الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجمهورية وأنا

فلسطين اسماعيل رحيم
كاتبة وصحفية مستقلة

(Falasteen Rahem)

2020 / 8 / 16
سيرة ذاتية


مرتبطة مفردة الجمهورية بماكنة الخياطة والشبابيك الزرق التي تعبر إلينا منها تفاصيل حياة هادئة، تدور عجلتها أرجل ناعمة لسيدة تحب الشاي المهيل بدون سكر هكذا افضله على الاقل ، وبكثير من الغناء ،الجمهورية وماكنة الخياطة تهب عقلي تصورا بأن الجمهوريات لا تقوم إلا بتنشيط العمل وأن اليد التي تصنع خير من اليد التي تشتري بالمال ما تريده ،ولما كانت معرفتي بالخياطة بسيطة جدا ، لكني شخص يستمتع بطقطقة المقص وبوخزات الابرة في كل غرزة خطأ ، ولا أنكر أني بجلوسي إلى ماكنة الخياطة أشعر بما يشعره العالم والمبتكر وحتى رئيس الجمهورية ، والجمهورية حيّ قديم مواجه لاعدادية الكوفة للبنات ، بيوته صغيرة ، وبنائها تقريبا متشابه، ومبني على طريقة اذا اشتكى عضو ، تداعت جميع البيوت من حوله، وبه حميمية الاحياء التقليدية في المسلسلات القديمة ، ابواب تنط من جوف الارض ، شبابيك غير مرتفعة، وبالوان جميلة اغلبها من مشتقات الاخضر الكالح بفعل عوامل الطقس ، وكنا في الايام المطيرة شتاءا والمشمسة صيفا نختصر طريق الاعدادية عبره ، فتحمينا سقيفات الشبابيك من اشعة الشمس الحارقة ومن المطر ايضا ، وفي يوم شديد المطر وكعادتنا ونحن نقصد الاعدادية قادمين من فلكة حبيب الرعاش ، حيث تضعنا سيارات النقل القادمة من قرانا ، اقطع شارع الجسر ، واختصره عبر حي الجمهورية الذي صار يعرف معظمنا ، نحن بنات الثانوية المجاورة ، جعلنا نقفز بين برك المياه المتجمعة في الطريق ، والتصق بجدران البيوت الصغيرة المتجمعة في الحي القديم ، مختصرة الطريق الى المدرسة ، باغتتني عاصفة مطرية ، صارت عبائتي تقطر بالماء ، فلذت بسقيفة شباك فيروزية اللون ، في انتقال إلى مشهد مواز ربما مع حياة تتقاطع تفاصيلها بطريق سلكته يوما ، واحسب ذاك الطريق كان منها ، خالط صوت المطر صوت أم كلثوم ووصفة صبرها وهي تصرح بأنها كلام يتقال ، وكان عطر شاي مهيل يخترق عطر الارض المبللة فيصعد من التراب سر الحياة الآمنة متناغما مع صوت ماكنة خياطة تقليدية ، تدور عجلتها اقدام متمرسة ، في صورة موجزة ألقت الطمئنينة مفتاحها إلي، تلك اللوحة السمعية البصرية المشمومة، جعلت من كل خياطة قصدتها فيما بعد ، أشبه بجنية أسطورية يجتمع فيها السحر والعطر والمطر ، وظل صوت ماكنة الخياطة التقليدية خير من يترجم لاذني فلسفة الحياة بشكل عميق ومبسط ، كأس شاي وأغنية وعمل تحبه ، وصبية في السابعة عشر تحتمي بشباكي وهي تحتضن بين كتبها، أيامها التي ستكون ذكرياتها القادمة، وربما كنت جزء منها ، كما ذاك الشباك الذي شكل جزء مهم من فلسفتي وطريقة عيشي.
المقص مغر جدا ، للحد الذي جعلني اتوسل شقيقاتي الصغيرات ليطلقن ليدي العنان في قص شعورهن الجميلة ، وللاسف احتاجوا فيما بعد حلاقة ماهرة لتخفي فعلتي تلك ، وربما حقدن علي يومها بشدة ، غير أني اذكر حكاية عن أخي الاكبر الذي قص ضفائري مقنعا اياي بالذهاب الى كربلاء وان ضفائري تحجب حلقي الذهبي عن الرؤية ، وخرجت من تحت يده بدائرتين لحميتين في جمجمتي ، جعلت من أمي تغطي رأسي الصغير بشال لتستر فعلته تلك، تلك الفعلة التي جعلتني اشعر بالخجل حين ازاحت معلمة الروضة الغطاء عن رأسي لتنغمر بنوبة ضحك هستيري ، في حين كان صمتي يعني احتجاجا صاخبا على ردة فعلها، ومازلت املك ذات ردة الفعل ولكن مع لكمة قوية أن أستدعى الامر 🙂--------
المرة التي غادرنا الاهل لمناسبة عائلية تقتضي تغيبهم عن البيت طوال النهار ، قفزت فرحا ، وفي لمحة من الوقت كانت ستائر البيت ومجموعة من الثياب قد نقص طولها ، بما فيهم الثوب الذي كنت ألبسه، وتكوم عند ماكنة الخياطة الكثير من المشاريع التي خططت لها ذاك النهار ، وقضيت نهارا ممتعا ، لتحتجز بعده الماكنة في خزانة أمي ومن ثم تهدى لأختي الكبرى ، في قتل متعمد لموهبتي كخياطة ناشئة لم تأخذ فرصتها وان كلفتهم في محاولاتها الكثير من الهدر في الثياب والستائر والشراشف ، لكن عمتي كانت تقتنع بمحاولاتي وكانت تأتيني بكل ما تريد اصلاحه ، فأقوم بذلك ، ورغم بعض التشوهات التي احدثها الا انها لم تبخسني حقي يوما ، ولطالما كانت تعطيني مقابلا لما اقوم به ، لكن لم يكن للاسرة ذات الدعم ، اذكر ليلة سهرت على فستان أقص واخيط فيه بيدي على ضوء الفانوس ، وعند طلوع الصباح خرجت بفستان يشبه ما يعرض في مجلات الموضة ، كان بنيا مطعم بالاسود ، لبسته مرة واحدة ووثقتها بصورة ومن ثم لم اعرف مصيره ،
أمي لم تر في خياطة ، بل لم يكن يهمها ذلك ، كانت سيدة تعنى بشهاداتنا العلمية ولم تكترث بأن تعلمنا حرفة ، فنحن نعمل في البستان ، ونتعلم ، ربما حرصت على تعليمي كيفية صناعة الجبنة واستخراج الزبدة من اللبن ، وكنت انجح فيه دوما، وربما وقفت على تنورها مرات معدودة ، واظنها كانت موفقة ، في الحقيقة أمي كانت تعلمنا ما تعرفه، وهي لم تكن تعرف الخياطة ، مع ذلك كنت امارس الكثير من الحرف ناقصة المهنية ، كنت نصف ممرضة احقن الابر واضمد بعض الجروح غير الخطيرة للاقارب ، وايضا اقدم بعض اعمال التجميل لنساء القرية ، حتى ان زبائني يكثرون في الاعياد ،لكن المقص كان له السحر الاكثر متعة ، وكنت اعتقد اني سأكون حلاقة ماهرة ، حتى ادركت اني استمتع بقص كل شيء وليس الشعر فحسب ، ولست انسى بائع التفاح الاحمر والملابس الملونة الذي يأتي مرتين في الاسبوع يدور في الحي ، اذ حدث يوما أنه كان يعرض على امي ثيابا للاطفال وسلب عقلي قميصا ابيضا عليه صورة فتاة ،وكنت اعشق هذا النوع من الرسوم الجميلة ،فوافقت امي على مضض وطلبت الي ان اقيسه اولا ، وحين دخلت الدار لاجربه كان واسعا واكمامه طويلة،فعمدت الى المطبخ لأعالجه بسرعة وقمت بجز تلك الأكمام بالسكين ،وجئت راكضة الى امي وانا اصرخ فرحة : انه يناسبني ،امي التي صارت تلطم على وجهها كان لزاما أن تدفع الرجل ثمن القميص الذي شوهته والذي لم يعد صالحا لشيء، كعادتي ، يدي تعرف معالجة كل مشاكلي حتى لو كان قميصا واسعا بأكمام متدلية ، فببساطة كنت اجد حلا لكل شيء ، دون الرجوع إلى أحد ، لا اناقش احدا في قراري ، ولا اسمع لغير ما يحدثني به قلبي ، لذلك نادرا ما اكون على خطأ ، ولما كنت قد ايقنت ان ماكنة الخياطة علاج لنفسي ، ولعقلي من المرض والضجر ، ادخلتها حجرتي ، وان لم تكن بعجلة تدور ، لكنها كانت كافية لتبث في قلبي فرحا طفلا مشعا ، وكلما جلست إليها ، أجدني صبية ملفوفة بعباءة ملتصقة على جسدي ، واقفة تحت سقيفة فيروزية اللون، محاصرة بالمطر ووصفة صبر وعطر شاي ، وصوت ماكنة تقليدية ، فسرت لي معنى الحياة عند امرأة كان يفصلني عنها جدار ، وما احسب تلك التي كانت تخيط خلفه، ما أحسبها أنها كانت سواي.
فلسطين الجنابي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انفجارات أصفهان.. قلق وغموض وتساؤلات | المسائية


.. تركيا تحذر من خطر نشوب -نزاع دائم- وأردوغان يرفض تحميل المسؤ




.. ctإسرائيل لطهران .. لدينا القدرة على ضرب العمق الإيراني |#غر


.. المفاوضات بين حماس وإسرائيل بشأن تبادل المحتجزين أمام طريق م




.. خيبة أمل فلسطينية من الفيتو الأميركي على مشروع عضويتها | #مر