الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السؤال الأول

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 8 / 14
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في لحظة وعي أولى أنتبه الإنسان لوجوده وسأل نفسه السؤال الأول الذي ما زال يبحث عنه رغم أنه يطرح يوميا مئات الأسئلة الأخرى يصل ويضل ولكنه في النهاية لا ينتهي من طرح الأسئلة كل مرة، ولآنه جدلي بالطبع وفطري في التكوين وفوضوي بالعادة فلم يرتب الأسئلة بالشكل الذي يطرح سؤال بعد سؤال بشكل منطقي ترتيبي مرتبط في نسقية واحدة تضبط تسلسلية الأسئلة حسب الأهمية، كان السؤال الأول لماذا أنا موجود بهذا الواقع الكبير الذي كلما حاولت أن أكتشف حدوده أقع في اللا محدود، من الطبيعي لم يكن هناك أحد يجيبه عن هذا السؤال ولا أحد يمكنه أن يصحح له طريقة التساؤل فسار مع سلسلة تصوراته التي كلما توهم أن شارف على الإجابة يتضح له أنه ما زال في البداية ويراوح مكانه.
أول نتيجة وصل لها أنه زرع الشك في نفسه الشك الذي يولد قلق نفسي وعقلي بأن وجوده ربما كان خطأ أو نتيجة خطأ ما لكنه هو هنا ولا بد أن يفهم لماذا هو هنا، عاد لنفس السؤال ليكتشف ربما أنه يستطيع أن يبرئ نفسه من مسئولية السؤال، فأمن أنه موجود من غير أن يعرف من المسئول وهكذا وبدون سؤال حتى يريح قلقه وخوفه من الجهة التي وضعته هنا، كان ذلك أول خيط الإيمان بأنه غير مسئول عن وجوده وأن جهة ما أكبر منه وأقدر هي من وضعته في هذا الموضع ولأنه لا يعرفها ولا يستطيع الأستدلال عليها، فعليه أن يحترم خياراتها لئلا يقع فيما هو أشد وأكثر سلبية مما هو فيه من حال.
هذا أول دين أخترعه بمعنى أول عقيدة أمن بها فنقلها كتجربة لغيره وغيره نقلها للغير حتى صارت أمرا مسلما أننا تحت وطأة قوة لا ندركها ولا نعلمها ولا نفهم لماذا تتصرف مع الإنسان هكذا وأيضا لا نعرف عواقب الأعتراض على الحال، صار دين الإنسان الأول هو (اللا نعرف) وأن من أكتشف هذه الحقيقة لديه الكثير منها لكنه لا يريد أن يقول كل شيء لأنه سوبر إنسان ولأنه يعرف أكثر فهو أحق بالتقدير والأحترام ولا بد من تقديسه وتعظيمه لأنه هو هكذا، أختار الإنسان هنا أول طوطم له ليكون المقدس الأول فرفع مكانا عليا وأصبح في نظر قومه الأسطورة التي لا قبلها ولا بعدها وتحول في نظرهم لمنبع الأسرار، ربما أصبح ملكا عليهم وربما أكثر حتى توارث الإنسان هذه الحقيقة طالما لا يوجد إنسان أخر قادر على تفكيكها وبيان وهنها وأن السوبر العقلي ليس بهذه المواصفات ولا يوجد على الأرض لأن الفاعل الحقيقي أكبر منه ويستطيع فعل ما هو أكثر خرقا بما في الوجود المحدود أنذاك من وجود.
هذا الإنسان الثاني أصبح عند البعض هو صاحب الحق في العظمة والقداسة لأن الأول تبين من التجربة أنه أضعف وحجته أوهن وغير قادر على الرد، عبد الشخص الثاني لأنه فكك جزء من إشكالية الوجود بأن هناك قوى خارقة تعيش معنا في الأرض هي من تفعل كل ذلك ولكنها لا يمكن أن تظهر للعلن لأن في ظهورها كارثة، وأن هناك فرد واحد أو ربما عنصر واحد يدرك هذا الحال ويتعامل معه، وأن العبادة يجب أن تتحول ومن خلاله إلى تلك القوى، فالريح لها قوة تتحكم بها والمطر له قوة أخرة والماء ووو لكل شيء قوة خاصة به لا تتعارض ولا تتنافس إلا في مجال حدودها الخاصة، وأن أي إشكالية يجب أن توجه بطريقة حلها لمصدر القوة المختصة، فتعددت بذلك المعبودات وتوزع الأختصاص الشيئي على مجموعة من الأفراد والكهنة المتصلين والذين يمر من خلالهم كل شيء عبر مجسمات صنعوها لتمثل شكل ووضعية تلك القوة مضافا لها هالة التقديس والتعظيم.
مر زمن على تعدد المعبودين دون نقاش ودون صراع حتى ظهر ميل الكهنة لحصد المزيد من المجد ومزيد من الأتباع والمصالح والمنافع، وأصبح الصراع خارج المعبد وخارج القدرة على السيطرة، فأراد شخص أن ينهي الصراع بالاحتكام لتلك القوى مباشرة ليفهم لماذا كل هذا الصراع، عندما عجز الكهنة عن إحضار تلك القوى ليكونوا أمام الناس ادعوا أن هذه الأرباب والآلهة تركوا الأرض لانزعاجهم من بني الإنسان وأنهم تركوا أنصاف الهة وأنصاف بشر خلفهم في الأرض ليكونوا الواسطة الجديدة لضبط حركة الدين والإجابة على التساؤلات والتصرفات، هنا ظهر الملوك الآلهة أو الآلهة الملوك الذين لا يمكن لأي إنسان حتى التقرب من حدودهم الدنيا لأن غضبهم يعني الموت ويعني النهاية اللعينة لكل من يجرؤ أن يزاحمهم.
ولأن هؤلاء الملوك الآلهة هم في الحقيقة بشر معرضون للموت والهلاك فقد برر المؤمنون بهم رحيلهم وموتهم على أنه انتقاله حتمية ولكنها تعظيمية أيضا وأنهم عند بلوغهم مرحلة ما يصعدون للسماء حيث مجمع الآلهة المخلدون، الآلهة الذين بيدهم كل الأسباب وكل الأجوبة وكل شيء لا يفوتهم، فتعلق الناس بآلهة السماء ولم يعد يكفي تدينهم وجود أنصاف الآلهة في الأرض، وتحولت وجهة العبادة للسماء بكل ما فيها من مجهولية وغيبية محاطة بهالة من القداسة والعظمة تكبر وتنمو كل ما بعد الأله عن وجه البشر أو أحاط نفسه بالرموز وعظائم الغيبيات، هنا ار الدين مصدره السماء وتضخمت القواعد ونسخت بعض الإيمانيات بين الناس وماتت أخرى وولدت جديدة والإنسان منشغل لم يجد للآن جوابا للسؤال الأول، ولأنه مصر على الإجابة والبحث عنها فلم يتردد ولم ينهي بحثه عنها.
في قصة النبي إبراهيم مثلا وقد تكون قد تكررت مرات عدة قبله أنه وفي حلة تأمل سأل سؤال عن هذه الآلهة التي في السماء ومقدار ما تملك من حقيقة، قادته تساؤلاته في النهاية أن موضوع الآلهة في السماء مجرد أفتراض وأن الذي يدير الكون أكبر من هذه الأفتراضات التي تجري عليها قوانين الوجود كما تجري عليه هو، فمن المفترض أن يكون الأله خارج هذه القوانين وأن لا يخضع لها بهذا الضعف وهذا التحول اليومي، لذا كانت نتيجة تساؤله أن هناك رب واحد من صفاته ومواصفاته أنه لا يخضع لقوانين الوجود لأنه هو من يصنعها، هذه اللحظة التأريخية حولت وجهة الدين كليا نحو الغيب ونحو المطلق الذي لا يدرك ولا يترك، فصار كل دين ما لم يأت من هذا اللا مدرك فهو مجرد تصور وهمي، وأنتشر بعد ذلك ما عرف بالأنبياء المرسلين، بدل كهنة الآلهة وأنصاف الآلهة وهكذا شهدنا أول بدايات فهم قانون الجذب والتنافر والثنوية المطلقة بين الخير والشر، لكن كان هناك خلل في طرح هذه الثنوية والمراد فيها تحويلها من دائرة المزدوج إلى دائرة التفرد مع العلم أن النص الديني يقول نفس هذه النتيجة (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ)هود118.
هذه هي كل تأريخية الدين بأنتظار المرحلة القادمة والتي قد لا تكون الأخيرة ما لم تتوصل إلى فهم كلي منطقي لقوانين الوجود بشكل عملي ومتسلسل يكشف أبعاد كل الحركة الكونية ويسميها بمسمياتها، عندها يتبدل وجه الدين وتنتهي خرافة الموت والبعث والجنة والنار وتعاد صياغة مفاهيمهما من جديد وفق قواعد جديدة كما تبدل الدين من الطوطم إلى الآلهة المتقاتلة المتنافسة إلى الواحد الأحد القهار الجبار، مرجلة التطور لا تتوقف عند الدين مهما حاولنا أن نحمي الرمزية والمرموزية فيه، فهو أصلا كمعرفة نتاج حركة المجتمع وصورة للحركة الوجودية، فمن يدعي عصمة الدين وأستحالة تغيره وفق ما وصل إليه الآن سيجد نفسه بالتأكيد حاله حال الذي حاج إبراهيم في ربه فقال (إن ربي يأت بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر).
لكن السؤال هنا من يستطيع أن يقول للمؤمن والمتدين إن ربي هو من وضع قانون التجاذب والتنافر وهو الذي يريدنا أن نفهم ذلك، فإن كان ربك لم يقل هذا فليفسر لنا لماذا جعل الخير والشر والحق والباطل والكفر والإيمان على مستوى التنازع في واقع البشر وأبتلاهم به؟ من المؤكد أن الجواب سيكون أنك من أتباع الشيطان وأنك لا تفهم أن الله أعظم من أن يجعل من قانون هو مصدر الحركة في الوجود لوحده، من الطبيعي أن هذا المنطق لا يجد الدليل ولا يثبت الحجة في تبرير التمسك بالتسليم القديم فحتى النص الديني يقول عن أن الله وضع كل شيء بميزان وقدر وحد مضبوط ولا ينفي أن يكون كل شيء محكوم بالتمامية التي لا تخرق ناموس أو سنة الضبط هذه التي يفرضها قانون الجذب والتنافر، فلو كان هناك قانون ينفيه أو يعارضه لكان أول من ذكره النص الديني لو كان حقيقة أنه من الله.
ويبقى السؤال مستمرا بغض النظر عن كل الأطروحات التي قيلت أو نظرت له طالما أنها لم تجيب بشكل كامل عنه، نحن في هذا البحث نؤمن أن الجواب لا بد أن يكون عاما مجردا لا يعلق أمرا فيه أو منه على رمز أو على غيب أو على أمر مؤجل، فالوجود حركة والحركة لها مصدر معروف والمصدر حتى يكون حقيقي يجب أن لا يكون فيه ترديد ولا أحتمالية خارج البرهان العملي أو ظنية شكوكية لأنها جميعا تعمل على تحفيز العقل للتأمل والبحث مرة بعد مرة ولا ينقطع معها التساؤل، فأظن أن الدين عليه أن يفسح المجال في الوقت الحاضر لتعدد الأطروحات والتعدد هو المفتاح للأختبار الجاد، فكلما حصرنا قضيتنا في زاوية كلما قلت خياراتنا وحبسنا العقل عن البحث خارج هذه الزاوية، وبالتالي الفشل لا يعود للعقل بل لمن وضع القضية في زاوية وحيدة، وهنا علينا أن نحمل الدين كل المسئولية عن هذا الإخفاق عن الإجابة وليس غيره.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري


.. رحيل الأب الروحي لأسامة بن لادن وزعيم إخوان اليمن عبد المجيد




.. هل تتواصل الحركة الوطنية الشعبية الليبية مع سيف الإسلام القذ


.. المشهديّة | المقاومة الإسلامية في لبنان تضرب قوات الاحتلال ف




.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب