الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعد طول انتظار

ضيا اسكندر

2020 / 8 / 9
كتابات ساخرة


ما إن سكبتُ الشاي في كأسي وهممْتُ بشرْبها، حتى سمعتُ دقّاتٍ متتاليةٍ منتظمةٍ على الباب أشبه بإيقاع عازف دربكّة. قلتُ في نفسي «هذا الزائر حماته تحبّه». نهضتُ مستبشراً بلقاءٍ يكسر وحدتي. فتحتُ الباب وإذ بصديقي يدخل وهو يؤدّي أغنية طربيّة لزياد الرحباني «اِسْمعْ يا رضا». دفعني جانباً وبدأ يدور في الردهة رافعاً يديه إلى الأعلى، يخبط قدميه على الأرض بتبادلٍ متناسقٍ بخفّة راقصةٍ محترفة.
باغتني حضوره بهذه الهيئة المرحة، فهو رزين وجادٌّ بطبعه. نادراً ما يضحك بقهقهة، ويكتفي بالابتسام مهما كانت الطُّرفة مثيرة للضحك. ومن لحظة وقوع بصري عليه، أيقنتُ أنني سأسمع خبراً سعيداً مذهلاً في روعته.
قلت له مرحّباً:
- اللهمّ اجعلْه خيراً. أرجوك تفضّل بالجلوس وهدّئْ من صخبك واعلمْني، فقد بدأ الفضول يلتهم ما تبقّى لديّ من صبر.
وكأنه لم يسمعني. فقد تابع رقصه وغناءه وهو يتوجّه إلى غرفة الاستقبال مردّداً مقطع: «مبارح أكلنا، بعلْمي شبعنا، حطّينا كل اللي كانوا معنا، قمنا بكره رجعنا جعنا، لازم ناكل عن جديد.. مصيبة والله يا رضا». ما جعل ابتسامتي تتسع وصدري ينشرح لهذه الغبطة المفاجئة التي انهمرت عليّ بهذه الزيارة غير المنتظرة.
قلت له بعد أن أشعلتُ سيجارة وتناولتُ رشفةً من الشاي:
- يبدو أنك تحمل أخباراً سارّة.. من الآخر، هات بشّرْنا!
أجاب وهو يُدخِل كلمات جوابه على الأغنية مطوّعاً اللحن بما يناسب تلك الكلمات:
- احزرْ أولاً.. هاهه هاه.. ولن تحزر!
صفنتُ هُنَيْهَةً وأنا أنظر إلى أعماق عينيه لأستكشف خبيئته وأجبتُ:
- إن لم يخبْ ظنّي، فقد تمّ الإعلان عن زيادة الرواتب والأجور للعاملين في الدولة بنسبة 300%!
رفع رأسه بالنفي وهو يكمّل غناءه.
- إذن، سيتم توزيع سلّة غذائية لكل أسرة، تشمل أهمّ المواد الغذائية الأساسية وبالمجّان!
رفع حاجبيه عدة مرّات وهو يبتسم متابعاً غنائه.
- أعلنت وزارة الصحة عن اكتشافها لدواء محلّي الصنع للقضاء على فايروس كورونا اللعين. وسيتمّ البدء في استخدامه في غضون أيام!
- تْسُكْ.. تْسُكْ.. تْسُكْ
- اممم، أُلْقيَ القبض على كبار الفاسدين. وستتمّ محاكمتهم علناً على شاشات التلفزة، ومصادرة أموالهم المنقولة والثابتة!
- لالالا.. لالالا..
- طيّب، رُفِعَت جميع العقوبات عن سورية وستعود العلاقات الدبلوماسية مع الدول التي قاطعتنا بقرار صادر عن مجلس الأمن؟
- كلّا.. كلّا.. كلّا..
- اممم، الآن حزرت؛ تم استخدام منظومة صواريخ (S-300) لأول مرّة، وأسقطت جميع الصواريخ المعادية المتوجّهة إلى أراضينا فور انطلاقها من قواعدها في فلسطين المحتلة!
لوّح بسبّابته وهو يهزُّ رأسه يمنةً ويسرةً مبيّناً أنني لم أقترب من الجواب أبداً.
- وافق النظام الحاكم على الحلّ السياسي، وأعلن استعداده الفوري لتطبيق القرار (2254). وكبادرة حسن نيّة، فقد أفرج عن جميع معتقلي الرأي لديه. ووعد بالإفصاح عن مصير المفقودين في أقرب فرصة!
أجاب باللغة الإنكليزية وهو يومئ برأسه بعد أن قطَّب جبينه عابساً:
- NO.. NO .. NO
فرقعتُ مصفّقاً بإصبعَي الوسطى والإبهام بحماس وكأني توصّلتُ إلى حلّ حزّورة:
- تمّ تأميم شركتَي الخلوي وأصبحت أرباحها الهائلة في عهدة الخزينة العامة للدولة!
تهالك على الأريكة وقد أعياه اللفّ والدوران. مستأنفاً غنائه إنما بفتور:
- كلا يا حبيبي.. كلا.. كلا!
- معناها أعلنت أمريكا عن سحب جميع قواتها من شرق الفرات وتسليم حقول النفط والغاز إلى الدولة السورية! وسوف تمنحنا تعويضات مجزية عن احتلالها لتلك المنطقة، بما يساهم في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب!
توقّف نهائياً عن الغناء. وبدأ يمسح قطرات العرق عن جبينه والبسمة لم تفارق وجهه وأجاب:
- ما قرّبت أبداً.
- لا حول ولا قوة إلا بالله، طيّب، قرّرت هيئة تحرير الشام حلَّ نفسها مع باقي المنظمات الإرهابية وانسحابها من إدلب!
- إنك تبتعد كثيراً يا صديقي.
أجبته برجاء ونفاد صبر:
- هوهووووت علينا! أخي، عجزت. هات خبّرْني والله علّيتلّي قلبي!
أشعل سيجارة وصبَّ لنفسه كأساً من الشاي ورشف جرعةً منه، وأنا أتحرّقُ فضولاً لاستكناه ما سوف يبوح به من سرٍّ عظيم. وقال بعد تنهيدة طويلة:
- الحقُّ يا صديقي أني سعيد فوق ما يتصوّره عقل. يا سيدي باختصار، وباختصار شديد، البارحة كسبتُ باليانصيب مبلغاً وقدره عشرة آلاف ليرة. اعتبرْتُها لُقيا من السماء. قمتُ اشتريتُ بها فخذي دجاج وكيلو تفاح ونصف كيلو جبنة. والتي لم تدخل بيتنا منذ سنة.
فجأةً توقّف عن الكلام. وقد تغيّرت سحنته واستحال وجهه من الابتسام والابتهاج، إلى الامتقاع والحزن وهو يسرد وقائع تلك اللحظات. زمَّ شفتيه على أسنانه وانتظر. رجرجت عيناه بالدموع. أخذ نفساً طويلاً، عميقاً، وسرعان ما أخفى وجهه بذراعه، وخفّض رأسه واستدار إلى الاتجاه الآخر. وأضاف بصوتٍ متهدّجٍ مكسور:
- لكَ أن تقدّر فرحة عائلتي لحظة قدومي وهي تستقبلني بالابتسامات العريضة والوثبات والزغاريد بشكلٍ جنوني.. وكأنني جلبتُ لهم المنّ والسّلوى!
ثم التفت صوبي بعينين ذابلتين وتابع قائلاً برثاء يذيب الجلمود:
- يعني حرام يا ألله تحصل هذه الفرحة مرّة واحدة كل شهر؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81