى الرغم من تحفظه المستمر ومحاولته اخفاء الموضوع، فسرعان ما تتبعه أهل المدشار وعرفوا سره، عندما تساءل بعض الناس عن دواعي بيع سي اللمطي لأرضه، وهو لتوه حصد حصادا يعيله لعشر سنوات متواصلة، وذاعت فضيحته وتخلى عنه الجميع باستثناء زوجته مديحة.. التي
لم تتوقع في حياتها صدمة خيانة السي اللمطي لها.. وعلى الرغم من الاحتمالات فهي كانت تستبعد فعله هذا، تقبلت اللمطي بتناقضاته بعطفه وثورانه، لكنه كان رجلا، لم يشعرها بالحاجة يوما، ولم يتركها للعراء يوما، ففي البداية ضاق بها الحال واعتبرت ذلك ذنبا لا يغتفر، خاصة مع ضغط بعض جراتها، الذين لا غرض لهن سوى فصم عروة أسرتها وتفتيت شملها، فقد اشعروها بالدونية وسودوا مصيرها.. لكنها كتمت غيظها وتعقلت كامرأة حكيمة، تذكرت اللمطي في شبابه بروحه المرحة، وحبه الخشن، تذكرت يوم زفافها.. زوجها وأب ابنائها.. ونظرت إلى نفسها، ثم تساءلت:
- ماذا ياترى أكون بدون اللمطي؟؟
تأملته ورأت كيف أصبح ضعيفا.. كيف تخلى عنه الجميع بهذه السرعة، خاصة أولئك الذين كان يعتقد أنهم أصدقائه، ويمكن أن يحتمي بهم من غوائل الزمان.. وها هم أول من يتركه، الففيه والشيخ على رأس القائمة، فقد أصبح مجرد اللمطي العجوز، الذي تبع الهوى فكسره، إنها لعبة النساء.. فهمت لالة مديحة ضعفه.. كيف لا وهي المرأة التي جعلته قويا ورفعت شأنه في المدشار بين أقرانه بعدما لم يكن يملك أي شيء في البداية.. كان يتيما يرعى الغنم مع أهل المدشار.. ويشتغل لسنوات من حياته مياوما لا غير، هكذا وجدته منغمسا في الذل والاستغلال ورفعت رأسه من الوحل.. فجعلته من رجال المدشار الذي يعمل برأيه ويسمع صوته ويستشار.. ورغم ذلك جازاها بهذه الطريقة، بهذه الخطيئة.. سيفهم بدوره هو هذا، عندما عاد وألقى برأسه على حضنها.. وسار في بكاء شديد كطفل صغير، طالبا منها الصفح والغفران، وهو ما لا يمكن أن تحضى به امرأة هنا، فبعضهن يتم خيانتهن بعلمهم وإن فتحن أفواههن كسرت أسنانهن.. ولنباهته سيدرك سي اللمطي حقيقته، جوهره، قيمته، وأقسم لها قاطعا أن يعوض كل شيء، وأن يجعلها سيدة أقرانها..
بعد ثلاث سنوات انبعث سي اللمطي من رماده وأعاد القدر دورته مرة ثانية.. لكن سي اللمطي فكر مرتين هذه المرة، فأول ما أقدم عليه اعادة ابنين له لمتابعة دراستهم.. وفتح دكان لابنه البكر في المدينة... بعدما تمكن من بناء منزل من ثلاثة طوابق.. أما هو فقد اشترى شاحنة وسار يمارس التجارة في الأسواق الأسبوعية.. وهكذا رفع شأنه بين الناس وسار سيد المدشار.. ولكن سار أكثر حذرا ويتعامل مع الناس بالمصلحة...
فقد تعلم سي اللمطي أن لا شيء يستحق غير أسرته، فالرجل الذي لا يهتم بعائلته لا يستحق أن يكون رجلا.. فزار وزوجه مديحة الديار المقدسة مرتين، وأسكنها المدينة واهتم بها كما لم يفعل في عزة شبابه، وعند ذاك فهم اللمطي السير الجوهري للحياة، يحتاج الإنسان عندما يكبر إلى أشياء تتجاوز الجسد بكثير، ولا تعود خدوش الزمن فيه ذات أهمية.. وأدرك أن المدشار لا يرحم الضعفاء بل يقصيهم إلى الهامش..
ولكن عندما يعاني الإنسان القروي ويهان في كرامته وشرفه ويستيقظ، تحدث الأشياء العظيمة.. ولكن قلة من يفعلون ذلك..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا