الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: مستهل الفصل الرابع عشر

دلور ميقري

2020 / 8 / 8
الادب والفن


1
عامٌ على أثر زواج ابنة ريما البكر، وإذا هيَ ذات يوم تملأ منزل أبيها عويلاً. قالت بحضور والديها، أنها لم يعُد في وسعها تحمّل تصرفات سلفتيها، اللئيمتين والماكرتين. إحداهما كانت هَدي، امرأة سلو، وهيَ تقريباً من عُمر ريما. الأخرى، " مزيّن "، كانت الزوجة الثانية لشقيقه الأصغر، فَدو، لكنها لم تنجب برغم مرور سنوات على زواجهما. لقد بدأت تكيد لامرأة جمّو منذ ظهور علامات حبل هذه بوليدها الأول، وكان بنتاً. في أوان وجودها بمنزل والديها، بهدف الشكوى، كانت حبلى مجدداً. ظلت ابنة صالح معتكفة في منزله لبضعة أيام، إلى أن دعا صهرَهُ إلى الإقامة لديه ريثما يتدبّر مخرجاً للمشكلة. الوقتُ كان ربيعاً، استقبلت فيه حديقةُ الدار الشمسَ بانتفاضة شاملة لأزهارها. شأن حميه، كان جمّو مغرماً بالزهور؛ فما لبثَ أن شاركه في الاعتناء بالحديقة وتمضية الوقت في ظلال أشجارها المثمرة.
" علمتُ أنك حصلتَ على تعويضٍ مُجزٍ عن خدمتك العسكرية، فماذا أنتَ فاعلٌ به؟ "، سأل صالحُ صهرَهُ يوماً وكانا لوحدهما في منظرة الحديقة. تردد جمّو في الجواب، ما جعل حماه يستطرد بالقول: " حصلتَ على ألف ليرة، أليسَ صحيحاً؟ فلو أنك استطعتَ تأمينَ خمسمائة ليرة أخرى، إذاً لبعتك هذا المنزل ". أشرقَ وجهُ الصهر، وما عتمَ أن رد بعد وهلة تفكير: " بإمكاني بيعَ حصتي في منزل أبي لشقيقي حسينو، كونه يحبّ تملك العقارات؛ ولا أظن أن تساوي أقل من خمسمائة ليرة ". استدرك على الأثر، متسائلاً: " وأنتم، يا عماه، أينَ ستقيمون عقبَ بيع المنزل؟ "
" لقد فكّرتُ في الأمر، بطبيعة الحال. مزرعتي في الجزيرة على حال سيئة، مثلما أن الحافلة الكبيرة، العاملة هناك على خط حلب، مردودها أضحى بالكاد يغطي مصاريفها. على ذلك، سأذهب بنفسي للإقامة في المزرعة ولن أعود قبل الاطمئنان على مصالحي وأنها على ما يرام ".
كمألوف عادته، كان صالح يُشارك امرأته الرأيَ؛ ولكنه في الأخير يعمل ما برأسه. تلقت ريما خبرَ عزمه على العودة إلى الجزيرة بارتياع، وكان من الممكن أن يُثمر اعتراضها لولا أن ذلك كان يعني حرمان ابنتها البكر من فرصة الاستقرار في بيت تملكه، بعيداً عن المشاحنات والضغائن. بيدَ أنها ستندم باقي حياتها، كونها انصاعت لفكرة بيع البيت: طرفٌ ثالث، تدخل في الموضوع فقلبَ الحسابات رأساً على عقب.

***
حدّو، صهر صالح وابن عمه، كان يكن حقداً عميقاً على جمّو. الغيرة، كانت معقد إزار المسألة. إذ كان يتباهى في العشيرة بمعرفته لخمس لغات، بينها الفرنسية، فضلاً عن خدمته في فترة الانتداب الفرنسيّ كسائقٍ لجنرال مشرف على إدارة مطار دمشق. من ناحيته، كان جمّو قد غدا معروفاً في الحي بسبب عمله في الحركة الثقافية القومية؛ فغدا معلماً للغته الأم في نادي كردستان ومن ثم انتخب سكرتيراً له. ذلك، جعله ولا غرو على صلة صداقة وثيقة بعدد من أبرز السياسيين والوجهاء؛ كالأمير جلادت بدرخان وخالد بكداش وعلي بوظو ومحمد زلفو وعبد الرحمن شقير وحسين بك الإيبش.
" كيفَ ترضى بإعطاء ابنتك لشخص شيوعيّ، ملحد، مثل جمّو هذا؟ "، كانَ حدّو قد قال لقريبه صالح حينَ سمع بأمر خطبة ابنته. لكن حماه هز رأسه مبتسماً، وتساءل بدَوره: " أنسيتَ ما كانوا يشيعونه عنك في العائلة، على خلفية ارتباطك بتلك المرأة النصرانية؟ ". غير أنّ حدّو سكت على مضض، ومن ثم صار يتحين الفرصَ للنيل ممَن يظن أنه منافسه على المقام الرفيع في العشيرة. صالح، هوَ في حقيقة الحال مَن منحَ صهره الفرصة المأمولة. إذ عقبَ تأمين جمّو المبلغ المطلوب ثمناً للبيت، ذهبا إلى أمانة العاصمة لكي يكتبا العقد. فوجدا الدوام قد انتهى باكراً، كونه يومَ خميس. فاتفقا على العودة يوم السبت، لإتمام الأمر. على سبيل المصادفة، حضرَ حدّو لدار أخته ريما في ذات اليوم، وكان صهره يتكلم معها حول موضوع عقد الدار وكيفَ تعذّرَ إتمامه. استمعَ الصهرُ بانتباه للحديث، ولم يعلّق بشيء. غبَّ خروجه من المنزل، اتجه مباشرةً إلى الزقاق الآخر لرؤية سلطانة؛ شقيقة صالح.

***
" أنتِ أحق ببيت أبيك من ذلك الشيوعيّ، عدو الله! "، اختتمَ حدّو كلامه. ابنة عمه، التي يشبهونها بذكر القط الشرس، عقّبت بالقول وهيَ تهز رأسها: " آه، لهذا السبب أخفى عني صالح الصفقة ". كونها تعرف أن شقيقها لا يقيم لها وزناً، فإنها أعملت فكرها في اتجاهٍ آخر. عوّلت على مدى احترام جمّو لشقيقه الأكبر، وأنّ هذا الأخير سيجعله يحجم عن الصفقة لو أبدى رغبته بشراء البيت. موسي، كان في ذلك الوقت قد قضى ثلاثة أرباع القرن في الحياة، يعيشُ على ما ادخره من خدمته المديدة كوكيل أعمال لحسين بك الإيبش. أصغر أولاده من سلطانة، كان ما زال طفلاً. بينما أصغر الأولاد من امرأته الأولى، كان قد عقد خطبته على رودا، ابنة صالح.
" ليسَ لي نصيبٌ في هذا المنزل، يا عمّاه "، قالها جمّو لحميه ثم غصّ ببقية الكلمات. وكانا قد اجتمعا صبيحة يوم السبت، استعداداً للذهاب إلى أمانة العاصمة لكتابة عقد بيع البيت. ريما، وكانت حاضرة عندئذٍ، هيَ مَن بادرت للاستفهام بجزع: " ما الذي جدَّ، يا بُني، لكي تغيّر رأيك؟ ". غبَّ سماعها من صهرها بما كان من تدبير حدّو مع سلطانة، فإنها عادت للقول بشديد التأثر: " لا غرابة مما سمعتُهُ عن تصرّف أخي، لأنّ فيه عرقَ المكر والخبث والغدر! ".
لعلنا ذكرنا في مكان آخر، أنّ صالح جعل شقيقته تتنازل عن حصتها بمنزل والديهما، وذلك بمنحها مبلغ ألف ليرة. آنذاك، احتاج رجلها للنقود كي يبتني بيتاً في مزرعة البيطارية، أين كان يخدم كوكيل أعمال. في آخر المطاف، أعادت سلطانة مبلغ الألف ليرة لشقيقها، على أن توافيه بالخمسمائة ليرة الباقية في غضون شهر. لكنه سافر مع أسرته بعد نحو أسبوعين إلى الجزيرة، دونَ أن ينتظرَ سداد بقية المبلغ، ثمناً لداره الكبيرة في زقاق آله رشي.

2
حينَ راحت سيارته تجتاز الحقول النضرة، المكتسية باللون الأخضر والمحيطة بجانبيّ الطريق، أطلق صالح تنهدة ارتياح. سبعة أعوام، فصلته عن آخر مرة كان فيها هنا، وها هوَ يعود مجدداً كي يدير مصالحه بنفسه. بيد أنه ما لبث أن شعر بالخيبة، غبَّ وصوله إلى المزرعة والقائه نظرة شاملة على مشهدها. الاهمال، كان يشيع في كل مكان ذهبَ إليه بصره، مثلما أنّ الفلاحين وأفراد أسرهم بدوا أكثر رثاثة. ملا عشير، المتخذ صفة وكيل الأعمال، رسمَ على سحنته علامات الأسف. قال مبرراً حالة المزرعة، مومئاً إلى ناحية ساكنيها: " البطر، جعلهم كسالى كما ترى من ملامحهم "
" لكن أسرتك، في المقابل، تلوح متنعّمة ببحبوحة العيش "، قاطعه المالكُ بنبرة ساخرة. أفراد أسرة الملا، كانوا مصطفين عندئذٍ للترحيب بالسيّد القادم من دمشق مع ابنه الكبير. وإلى هذا الأخير، أشار الملا مغيّراً مجرى الحديث: " أولادنا أضحوا رجالاً، ما شاء الله! ". ثم استطرد بالقول، مشيراً برأسه إلى شاب يقف بالقرب من امرأة صغيرة السن: " لقد زوجتُ ابني البكر، المماثل في العُمر لابنك ". هزّ المالكُ رأسه دونَ أن يعلّق بشيء، وما عتمَ أن أبدى رغبته بالراحة في مسكنه. عند ذلك طرحَ الوكيلُ هيئةَ الحَرَج، قائلاً بحيوية فيما يتقدّم سيّده إلى ناحية مدخل المسكن: " منذ علمنا بعزمكم على المجيء، والنساء يتولين أعمال النظافة والترتيب ". بالفعل، ظهرَ المكان بغاية الأناقة والجدّة لعينيّ صالح، كما لو أنه تركه بالأمس. خاطبَ ابنه بصوت ينم عن الراحة والاطمئنان: " سترجع بعد أسبوع إلى الشام، لجلب امرأة أبيك وابنتها ".

***
مع وصول امرأته وابنتهما ذات الخمسة عشرة عاماً، أحس صالح بدافع أقوى للمضيّ في ترميم المزرعة وإعادتها لرونقها القديم. من ناحيتها، شمّرت ريما عن ساعد الجد مذ لحظة وصولها وراحت توجّه النساء الريفيات للأعمال المناسبة. امرأة عشير، قالت لها كأنها تبرر أيضاً ما أصابَ المزرعة من اهمال: " أربع سنين من الجفاف، جعلتنا نخسر الموسمَ تلو الآخر. نصف الآبار غاضت أيضاً مياهها، ما جعل زراعة الخضار تتناقص بدَورها ". حرّكت ريما رأسها دلالة على الأسى، ثم علّقت بالقول: " أساساً فكرة قدومنا للعمل بالزراعة باطلة، كون زوجي لا خبرة له فيها. غير أنه رجل عنيد، لو قرر شيئاً لا يتراجع عنه مهما كانت النتائج "
" بحسَب الكبار في السن هنا، أنّ المطر لا ينقطع عادةً في المواسم لأكثر من أربع سنين. لنأملنّ بسعد وجودك بيننا، علّ الحال يتغيّر إلى الأفضل "، قالتها امرأة الوكيل ثم ما لبثت أن عانقت مَن كانت صديقتها ونجيّتها. لقد تحققت نبوءة أولئك الخبراء البدائيين، وذلك مع تساقط الأمطار الربيعية، التي بشّرت بموسم جيد. هذا التحول الايجابيّ، ما أسرع أن انقلبَ إلى نقيضه بالنسبة لحياة الأسرة: صالح، معتمداً على وكيل أعماله في تدبير المزرعة وعلى ابنه في قيادة الحافلة الكبيرة، آبَ إلى خصلته المعهودة في السهر حتى ساعة متأخرة مع ندامى المُدام ومن ثم النوم إلى ما بعد الظهر. كذلك حنثَ بوعده لامرأته، بأن يعيد ابنتهما إلى مقاعد الدراسة بمجرد أن يُستهل فصل الخريف. هذه الابنة، وكانت تلميذة ذكية ومجتهدة، سبقَ أن أخرجت من المدرسة الاعدادية بناءً على نصيحة من خالها؛ حدّو.

***
في أوان سنته الثالثة في الجزيرة، ساءت صحة صالح على حين فجأة. في حقيقة الحال، أنه قبل نحو عقد من الأعوام أجرى في دمشق فحصاً طبياً أظهرَ بداية متاعب في الكبد. على ذلك، اتجه إلى صديقه، الدكتور نافذ؛ وكان يلتقي به في فترات متقطعة خلال الأعوام الأخيرة. عقبَ انتهائه من الكشف على مريضه، قال الطبيب محاولاً ما أمكن التخفيف من الخبر: " التشمّع في الكبد يستفحل لديك، وأنصحك بترك المشروب نهائياً "
" المرض، يوجه ضربة غادرة للمرء عندما يكون في قمة رضاه عن حياته "، قالها صالح بنبرة حزينة. ثم استدرك، محاولاً الابتسام: " سأعمل بنصيحتك، بالطبع. لكن الأجدى أولاً العودة إلى الشام، لأن مجال الطبابة متوفر هناك كما تعلم ".
دونَ أن يُعلم امرأته بحقيقة مرضه، فاجأها بعد بضعة أيام بخبرٍ أسعدها في بادئ الأمر؛ وهوَ رغبته بانهاء أعماله في الجزيرة بهدف العودة إلى دمشق. ففي اليوم التالي، جاءت إليها امرأة عشير وعلى وجهها أمارات الرعب: " مثلما أخبرني زوجي، أن رجلك أبدى استعداده لبيع المزرعة مع الحافلة الكبيرة بمبلغ زهيد جداً ".

* مستهل الفصل الرابع عشر/ الكتاب الخامس، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا