الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة 15

محمود شقير

2020 / 8 / 7
الادب والفن


كانت زيارة مسجدي الصخرة والحرم مع الأهل في غاية الأهمية بالنسبة لي.
أذهب أحياناً مع أمي. يدفعني الارتفاع الشاهق لقبة الصخرة إلى مزيد من التحديق في الآيات القرآنية المكتوبة بخط أنيق على الجدران، أطيل النظر في الزجاج الملون للشبابيك. وفي الحرم الشريف يتكرر الأمر نفسه، فثمة شبابيك كثيرة بزجاج ملون، فأشعر بسكينة غامرة، وفي بعض الحالات، كنت أذهب مع أبي إلى الحرم، أغالب نعاساً ملحاً ثم أنام، فيما هو منكب على قراءة القرآن.
أما الاحتفالات في ساحة الحرم الشريف، التي كانت تقام في شهر نيسان من كل عام، احتفاء بموسم النبي موسى، فما زلت أذكر بعض تفاصيلها. تحتشد جموع من الخلق في الساحة، تمارس الدبكة والغناء، ثم تمشي في موكب نحو مقام النبي موسى، ومعها الأعلام (تلح علي الآن صورة تلك المرأة الشقية! ولم أكن أعرف لماذا يجري اضطهاد النساء آنذاك. على الطريق المؤدية إلى ساحة الحرم، بالقرب من باب سوق القطانين، رأيتها. كانت تخفض رأسها باكية، والدم يسيل من فمها ويبلل بلاط الطريق، بعد أن ضربها زوجها بقبضة يده لسبب لا أعلمه. تألمت لهذا المشهد. كان زوجها يواصل تهديدها، وهي تنكمش على نفسها وتواصل البكاء. سمعت أمي تعبر عن استيائها منه ببعض الشتائم، تدخلت نسوة أخريات لحماية المرأة من بطش الزوج، ثم واصلنا، أمي وأنا، طريقنا نحو الحرم). كنا نعود من المدينة ومعنا حلاوة "النبي بركة"، فلا نكف عن التهام ما يتاح لنا منها، لأنها كانت شهية المذاق، تعوضنا عما فاتنا من أطايب الطعام في تلك السنوات العجاف.

***
بعد حلول النكبة، أصبح جدي لأبي يميل إلى العزلة والانطواء.
كان في أيام شبابه، مثلما يروي عنه الناس، شديد البأس، مرهوب الجانب، كثير التعلق بمتاع الدنيا. فأصبحت غايته بعد ذلك كله، التفرغ لعبادة الله (بعد دخولي المدرسة، لاحظ جدي أنني أكتب بيدي اليسرى، ولم يرقه ذلك. أحضر خيطاً من القنب، حشر يدي اليسرى داخل كيس من قماش، ثم لفّ الخيط فوق يدي وربطه بإحكام، وقال لي: عليك أن تكون من أصحاب اليمين. لكنني كنت أغافله، أفك الخيط، وأكتب بيدي اليسرى، وهكذا كبرت، وبقيت من أصحاب الشمال).
كان يقضي وقته وهو يقرأ القرآن بصوت عال يملأ الأسماع، أو وهو يقرأ في كتاب آخر، عن عذاب النار، ويروي لمن يأتيه زائراً بعض ما قرأه في ذلك الكتاب. أستمع بين الحين والآخر إلى نتف مما يرويه. يقول إن قيام المرأة بالزغردة في أية مناسبة حرام، وسوف تأتي يوم القيامة وفي طرف لسانها ثعبان. ويتحدث عن عقارب في جهنم، الواحدة منها بحجم الجمل، وعن أفاع مخيفة يسلطها الله على الكفار من أهل النار.
ولم تكن حكايات جدي هي وحدها التي تثير المخاوف في نفسي، فقد روعتني قبلها أحداث كثيرة، لعل أبرزها تلك الحرب التي كانت تقترب منا، حاملة معها الموت والتشتت والدمار. ذات مساء، كنت أتناول طعام العشاء أنا وأبي (لم يكن مسموحاً للنساء أن يجلسن معنا لتناول الطعام، ولم أكن أعرف سبب ذلك)، وفجأة انفجرت بالقرب من بيتنا قنبلة قادمة من مكان ما. كان لدويها وقع مذهل في نفوسنا. فلم نكمل عشاءنا، ورحنا نلوذ بغرفة أخرى ليست لها نوافذ من جهة الغرب، خشية أن تنفجر قنبلة أخرى، فتهلكنا.
وكان لحكايات جدتي لأمي تأثيرها المفزع أيضاً.
كانت تأتي للإقامة في بيتنا عدة أشهر كل عام (إنها امرأة بسيطة تتحلى بطيبة مفرطة، وقد أحببتها كثيراً. بكت في أحد الأعياد لأنني لم أبادر إلى تهنئتها بالعيد، ولم أقبّل يدها. تألمت وأنا أراها تبكي، ولم يكن موقفي مقصوداً، ولا أدري الآن، كيف حُلَّ بيني وبينها ذاك الإشكال. وكنت أنام إلى جوارها في الليل، تسرد علي قصصاً وحكايات، وتعبر عن رغبتها في أن تلد أمي أولاداً كثيرين ليكونوا سنداً لي في الملمات. أذكر، ذات ليلة، فيما كانت أمي حاملاً في شهرها الأخير، أن جدتي أسرت لي بمخاوفها، قالت إنها لا تستبعد أن تلد أمي أختاً أخرى لي، وقالت إن هذا الأمر لا يروقها، ثم نامت وعلا شخيرها، وبقيت أفكر، بعض الوقت، في كلامها الذي بدا محيراً، ثم نمت).
كانت تروي لي ولأخواتي كيف نهضت من نومها ملهوفة في الفجر، معتقدة أن الشمس على وشك أن تطلع من خلف الجبل، فلامت نفسها لأنها تأخرت في النوم، فحملت على ظهرها أوعية من معدن خفيف، تضع فيها الحليب الذي تبيعه في المدينة، فلما مشت في البرية مبتعدة عن بيتها، اكتشفت أنها وقعت ضحية الفجر الكاذب، ففكرت في العودة إلى البيت، ثم ترددت، وآثرت أن تستمر في سيرها نحو المدينة. غير أن أمراً فادحاً دفعها إلى التراجع مرغمة، فقد رأت على مقربة منها، ضبعين يتراكضان في البرية، ما أدخل الرعب إلى نفسها، ولم ينقذها من شر الضبعين اللذين هاجماها سوى أوعية المعدن التي كانت تحمي ظهرها.
يحتل الضبع حيزاً كبيراً في ليالي طفولتنا أنا وأخواتي الأربع، وفي كوابيس أحلامنا. تتواطأ جدتي وأمي على تخويفنا كلما عصينا أوامرهما بضرورة النوم المبكر، فتقولان لنا إن الضبع واقف خلف الباب، فتنكتم أصواتنا، وتخمد حركتنا، وننام خائفين. ولا تفتأ جدتي تحدثنا عن الجن وتقول لنا إنهم موجودون من حولنا، فتحرم علينا رشق الماء على الأرض ليلاً، لأن ذلك يغضبهم. ولا تفعل شيئاً إلا وهي تذكر اسم الله، لحمايتها من شرهم.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد