الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسرا البريطانية (8)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 8 / 15
الادب والفن


حط طائر صغير، بنافذتها عند تلك الصبيحة الرتيبة إثر ليلة ماطرة اشتد على إثرها البرد، لَوَن الأفق، شطر السماء لقطعتين من السحب أخذت الأولى شكل لسان نهر التيمز باللون الرصاصي القاتم، والقطعة الأخرى، شكل ورقة العنب المصفحة باللون الرصاصي المائل للسواد، ولأن الليل ما زال يطبع الوقت بصداه رغم بزوغ الفجر، فقد أيقظها صوت الطائر الشرشور، وذكرها بصوت الحسون الوردي الذي سافر معها من حافة سماء الزبير لأطراف برج الحمام بحلب، خيل إليها أنه يحمل رسالة من جبار الشريف" ماذا يريد أن يوصل إلي هذا الحسون في هذا الوقت المبكر من الفجر؟" تساءلت وهي تهم بترك النافذة التي يتسلل من أطرافها برد "كينغستون" لاحقها الكسل والبرد والشعور بالخمول، ودت لو يكون اليوم إجازتها لتبقى في الفراش تتأمل هذا الطائر الوحيد الضال وهو من فصيلة "الفينش" الانكليزي (finch) الشرشور بلونه البني القاتم، فيما مال لون ظهره للبني الفاتح وبرز صدره باللون البني الفاتح، أما أسفل بطنه الصغير المدبب فقد اكتسى باللون الكستنائي، بينما اتخذ رأسه اللون الرمادي، وبدا اللون الأسود يطبع منقاره وجناحيه، تأملته كما لو كان إنساناً راحلاً من موطن لآخر، ربما رسمت من خلاله رحلتها الطويلة من الزبير إلى حلب مروراً بالحدود التركية ثم البحرين ودبي وانتهاء "بكينغستون"، كانت الصورة دقيقة وعميقة سبرت غور الأزمنة كلها وعبرت الأمكنة بمطاراتها وحدودها وحقائب وتأشيرات وما صاحبها من سجون وتحقيقات، اختزلت ذلك كله في دقائق الصباح، الذي رأت فيه هذا الطائر المرهق من أهوال الطقس وكأنه استقر في محطته عند نافذتها في هذا الوقت، شبهت رحلته برحلتها ابتسمت وهي تتأمله وودت لو تمسكه وتمسح عنه التعب.
عادت من الحمام لتزيح الستارة عن النافذة، فوجئت به منكمش وقد التحف البرد الذي لم يرغمه بالتوقف عن الزقزقة، كان صوته يخفت ويعود وكأنه يود التأكيد على صموده "ما الذي يرغمه على البقاء والتشبث بالنافذة؟" ارتدت روب الحمام الأبيض القطني الذي استعارته من الفندق، ونظرت للساعة التي كانت تشير إلى الخامسة وسبعة عشرة دقيقة.
"لن أصل لموعدي بأسفل العمارة على طرف الشارع، سيغضب فلين ويمط شفتيه ويتصنع العتب طمعاً في مزيد من الدلال"
كانت الغرفة تغص بالفوضى، ملابس الليلة الماضية على الأرض، والحذاء الأسود ذي الكعب العالي عند طرف السرير"متى خلعته هنا؟" تساءلت وهي تقذفه بعيداً عن السرير حتى لا تتعثر عليه، ضوء الغرفة ما زال خافتاً، لم ترغب في إضاءة المصباح الرئيسي، لتقنع نفسها بأن الوقت مبكر والليل لم ينته، والفجر ما هو إلا مجرد كلمة لا تنطبق على هذه اللحظة التي تقترب من نزولها إلى الشارع، لم يستغرقها الوقت طويلاً، ارتدت سروال الجينز الأسود الضيق وجاكيت الصوف الثقيل وأسفله قميص القطن البني وأسرعت بالنزول وهي تحمل كيس حقيبتها مع كيس النيلون العائد لماركة زارا، وبداخله بذلة العمل وحذاء بدون كعب مع علبة حليب صغيرة، وقبل أن تغادر مسرعة عادت للنافذة وأرسلت قبلة للطائر القابع هناك مرددة بنبرة باسمة رغم شعورها بالخمول والكآبة.
" وداعاً يا بنشي الجميل، أراك في الغد عند نافذة الزبير"
****
بين صباح الزبير وصباح لندن مسافات من الذكريات والأفكار والمشاعر، ترتبط جميعها بالرغبة في التحرر من الخوف، لم تذق طعم الأمان والاستقرار، لم تعش الشعور براحة البال والاندماج في المحيط أيٍ كان، ولم تغادر القلب الذي ما فتئ يطرق بضرباته كامل جسدها المرتعش من أي حركة تقع حولها، بدأ ذلك من جديد هذا الصباح الذي ما كادت تصل الفندق في لندن وترتدي بذلة العمل حتى سبقتها رسالة موقعة من الإدارة قبل أن تصل وتستلم جدول الغرف وتجر عربة التبديل والتنظيف، كانت الإدارة تتعامل مع موظفيها بالرسائل القصيرة المكتوبة عند أي ظرف مهما كان سطحياً، لذلك لم تولِ الأمر أي أهمية دست الرسالة في جيبها واتجهت لمكتب خدمات الغرف فوجئت بعدم إدراج أسمها في كشف العمل.
" ماذا يخفي لي اليوم من مفاجآت؟"
فتحت الرسالة واندمجت في قراءتها منذ أول سطر، جاء فيها، أنها مطلوبة لقسم شئون الموظفين للتحقيق، من دون ذكر الأسباب، وحتى ذلك الحين هي موقوفة عن العمل، خرجت لبهو الفندق ورأت الوجوه في الصباح على طبيعتها الرتيبة الباردة، الخالية من أي تعبير، كما هو الحال في كل الصباحات المماثلة قبل أن تدب الحركة في المكان بالنزلاء والزوار، تبادلت التحية مع من صادفتهم في الممر وهي تتجه نحو الردهة الخلفية، وعند الواجهة الخارجية للفندق من الخلف وقفت من دون الاكتراث للبرد والهواء المتدفق عبر ممر خارجي ضيق، يفصل بين الفندق من الخارج وموقف سيارات الموظفين، أشعلت سيجارة على غير عادتها في الصباح الباكر قبل أن تتناول وجبتها السريعة، وسرحت بفكرها نحو ثغور عديدة من الأمكنة المتعددة التي مرت، لم تشعر بالبرد يلفح صفحة وجهها المتجمد، غاصت في مشاعر متلاطمة كموج شديد التدافع وسط رياح عنيفة تلعب به، "سأفصل، ماذا سأفعل حينها؟" كعادتها بدأت سلسلة الذعر مع تدفق الأفكار السلبية تهاجمها وأخذت المشاعر السوداء التي اختفت لبرهة تنتعش إثر الرسالة التي تلقتها للتو واستدعتها للتحقيق.
"ماذا لو صرفت من العمل؟"
لا تعرف في حياتها غير الأسئلة، تطرحها على نفسها وتنصرف، لأنها لا تملك الأجوبة، تمضي يكتنفها الذعر كلما مسها القلق من فقدان العمل أو إلغاء تسفيرها من المكان الذي أوت إليه، في كل مرة تغادر المكان حتى ولو كان خيمة على الحدود، تصعق وتضطرب وتشعر بأنها ضاعت للأبد، في كل مرة تقترب من الذهاب عن المكان الذي تعمل به أو تنام فيه، تحس بأن الدنيا ضاعت منها، وعندما تجلس على حافة اليأس لدى تراكم الأفكار السلبية من كافة الجهات تشك بأن الله تخلى عنها، حالها هذا الصباح مع الرسالة التي تلقتها للتحقيق معها، وهي تخمن منذ اللحظة بأنها الرسالة التي تسبق التخلي عنها، دارت هذه الأفكار خلال الدقائق السريعة التي دخنت فيها أول سيجارة صباحية، مضغت على أثرها قطعة علكة ثم دلفت للداخل مسرعة نحو شئون الموظفين وسؤال آخر جديد يلاحقها "هل لفلين علاقة بالموضوع؟"

***
" تفضلي بالجلوس"
كانت تسمع عن مسسز ليبولد الكثير من الحكايات، عن مكرها ودهائها ولكنها للمرة الأولى منذ التحاقها العمل بالفندق تجلس قبالتها وجهاً لوجه وراحت تبحث في عينيها عن مدى الخبث الذي أشيع عنها، وجدتها هادئة باردة لا تظهر أي تعبير يستطيع المرء التنبؤ بردود فعلها، لها عينان صغيرتان غائرتان في الداخل تنفذان قوة كعينا رجل، تدلى نهدان كبيران لم تخفِ حجمهما كنزة صوفية كانت ترتديها فوق الفستان الأحمر المنقط بالأسود، كان وجهها مستديراً تعلوه تسريحة كثيفة على هيئة وصلات مجعدة في الأسفل، أخذت تنظر للأوراق أمامها وهي تتعمد تجاهلها، شعرت يسرا بالعرق في راحة يدها وهي تقبض على رسالة الاستدعاء، كانت الغرفة دافئة ومكيفة بالهواء الحار، أحست به فوق المعتاد، ظهر هناك مكتب صغير ملحق بمكتب المسسز ليبولد يفصلهما باب ظل نصفه مفتوحاً وظهرت من خلاله إحدى الموظفات التي سبق لها وشاهدتها في ردهات الفندق، لم تتمكن من التعرف عليها، كانت بطبيعتها محدودة العلاقات مع العاملات هناك ولم تتمكن من إقامة شبكة من الاتصالات كما يحدث للجميع، حالة العزلة ما انفكت تسيطر عليها رغم مرور أكثر من أربع سنوات في بريطانيا، قضت نصفها في البحث عن ملجأ تستقر فيه.
عندما رفعت المسسز ليبولد رأسها عن الورق ابتسمت لها وكشفت عن أسنان صغيرة متناسقة، لكنها تعلوها صفرة قد تكون ناتجة عن التدخين، لاحظت من خلال الابتسامة العابرة أنها لا تنسجم مع ما عرف عنها من مكر.
"يسرا، هل تشتكين من شيء معنا"
رغم سنوات العمل التي قضتها في الفندق لا تفهم الإنكليز ولا طريقة تفكيرهم، لهم أساليبهم الملتوية من حيث دخولهم في الموضوع الذي يريدون التحدث فيه، مقدمة غير متوقعة، وكلمات قصيرة منتقاة بعناية، ونظرة جامدة باردة من أي تأثير عاطفي، وعليك أن تتعامل معهم بحذر قبل أن يوقعوك في كمين نصبوه لك، تجمعت كل تلك الهواجس دفعة واحدة كموجة فزع وهي ترقب نظرات المرأة الباردة أمامها، طرقت تفكر كيف تجيب على مسسز ليبولد، فهي لم تشتكِ من شيء ولم تصرح بشيء أو تنتقد شيئاً وتخشى لو تلكأت في الجواب أن ينعكس عليها ذلك سلباً
" أنا سعيدة بالعمل هنا مسسز ليبولد، لا أشكو من شيء"
كصخرة ثقيلة بدت ردة فعل المسسز ليبولد، اتخذت هيئة متصلبة مستقيمة بظهرها على المقعد الجلدي الأسود ذو المسند الطويل، وسجلت بضعة كلمات في ورقة أمامها ثم رفعت رأسها وسألت يسرا بنغمة من يريد جواباً مختصراً.
"إذن لماذا تريدين الانتقال من هنا؟"
قهقهت في داخلها وأدركت بحسها البديهي الذي يوقظ كل الكائنات الحساسة من حولها، ويدبر الانفعالات، ويبث فيها الأفكار السوداء والخيالات بأن ثمة من نقل للإدارة إعلانها قبل فترة من أنها تود الانتقال لفندق الهوليدي إن "بكنغستون".
"ما أسرع ما تنتقل الكلمات في هذا المكان وتنتشر بين الجميع حتى لو دارت في مخيلة المرء من دون أن يصرح بها" لا تذكر لمن صرحت بهذه الرغبة فهي محدودة العلاقات، قليلة الكلام، وكل ما تذكره أنها انزلقت ذات مرة أو مرتين بالتعبير عن هذه الرغبة لإحدى زميلاتها "فلين فعلها وسرب الإعلان" ركزت للحظة على كيفية الرد على المرأة التي تنتظر منها جواب "هل يستدعي تعبيرها عن رغبة في الانتقال؟ استدعائها للتحقيق في صباح بارد مبكر قبل أن يفطر الجميع؟" عليها الرد بسرعة ومن دون تردد ويكون جوابها مقنعاً ولا يصب ضد مصلحتها.
"كان تصريح مقتضب مني لزميلة معي لكون سكني بجوار فندق الهوليدي إن "بكينغستون"، هذا كل ما أذكره مسسز ليبولد"
شددت على عبارة مسسز ليبولد بنغمة خاصة توحي بالاحترام والتقدير ليقينها بأن الإنكليز وخاصة النساء منهم يعيرون اعتباراً لطريق نطق الاسم في الحديث من شخص عادي صغير المكانة لشخص آخر يملك مكانة خاصة كهذه المرأة الحديدية الجاثمة على صدرها الآن، ودت لو تدخن الحشيشة، لدخنت واحدة قبل أن تأتي هنا وتواجه الوحش الكاسر الذي يهدد مستقبلها وبيده أن يلقي بها على رصيف شارع "كينغستون" تمهيداً لترحيلها من بريطانيا، لتتوارى من جديد وراء حدود دولة من دول الشرق الأوسط.
جرت الأفكار السوداوية المفرطة معها في كل مرة تتعرض لموقف ولو حتى مكالمة مجهولة تأتيها خارج الوقت المتوقع "هذه أنا لن أتغيير أبداً" قالت عبارتها في سرها بيأس لعدم قدرتها على منع تدفق سلسلة الأفكار المحبطة قبل حدوث النتائج.
"هل تودين الانتقال إلى هناك؟"
جاء السؤال كوقع صاعقة من برق شديد الوطأة على رأسها، هل تجيب بنعم أم لا، حائرة مترددة تخشى أن يقودها الجواب للخروج من الوظيفة ثم الخروج من بريطانيا وبعدها العودة للحدود لاجئة، تذكرت طائر الصباح الحسون بألوانه التي تشبه قوس قزح، واستعادت زقزقته، لاح لها وجه العقيد جبار الشريف، لسعتها وخزه حادة في شرايين القلب كمن تستنهضها لتحرير ذاتها من حالة الخوف، وجه العقيد الذي اختفى إثر الحرب، مدها بدفء اجتازت على أثره ترددها ونطقت أخيراً بما شعرت به "نعم، أريد الانتقال لهوليدي إن "كينغستون"
" إنه من أهدأ فروعنا ويوفر الرومانسية، هل لك صديق هناك؟"
تذكرت اسم المرأة هناك "كيتي" ولكنها لا تستطيع أن تصرخ في وجهها " كم أنت ماكرة" احتفظت بشعورها هذا في أعماقها وردت عليها بما يبعد الشبهة عنها.
" لا سيدتي، أنه فقط قريب من سكني وأفتقد لسيارة تنقلني إلى هنا"
" فلين، ألا يوصلك كل يوم؟"
"الخبيثة تعرف كل شيء عني، هذا طبع نساء الإنكليز العجائز" قالت ذلك بداخلها وردت عليها بنبرة واثقة.
"من المحرج أن أعتمد عليه كل يوم، سيدتي"
نهضت المرأة الحديدية من مقعدها وراحت تحدق في الأخرى الجالسة قبالتها، التفتت عليها مرتبكة، رأت وجهها المجعد عند الحاجبين في الضوء المنبعث من سقف الغرفة، لمعت عيناها الزرقاوان واتسع إطار هدبها، برزت ندبة صغيرة حمراء أسفل الذقن ولكنها رغم الصورة التراجيدية التي رأتها فيها هذه اللحظة ظل طيف جبار الشريف يمدها بالقوة.
" انتهت المقابلة، شكراً لتعاونك يسرا البريطانية"
رافقت عبارتها ابتسامة تنم عن تعمدها في التعبير عن روح المزاح بذكرها لعبارة "يسرا البريطانية" التي عادة ما يمزح معها زملائها لشدة تمسكها بحلم الحصول على الإقامة الدائمة، بدا لها من نبرة المسسز ليبولد، أنها لم تذهب بعيداً في الضغط عليها، ولا يبدو أن ثمة كارثة منتظرة، فقد مازحتها بعبارة أثارت استغرابها لمعرفتها هذه الكنية التي يرددها العاملون معها، " مسسز ليبولد تعرف كل شيء، إنها أشبه بجهاز الأمن m-16 "
خرجت من المكان وقد تملكها شعور قوي بتدخين حشيشة، فقد أغرتها أكثر من زميلة معها بتقديم سيجارة حشيشة في أكثر من مناسبة، صممت وهي تعبر الرواق باتجاه قسم خدمة الغرف على حيازة قطعة لهذه الليلة بعد أن تعود "لكينغستون" وتختفي وراء الدخان لتتخلص من كابوس هذا اليوم الذي شعرت بأنه لم يبدأ بعد، وتشك بأن ينتهي على خير.
"صباح الخير"
أول عبارة محفزة تلقتها منذ جاءت الفندق هذا الصباح وشعرت معها بتفاؤل عابر، ربما بعثته العبارة التي انطلقت من وجه لمحت فيه البريق الذي تتوسل من الوجوه التي تطالعها طوال الوقت ولا تكشف عن تعبير سوى البرود والجمود.
" صباح الخير، شكراً"
تركت كل شيء لليل يمسح آثار النهار المريع الذي بدأ منذ حط طائر الشرشور الإنكليزي عند نافذة حجرتها" لابد من حشيشة الليلة، سأنحرف قليلاً"
****
مضت بضعة أيام على مقابلتها للمسسز ليبولد ولم يحدث شيء، شعرت باطمئنان، وإن لم يسترخي فكرها الذي ظل يخترع المتاعب، حاولت التغيير في بعض تصرفاتها، فوثقت من علاقاتها بزميلات العمل وإن لم تستطع الاندماج الكلي معهن، أما مع الرجال فقد تمكنت من أن تكون أرق في تعاطيها معهم وإن ظلت لا تطيق مجرد تنفس فلين في وجهها عند الصباح الباكر وهو يقلها للعمل، حاولت بشتى الوسائل تقبله، كأن تبتسم لنكاته السمجة، أو ترد على مكالماته بالليل أو تتبادل معه الحديث لأكثر من دقيقة ونصف، لكنها بالمقابل راحت تحمل له أكواب الشاي والقهوة إلى مكتبه وقت الاستراحة، أو تدعوه للحديث مدة تدخين السيجارة بالردهة الخارجية مع الحرص الشديد أن تنهي سيجارتها قبل أن تنتهي حتى أدرك ذلك بعد مرات عدة، فأخذ عليها الإسراف في التدخين من دون داع، وذات مرة ألقى بمزحة وهو يتحدث معها وقد علت جبهته عقدة لحمية لا تلاحظ إلا لمن يدقق في وجهه وهو يلقي النكات، مع نبرة اختلطت بالتصنع، دنى بوجهه حتى كاد يلامس وجهها كعادته عندما يتحدث مع الآخرين.
" أشك بأنك تتعمدي إنهاء سيجارتك قبل أوانها لتتخلصي من الوقوف معي"
" يا إلهي"
قالتها من القلب وشعرت كم هو أحمق وسمج ولا يمكن تحمله، بذات الوقت شعرت بإشفاق عليه وعلى زوجته وأولاده وكل من يعيش معه، إنه نموذج للإنكليزي الكئيب الذي يشبه طقس الشتاء عندما يطول وتغيب خلاله الشمس لأيام عدة فيظهر الخمول على الناس ويعلوا وجوههم السأم ويصبح النهار أشبه بالليل، كانت عبارته عن نفسه بمثابة المزحة ولكنها جسدت حالته الكاملة مع الحياة والكون وعلاقاته بالآخرين مع تمسكه بالتقرب من النساء "هل يعلم بحاله؟" كانت يسرا تتساءل دائماً كلما وقفت معه وتحملت طريقته في الحديث معها وإلقاء الخطب الرنانة عن نفسه وأخباره ونشاطاته، وأكثر ما يقززها منه طريقة تناوله للأكل بيد، ومسكه لعلبة البيرة باليد الأخرى، فيما يتناثر رذاذ الطعام من فمه، تشعر برغبة في لكمه على وجهه وتخرس صوته.
اكتشاف آخر ربما كان له الفضل في تليين قلبها تجاهه وهو أنه كان وراء موضوع الحديث الذي شاع حول انتقالها لفندق "كينغستون" الأمر الذي لا تعرف تضحك أم تبكي لما سببه لها من قلق طوال الفترة الماضية، غير أنها مضت بحياتها الطبيعية متجاهلة ما مرت به وبذات الوقت تعمل على تحسين علاقاتها مع الآخرين وقد تمكنت من اقتحام عالم الحشيشة، ولفترة توقفت عن العبث بمحتويات النزلاء بعد مقابلتها لمسسز ليبوليد إثر تعرضها لنوبة ذعر من أن تكون مراقبة، لم تطق صبراً على إدمانها تلك العادة الفضولية المسلية التي تشكل لها منفذاً للعالم الخارجي من حولها، فبواسطة تلك الممارسة المزمنة كانت تطل على عالم النزلاء وتتعرف على حياتهم وأنماطهم وتفاصيل سلوكياتهم من خلال حقائبهم ومحتوياتها وأوراقهم وفواتيرهم وكل ما تقع عيناها عليها من محتويات الغرفة، إن كانت في متناول يدها ولا تشكل تهديداً لها أو تترك شكوكاً لدى النزلاء الذين ما انفكوا يمنحونها شعوراً يفوق التسلية ويشغل فراغها الداخلي الذي وجد له مؤخراً تنفساً عبر تدخين الحشيشة، كانت هناك قصة وراء اقتناصها فرصة التسلل لعالم المخدرات والتي بدأت منذ إدمانها على الزناكس وانقطاعها عنه لفترات متباعدة، ثم عودتها إليه كلما ألم بها شعور بالخوف أو قلق من محيطها الذي ما انفكت تشعر معه بالتهديد من كل شيء حولها، ابتداء برنين هاتفها مروراً بنظرات الآخرين الباردة والخالية من العواطف، وهو من طبيعة المجتمع البريطاني.

****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد