الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيكولوجيا النبي

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 8 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في قصة النبي موسى كما هي في قصة جده إبراهيم الخليل ومن قبل وبعده من الأنبياء خيط مشترك يبين قضية إنعكاس النشأة وملابساتها التي تفصح عن ما يعرف في علم النفس بمصطلح (عقدة الأنتحار)، والتي جاءت نتيجة دراسات علمية رصينة تؤكد خلاصتها أن الطفل الذي يفقد أحد أبويه نتيجة ظرف ما هم الأكثر عرضة لمحاولة الأنتحار أو إيذاء النفس بشكلها المباشر أو عبر تصرفات سلوكية ناقمة ضد المجتمع لتعوض الشعور بالفقدان أو الخسارة لأحد الأبوين ، هذه السلوك النفسي له مصاديق على كل النماذج التي بين أيدينا من أنبياء الدين.
إبراهيم لم تتحدث قصصه عن وجود والد أو حتى والدة في أثناء النشأة وحتى ما ذكر عن أزر فهو عمه أو ربما زوج الوالدة، موسى لم تذكر الروايات الدينية عن والده شيئا بل كل ما تذكره هو ولادته ومن ثم رميه في الماء، مما يعني أن أباه المفترض ممن شمله حديث فرعون (قتل الآباء والأبناء وأستحياء النساء فقط، فالرواية تذكر أضافة للأم أخته التي دلتهم على أهل بيت يتكفلونه، نوح لا تذكر الرواية أي شيء عن نشأته الأولى، والنبي محمد يصرح القصص القرآني عن يتمه وتبني رعايته من قبل جده ثم عمه مع وجود الأم الأرملة، أما المسيح عيسى فكما تقول القصة أنه ولد من غير أب بشري بل ذكرت أمه مريم، هذا كل الذي ذكره الدين أما بقية الأنبياء فجميعا لا خبر عن أب أو أم.
ويذكر علماء النفس والأجتماع حقيقة أخرى عن هذا الموضوع وهي طبيعة التأثير على الطفل في حالة فقدان الأب المبكر في اللا شعور أو في ما ينتجه العقل الباطن من إنعكاس على مستقبلهم (مشاعر الذكر اليتيم بعد فقدان الأب أقل حدةً، خاصة في المراحل المتقدمة من العمر، لكن على العموم، يشعر الأطفال ذكوراً وإناثاً بحالة من الخطر بعد فقدان الأب وبانعدام الأمان، وغالباً ما يشكل غياب مصدر الدخل الرئيسي ضغطاً خفياً، يدركه الأطفال دون أن يعرفوه، من جهة ثانية، يمثل غياب السلطة الناظمة للمنزل، صدمة نفسية للطفل الذكر، وتتجلى هذه الصدمة، عند محاولة الأم أو الأقارب أو زوج الأم أخذ مكان الأب، من حيث السلطة والتربية)، هذه الخلاصة لها صدى في واقع الطفل عندما يكبر ليكون بديلا عن الآب أو التنفيس عن هذه العقدة السيكولوجية، فقد جاء في أحد البحوث الرصينة ما يفسر طبيعة هذا التعويض عندما يكون الطفل الفاقد في مرحلة القيادة التي سعى لها تعويضا (حيث يستنتج فيرمان وبارتون (Dave Veerman and Bruce Barton) في كتابهما الذي حمل عنوان (When You Father Dies)، أن وجود الذكر في موقع القيادة مستقبلاً، يخفف من آثار فقدان الأب، ويساعد الذكور على تجاوز حزنهم، لكن الكاتبين أكَّدا على أن أغلب الذين فقدوا آباءهم في مرحلة مبكرة، يعانون من عدة اضطرابات واضحة) .
من نتائج الدراسات النفسية عن حالة اليتم المبكرة أو فقدان الأب خاصة بالنسبة للذكر تؤكد بشكل عام أن الطفل اليتيم أو الفاقد يرتبط أكثر بأمه والأنتساب لها والتمسك بها على أنها النموذج الأمثل الذي سيبقى يراوده بالرغم من كل ما يحدث، حتى بعد بلوغه ونضجه فهو يحاول دوما في حالة فقدانها هي الأخرى للبحث عن نموذج منها للأقتران بها كزوجة، هذا ما جاء في بحث أخر يؤيد ما ذهبنا له ويفسر الخشونة والميل السلبي تجاه المجتمع، ميل نحو إعادة فهم وصنع المجتمع من حوله بالطريقة التي يتبناها نتيجة هذه العقدة (وإذا حُرم الطفل من هذا النموذج الأبوي مؤقتاً أو بشكل دائم, فقد يعتري فرص الملاحظة والنسخ والتقليد بعض التقطع حيث يضطر عندها لأن ينظر إلى أمه كنموذج لسلوكه وحياته, وربما يتحول إلى آخرين غرباء لينقل عنهم اجتهاداً ما قد يكون صحيحاً أو خطأ،، ولكلتا الحالتين عوارض سلبية) .
هذا النموذج الذي يتبناه اليتيم أو فاقد الأب يتحول مع البيئة الذكورية شديدة الحساسية تجاه المرأة أو تجاه الطفل تصنع منه على المدى البعيد شخصا متمردا على ذلك المجتمع وتعيد ترتيب الرؤية طبقا لذلك (كتب باركلي وآخرون بأن تأكيد الطفل ذي الأب الغائب على الرجولة وكفاحه من أجل التمثل بشخصية أبيه،، يقوده إلى الانضمام إلى عصابات منحرفة عن القانون أو على الأقل يحفز لديه سـلوكاً – متميزاً – بالخشونة غير المقبولة اجتماعيا) .
من هذه الصفات السلبية أيضا هناك دراسات جادة تربط بين الذكاء وخاصة في مجالي التأمل والأدب وحتى النبوغ والعبقرية لأولئك الأطفال الذين يولدون أو يعيشوا عقدة الغياب أو اليتم وحتى فقدان الأستقرار العائلي، مما يدفعهم للبحث عن التنفيس المعاكس ليظهروا أهميتهم تجاه الأخر والمجتمع (وجود علاقة إيجابية بين غياب الأب وتطور مهارات الطفل الإدراكية، فقد اكتشف كارلسميث على سبيل المثال ارتباطاً إيجابياً بين قدرة الفرد في المواد الأكاديمية اللفظية كاللغات وغياب الأب, وأن هذه النتائج التي أشار إليها كارلسميث أثبتها أيضاً غيره من الباحثين: بأن هناك علاقة بين حالات غياب الأب وما تسببه من اضطرابات نفسية وعقلية وصفات الذكاء المتميز لبعض الأفراد) .
من الدراسات النفسية العلمية التي تؤكد أن بعض حالات الأطفال الأيتام أو فاقدي الأب ونتيجة لإنعكاسات الحال النفسية التي أشرنا لها، يصاب الطفل بنوع محدد من حالات التوحد السلوكي والأجتماعي خاصة مع فقدان الأمان الأسري والشعور بالغربة في العيش مع الأخرين كشخص طبيعي، فالتوحد هذا المرض النفسي له جوانب غير سيئة خاصة عندما ترافقه مواهب أو خصائص إيجابية مثل متلازمة الموهوب أو الفرط العبقري (متلازمة آسبرجر) ، عادة ما يوصف الشخص الأسبرجري بأنه غامض التفكير، أو مستحيل فهمه، لكنه في الوقت ذاته هادئ وذو شخصية جذابة، عبقري لكنه يبدو كالأحمق، صعب إرضاؤه وصعب التعايش معه، غريب الأطوار ومزاجي، ويجب التأكيد على أن الأشخاص الأسبرجريين يعانون من صعوبات نظرا لتركيبة المخ المختلفة عن الأشخاص العاديين، مع العلم بأنهم في الغالب لا يكونون على دراية ووعي بإصابتهم بالمتلازمة، لكنهم من الذكاء لابتداع طرق للتأقلم مع هذه الصعوبات .
من الملاحظات الدراسية والبحثية التي أشرها العلماء نتيجة إجراء المزيد من تفحص العينات البحثية ظهرت لهم حالتين أساسيتين في بروز شكل من أشكال التوحد المعروفة (التوحد، ومتلازمة أسبرجر، واضطراب التحطم الطفولي وأحد الأشكال غير المحددة للاضطراب النمائي الشامل) ، هذه الملاحظتين يمكن حصرهما بما يلي:.
• نوع جنس _ الطفل يعتبر الذكور أكثر احتمالاً للإصابة باضطراب طيف التوحد بحوالي أربع مرات عن الإناث.
• التاريخ العائلي _ إن العائلة التي لديها طفلاً واحدًا يعاني اضطراب طيف التوحد أكثر عرضة لولادة طفلٍ آخر مصاب بالاضطراب. ولا يُعتبر أيضًا غير شائعًا للوالدين أو أقارب الطفل الذي يعاني اضطراب طيف التوحد أنهم قد يعانون مشاكل طفيفة مع المهارات الاجتماعية ومهارات التواصل أو أنهم ينخرطوا في بعض السلوكيات المصاحبة للاضطراب .
الخلاصة العلمية التي نحصل عليها من كل هذه البحوث العلمية والتي تبين أن غالبية الحالات التي ذكرها النص الديني والتأريخي عن الأنبياء وهذا تصريحا فيه وليس أستنتاجا بحثيا أنهم كانوا جميعا من فاقدي الأب أو الأيتام، وقد عانوا كثيرا بسبب هذا الفقد والتيتم المبكر مما ولد لديهم نوع من الطيف التوحدي المرافق لللازمة الذكاء المفرط الذي عوضوه نتيجة الإنعزال والتأمل ومواجهة الذات إلى ذات النتائج التي تحدثنا عنها من خلال الدراسات العلمية المذكورة في أعلاه، بدأ من إبراهيم النبي الذي كان وفقا للرواية الدينية والتاريخية أنه أما يتيم أو فاقد الأب كما ذكرنا وموسى وبعده عيسى وحتى النبي محمد كانوا يشتركون بهذه الصفة التي لها دور أساسي في تكوين شخصيتهم المتمردة لاحقا ولكنها الذكية والهادئة والتي تحاول بناء قيم أفتراضية لصيغة الشخصية الأبوية كمثال حي للرؤية التي يفقدونها أساسا أو يفتقدونها كواقع لأنهم ولدوا من غير شعور وإحساس بالأبوة الطبيعية التي ترافق كل طفل في مراحا نشأته الأولى.
إذا الفحص التاريخي والعلمي لكل هؤلاء الأنبياء كما بالوصف الديني كانوا أسبرجيون بتفوق، ولديهم القدرة على أستخدام هذا النبوغ والقدرة على التأمل بالإتيان بالأفكار الخارقة خاصة فيما يتعلق بالجانب الأكاديمي اللغوي، ولكنهم من جانب أخر كانوا أقل نبوغا وقدرة في الإبداع العملي في جوانب مهمة من العلم التجريبي أو المحض، فهم مثلا لم يمتهنوا المهن السائدة في مجتمعاتهم أو المهارات المطلوبة أو المفضلة، كالفروسية أو البناء المعماري أو أي صنف أخر يحتاج فيه للقوة البدنية العلية أو العقلية المهارية، فإبراهيم لم تتحدث مصادر الدين عن مهاراته أكثر من كونه كان معتزلا قومه يتأمل في السماء ويبحث عن قضايا ميتافيزيقية تتعلق بمقارنة بين عبادة قومه للأصنام وإحساسه بعقم هذه العلاقة.
موسى كان أيضا ممن يفقد التاريخ الكثير من تفاصيل النشأة لا سيما وأنه عاش في كنف أسرة الحاكم أو الملك، ولكن عندما هرب من مجتمعه أشتغل راعيا، عيسى أيضا لم تذكر المصادر سوى سياحته التأملية وإنعزاله عن المجتمع ليتأمل في ملكوت السماء، وأخيرا القصة تتشابه في عزلة النبي محمد ولجوءه الكثير للغار وحتى عندما أراد العمل كان راعيا ثم أجيرا في التجارة تحت متطلبات أسرته التجارية، الجميع لم يكن بينهم ما كان المجتمع المحلي يتفاخر به أو يصنفه على أنها شخصيات أجتماعية نافذة.
النتيجة التي نصل لها في النهاية هل حقيقة أن هؤلاء الأشخاص كانوا على صلة حسية ومادية مع الله، وأن ما جاؤوا به بالتأكيد كان مصدره الله بطريقة أو أخرى، لا نقطع بالجواب لا إثباتا ولا نفيا ولكن ما بين أيدينا من حقائق علمية وتأريخيه دينية ثابتة في نص الدين تؤكد بشكل جازم أنه ربما كان الدين الذي قدموه للبشرية نموذجا إبداعيا عبقريا سبق زمنهم وفوق طاقة القبول الأجتماعي لا سيما في كثير من الجوانب الأخلاقية والأجتماعية التي تناقض المتسلم به أو السائد الأجتماعي الذي سيواجه بالرفض والمقاومة بكل تأكيد، فتم تغليفه أو الأحتيال على هذه العقبة بإدعاء أنها من الله وواجبة التنفيذ وإلا سيكون المصير عذاب وسخط وأنتقام مستعينة بالحوادث التأريخية التي كثيرا منها لو جردت من القداسة والغيبية فهي حوادث طبيعية وبيئية وأحيانا من المحتم التـأريخي المتأمل فيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على شاب هاجم أحد الأساقفة بسكين خلال الصلاة في كنيسة أ


.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا




.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل