الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بضعة أعوام ريما: الفصل الرابع عشر/ 4

دلور ميقري

2020 / 8 / 10
الادب والفن


سنواته الثلاث في الجزيرة، قضاها صالح بسعادة بالغة مع سِعَة العيش واحترام من حوله له باعتباره أحد الملّاكين الكبار. ما لن يعرفه أبداً، أن المزرعة ستكبر في المستقبل وتغدو قريةً تحمل اسمه؛ " الصالحية ". هذا الاسم، طابقَ أيضاً النعت القديم لمسقط رأس الرجل، الذي عُرف على ألسنة الشوام ب " صالحية الأكراد ". في المقابل، عاشَ صالح أعوامه الثلاثة الأخيرة ليشهدَ حالةً أقرب إلى العوز بعدما تبدد ما حمله من المال على الأطباء بشكل خاص. لكنه لم يغادر الحياة قبل مغامرة تجارية أخرى، فاشلة: عمد عقبَ بنائه البيت إلى استئجار دكانٍ لبيع الخضار والفواكه، يقع على بعد أمتار من دكان السمانة، المملوك من لدُن ابن عمه آكو. الابن الكبير، ديبو، كان يحمل البضاعة في سيارة أبيه من سوق الجمعة إلى المحل. وقد دأبَ أن يشكو لامرأة أبيه من عثرة هذه التجارة: " والدي يشتري الخضار والفواكه بافراط، ثم يتعفن أكثرها ويرمى في القمامة "
" والدك باتَ من ضيق الخلق، أنّ أحداً لا يستطيع مناقشته في أمر من الأمور "، ردت ريما وهيَ تفرد يديها بحركة تعبّر عن العجز. هنا، أفلت لسان ديبو عفواً: " لم يكن إلى هذه الدرجة من العناد قبل مرضه ". قال ذلك، ثم أخلد إلى الصمت وقد انتبه إلى زلة لسانه. جاست نظرة امرأة الأب في الشاب، المقارب عُمره الخامسة والعشرين، متسائلة في دهشة: " أيّ مرضٍ تعني؟ ". أمام إلحاح نظرتها، اضطر ديبو لإخبارها أن أباه يذهب كل بضعة أيام إلى طبيب أخصائي بمرض الكبد: " لقد طلبَ مني أن أتكتم على الموضوع، وها أنني بدَوري أرجوك ألا تذكري ذلك له ولا لأيّ كان "، اختتم كلامه بنبرة ضارعة. فكّرت ريما في نفسها، المشحونة بالغم والحزن: " آه، لهذا السبب انقطع عن منادمة شاربي الخمر ومن ثم جاءته فكرة بيع المزرعة والعودة إلى دمشق ". غيرَ أنها التزمت فيما تلى من أيام بكتمان الخبر، ثم غفلت عنه حينَ فوجئت ذات أصيل برجلها يدخل عليها ليقول بنبرة مرحة: " ضيف من الجزيرة، قدم كي تنالي بركة الله على يديه! ".

***
كانت أمّي حاملاً بي في أشهرها الأخيرة، حينما توفيَ والدها وهوَ في حال رثة من العوز والإحباط والعزلة. لقد عاد من الجزيرة مُرغماً، طالما أنّ وضعه الماديّ كان يتدهور حثيثاً. ثمّة، في حجرة بائسةٍ من منزل متداع ( هوَ كلّ ما بقيَ من عقاراته العديدة )، وَضعَ جدّنا رأسه على كتف زوجته الأخيرة، الوفيّة، ثمّ راحَ يستعيدُ مراحلَ حياته المثيرة، الحافلة. هناك أيضاً، علِمَ من امرأته بخبر قدوم أسرة صديقه ذاك، الجزراويّ، إلى حِمَى الشام الشريف. فحينما كانت جدّتنا تهمّ بتوديع امرأة عشير، قبيل ركوبها السيارة المتجهة لدمشق، قالت لها هذه بحسرَة وألم: " ما بقاؤنا هنا من بعدكِ، ديا أوسمان..؟ ".
بمعونة من العمّ الكبير، المماثل في خلقِهِ للجدّ، استطاعت الأسرة الجزراويّة تأمين منزلٍ متواضع يقع مباشرة في منحدر تربة مولانا النقشبندي. إثرَ وفاة صديقه الأثير، أضحى عشير زائراً مثابراً لزقاقنا، أين كانت تقيم جدّتي لدينا غالباً. وبالرغم من حداثة سني وقتذاك، إلا أن ملامح هذه الرّجل الكهل ما فتئت مرتسمَة الى اليوم في ذاكرتي؛ بلحيته الكثة، المُسترسلة والناصعة، وبملابسه البسيطة الشبيهة بما كان يرتديه الدراويش الزهّاد.
" لا أقبل أيّ طعام أو شراب من منزل هذا الشيوعيّ "، كذلك كان يُجيب عشير كلّ مرة كان يحلّ فيها بضيافتنا وفي مكانه الحميم، المعتاد، في منظرة الحديقة. كان يُشير إلى والدي بالصّفة تلك، المُشنِعَة، والتي كان يُشدّد عليها باللفظة الكرديّة " كَاور "؛ أيْ الكافر. بيْدَ أنّ الأبّ، كان عادة ً يُمازح قريبنا الزاهد فيما هوَ يعرض عليه مُجدداً الغداءَ أو القهوة. وعلى أيّ حال، لم يَطل المقامُ كثيراً بالفقيه الطريف بعدَ رحيل صديقه. كان عشير قد عادَ من رحلة الحجّ، الخامسة عشرة أو نحوها، حينما سقط طريح الفراش وما عتمَ أن توفيَ. لقد بدّدَ مدخراته في تلك السياحات الدينية، مثلما سبق وبعثرَ جدّنا أمواله وأملاكه في المغامرات التجارية والغراميات النسوية. ولداه، انتقما منه حينَ عمدا إلى تشييعه، محمولاً على سلّم، ومن ثم رميه في القبر حتى دونما صلاة في الجامع!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج