الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النظرية المستحيلة

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 8 / 16
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في نظرية الأستفهام طويلة الأمد الذي تتساءل عن حقيقة (من هو الله) يأتي التركيز بالجواب دوما على صفة الوحدانية المطلقة، وأن الله واحد ككل لا يتجرأ قادر بذاته على أن يكون واحدا دون الحاجة إلى أي سبب أو علة لتعزيز الوحدانية هذه، وهذه الوحدة الأحادية ليست فيه حاليا بل في الماضي وفي المستقبل، فهو لم يأتي من أثنين ولا يؤدي إلى أثنين، ولا يحتاج إلى ثاني كي يثبت أنه واحد، هذه الوحدانية المطلقة التي جاء بها الدين عبر عنها القرآن الكريم في سورة الصمدية (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4).
الحقيقة هذه الشروط والمواصفات التي في أصل السورة وما يمكن أن تؤول وتفسر تعطي للإنسان بشكل عام تصور حدي لا يمكن تجاوزه ليعرف معنى الله، وهذا يكفي للأستقرار المعرفي على هذا المعنى ولو بشكل أولي للإجابة على السؤال المفتاح هنا (من هو الله؟)، وقد يقول القائل طالما أننا وصلنا لإتفاق على المعيار الأهم بعيدا عن التفاصيل الجزئية يمكننا غلق باب البحث فيه والأكتفاء بهذه النتيجة، وبالتالي علينا البحث في ما بعد هذا السؤال من إشكالياتنا الأهم، وقد يجد هذا المعترض القناعة عند الكثيرين أن الجواب كونه كان شموليا كاملا تاما لا مجال حتى للبحث فيما فوقه، وأظن أني كباحث أن الجواب برغم ما قيل يبقى جوابا أوليا تسليميا بحدود قبول العقل المؤمن له المتسالم مع المفاهيم البديهية فقط، لكنه في قناعتي لا يجيب على جوهر السؤال.
عندما يقول الجواب أن الله واحد بمعنى أن عقلنا البشري الذي يعتمد مقاييس مادية شيئية من عالمنا الوجودي حدد وبشكل كامل معنى الواحد على المقتضى الذي يفهمه من عالمه الخاص، لا من عالم أخر بلحاظ أن عالم الله وماهيته وجوهره مختلف تماما لأن الله أولا ليس من صنف الشيئية التي نعرفها ولا من جنس ما نعرفه كماهية وجودية، فهو أي المجيب لا يعرف مثلا أن قياسات ومسميات ومفاهيم العالم الأخر الذي تكلمنا عنه في المبحث السابق تختلف تماما عن قياساتنا أو ربما تتفق معها ولكن لا دليل بين أيدينا يحسم هذا الأمر، وطالما أننا لا نعرف تلك القياسات أكانت موافقة أو مختلفة، فعلينا أن لا نطلق التعريف على أنه هو تعريف لله، السبب ربما أننا نشير إلى مفهومنا نحن عن الله ولا نشير له حقيقة، بمعنى أننا نعطي لأنفسنا صورة مشروطة مؤطرة بفهمنا المادي الشيئي عن الله ليس إلا.
لو سأل أحد الناس بدويا في الصحراء وقال له (أتنا بأسرع ما عندك من وسائط النقل الممكنة وهو لا يملك مثلا إلا بعير وفرس)، عند ذاك وبتقديره الشخصي ومن تجربته الخاصة ووفق قياسات الطلب وطبيعة الجغرافية سيقدم أحدهما على أنه المطلوب، في حالة مماثلة لو طلبنا من صاحب معرض لبيع السيارات وبنفس السؤال وبنفس الصيغة، سيكون الجواب هنا غير جواب البدوي وأيضا على نفس الشروط التي أخترها البدوي، السؤال نفس السؤال والمطلب نفس المطلب والنتيجة تختلف، السبب يعود لأن كل منهم أختار المفهوم المتوافر عنده الذي يعرفه بالتجربة ويعتقد به ويظن أنه هو الجواب النهائي، هذا المثال وبرغم بساطته الشديدة يؤكد بساطة الجواب الذي ذكرناه في البداية والشروط الأربعة التي حددها الجواب، بمقياس السائل والمتكلم ولكن ليس بمقياس الله بالتأكيد.
قبل الدخول في البحث عندما تسأل العقل البشري عن معنى الله علينا أن ندرك قضية أولية هنا، هل هو مؤهل طبيعيا لمعرفة حدود السؤال؟ بوجه أخر هل عند العقل البشري قدرة على إدراك جوهر السؤال وهو تحديد ماهية شيء يدركه بالظن الصوري ولكنه لا يعرف عنه شيئا بالفهم الحسي أو الصورة المادية، فعند السؤال بحثا عن الإجابة سوف يذهب سريعا لأدواته المعرفية ليبحث فيها عن تحديدات ما، فهو إذن لم يذهب إلى عالم الله ليستخرج لنا صورة الجواب، يقول العقل أن الله واحد أحد، ولكن هل الواحد الأحد هو مقياس صالح في عالم الله، أي هل فعلا كذلك لو تمكنا من الولوج إلى ذلك العالم بطريقة ما نجده كما أجبنا واحد أحد؟ ربما لم ننجح في إثبات ذلك، لماذا لا ننجح لأننا أشترطنا في جوابنا أنه لا بد من أن يكون واحدا أحدا حتى يبقى القرار المسيطر على الوجود واحدا موحدا خوفا من التضارب والتشتت والتناقض المفضي للفساد النظمي والأختلال التطبيقي للقانون.
والسبب في هذا الشرط يعود لتطبيق الوصف على الذات الإنسانية حينما تتعدد لنرسم الجواب بالتأكيد، أي أننا طبقنا مبدأ بشري على مفهوم مطلق كوني من عالم أخر قد لا يكون بالضرورة مماثل أو مشابه بالقياس والمعيارية، لماذا مثلا لا يكون الله أثنين بعالمهما متفقين بكل شيء ومتحركين بما كان بينهما من توزيع للأدوار كما يقول النص الديني مثلا (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النها وكل في فلك يسبحون)، هذا المثال في النص لا نريد به التبشير بثنيوية العالم الإلهي ولكن لبيان قيمة الضبط النظامي للأفتراض بالممكن والطبيعي.
وقد يكون الله أيضا أكثر من أثنين وفقا لنفس الأفتراض طالما أنهم ليسوا بشرا وليسوا خاضعين لقانون الصراع البيني بين العقل والنفس كما هو عنده ولطبيعته ولماهيته الخاصة، هذا أحتمال يجب أن نقبل به ونناقشه أيضا وفق قياساتنا البشرية لأننا لا نملك محددات من عالم الله إلا ما نعرفه من التجربة العلمية التي تقول لنا أن الحركة حتى تكون متسقة وفاعلة ومنتجة لا بد أن تأتي من مصدرين مختلفين أحدهما يناقض الأخر وبنفس الوقت ينجذب له، وبالإمكان أيضا أن يكونا واحدا في أطار متكامل لكن الخاصتين تبقيان ضمن حدود عدم الفعل ما لم يتعدد، الجاذبية كقوة فاعلة والنووية كقوة محركة كلاهما يحكمان العالم الوجودي بطريقة الجذب والتنافر بقاعدة التناقض والتضاد، لأنهما أصل الحركة ومبعث فعلها الذاتي، ولو رجعنا لأدق الموجودات التي بعدها لا يمكن أن نسمي الشيء بذات التسمية (مادة)، نجد الأثر هذا والفهم هذا الذي نجده أيضا بحجم الكون الكلي وبمستوى اللا متناهي من القدرة والعظمة، القانون واحد يبدأ من الذرة كأصغر عالم وجودي وينتهي بالكون كله كذرة كبيرة بنفس النظام والفعل.
إذا هذا الكون الواحد الذي ندركه بحدوده اللا منتهية هو كون واحد أحد بمعنى أننا لا يمكن أن نتصور كون أخر خارج ما نملك من قدرة إدراكية، كون مختلف بالماهية والشكل والوجود والفعل، فلا بد لنا حتى نؤشر لهذا الكون الثاني ونحدده أن نملك مواصفات أخرى تختلف عن مواصفات كوننا الذي نحن جزء منه، وهذا ما لم يتوفر بالحقيقة ولا يمكن توفره مطلقا، فلو قلنا مثلا أن هناك كون خارج كوننا وهو يشبهه بالركيب والمواصفات ولكنه بعيد مكانيا وجغرافيا، سنقول المكان والجغرافيا لا تجعل من هذا الكون كون اخر بل هو جزء من كوننا لأنه يحمل نفس المواصفات الماهوية، فكوننا واحد أحد بنفسه لا بذات غيره وهذا متفق عليه، الكون يخضع في حركته كلها لنظامه الذي قد يكون نظام خلق أو نظام تشغيل ولكن بالأخر هو نظامه الخاص الذي لا يمكن السيطرة عليه من خارجه مطلقا، لأن جوهر النظام في أصغر جزء من المادة مكنون ومحفوظ ينطبق على الكل المطلق.
هذه الواحدية والأحدية في الكون الوجودي لم تأت أصلا من عملية ألتحام ثنائي سبقت وجوده، بمعنى أن الوجود الذي لا يفنى ولا يستحدث لم يكن نتيجة عملية سابقة له، فلو كان نتيجة عملية سابقة لا بد لها من شرطين أساسيين، أولا توفر قانون الفعل والحدوث وهو الجذب والتنافر كي ينتج الألتحام أو التصادم أو التفاعل فعل، وثانيا أن نرجع إلى ذات السلسلة من الأسباب والعلل أي يكون للسابق سابق، وهكذا لا تنتهي الوجودات، فالكون الوجودي الذي نحن فيه لم يأتي من فعل مرتبط بعنصرين سابقين ولا يمكن أن يتحول إلى عنصرين لاحقين، كما انه لا يفنى أيضا أي لا يتجزأ لأن التجزؤ سيولد قطبين يمارسان نفس مبدأ الجذب والتنافر وبالتالي تتعدد القوى الفاعلة في الوجود، مما يتعدد معه المجال المغناطيسي والأثر النووي لكل منهم على حدة، النتيجة المتوقعة على التجزئة أنها ستفني الوجود نتيجة خرق النظام والقانون الأول بتعدد الفعل وتعدد نتائج هذا الفعل، ومع عدم أحتمالية حدوث التجزؤ لأن أصل قانون الجذب والتنافر هو قدرة على حفظ الحركة في حدود قوة الجذب ذاتها وقوة التنافر ذاتها فلا أمل ولا إمكانية بالمطلق أن يتجزأ الكون بوجود القانون.
فهذا الكون بهذه الشكلية والنظام والتكوين والماهية هو الوحيد الذي لا وحيد أخر معه لا في جزء ولا في كل تركيبته، إنه عالم الوجود الذي لا وجود به ولا يمكن حتى التفكير في البحث بكفؤ له، وأين يمكن أن يكون البحث، أليس في ذات الوجود؟ إذا كان الجواب نعم فكل ما في الوجود من وجود هو ضمن الوجود لا يخرج عن توصيفه، وإذا كان البحث عن وجود كفؤ خارج الوجود علينا أن نحدد ما هو خارج الوجود أيضا بالكيف والماهية والشكل والتكوين، فالوجود لو تتبعنا مواصفته وأقصد الوجود هنا الشكل العام الشمولي المطلق له، ينطبق عليه تماما صفة ومغنى الله في النقاط الأربعة التي حددناها في بداية المبحث أستنادا لما في النص الديني الوارد إلينا.
فالتعريف الديني إذا أعطى معنى ماديا حسيا شعوريا وإدراكيا لمعنى الله عاكسا فهمه للكون الوجودي لأنه يعيشه ويدرك ويفهمه بمجساته الحسية، فهو أورد شروطا من واقعه ومن ماديته الوجوديه ليعكس فيها صورته الخاصة عن عالم لا يعرفه ولا يدركه ولا حتى يمكن أن يرسم صورة ذهنية حقيقية له بمواصفات ذلك العالم، والسبب أنه لا يملك محددات خارج ماديته الحسية.
إذا جواب السؤال يبقى معلقا بأنتظار الإجابة التاريخية التي لن ولم تأتي مطلقا حتى يكتشف الإنسان عالم غيري مختلف عن عالمه الحسي المادي وحين يخرج من هذه المادية الوجودية يكون قد غادر عالم العقل والتعقل وأنتقل إلى عالم ما بعد العقل أو ما فوق العقل، وهذا الحال سيبقى حلم ويبقى مجرد أفتراض وتعريفنا لله سيبقى كذلك طالما نحن ندور في عالمنا على أنه مالك أو يمكن أن يملك الحقيقة في لحظة ما.
إذا من الأحتمالية الممكنة أن الله ليس كما أوردناه في التعريف السابق والذي يجزم البعض أنه كامل وتام وعام ومجرد، وأحتمال أخر أن ليس كل ما نعرفه الآن هو الصحيح بما هو كذلك، فلماذا نوصد الباب أمام أحتمال ممكن وطبيعي طالما أننا لم نجزم بيقينه ثابته ما هو ذلك الذي نبحث عنه وفق قياساته الخاصة، إذا ما يمكن أن نركن إليه هو أن لا نجعل هناك تعريف محدد لما لا تعريف له ونبقي المفهوم كما هو خارج سياقات ونمطية الصورة الشيئية، حتى لا نقع في الوهم التجريدي للمستحيل الذي يمكن أن نستحضره بصورة ذهنية، فالعدم أيضا مفهوم مستحيل لا يمكن إدراكه بمعنى أننا نعطيه معنى الضد للوجود إلا إذا سلمنا بقانون الجذب والتنافر، عندها يمكن جمع المفهومين الوجود والعدم على أنهما عالم واحد يخضعان لقانوننا الذي أعتمدناه قانون التنافر والجذب في أطار واحد هو الأعم والأشمل وعلينا أن نجد له تسمية أخرى مشتركة.
بالتأكيد لم نجد مسمى ممكن أن يستوعب هذا المفهوم الكلي المطلق، فلا هو كون لأننا نعرف محددات الكون وماهيته، ولا هو لا كون لأنه جزء منه كون، الإشكالية إذا تتعلق بالحدود التي يجب أن نستعملها للوصف وليس لدينا غير ما ندركه ونتحسسه ونعلمه، فهل من الممكن أن نسميه مثلا عالم الكون والعدم؟ بالتأكيد هذه ليست تسمية بقدر ما هي واقع لم نزيد في تعريفه شيء، أو نقول مثلا أنه الكمال المطلق أو المطلق الكامل أو أي تعبير يتحاشى التفصيل الماهوي له لأننا في جميع الأحوال نعود في كل مرة لقياساتنا الذاتية الحسية المادية الشعورية الإدراكية دون أن نضيف شيئا له، هنا نصل أن معرفة أي مفهوم كان ما لم يكن لدينا مقدمة حقيقية تؤهلنا لفهمه كما هو وليس كما في الصورة الذهنية يبقى مجرد محاولة ناقصة لا تستوعبه ولا يستوعبها المفهوم أصلا، إنها النظرية المستحيلة المفتوحة على أي أحتمال أو تصور غير الذي بين أيدينا عنه.
فالله يبقى مجردا من التحديد ومجردا من الوصف ومجردا أيضا من الإدراك الماهوي لدينا، وكل تعريف أو فهم حتى في النص الديني لا أعتماد كلي عليه سوى أنه محاولة للتقريب حسب مراسيم العقل الإنساني فقط، ليكون على قدر من العلم به ولكن ضمن حدود الصورة الذهنية وإن جاء كما يقول النص من الله أو عن طريقه أو هكذا وصل موصوفا به، فهو لا غيب حتى يدرك بوسائل العلم ولا هو مجهول حتى نبحث عنه بطرق المعرفة ولا حتى وهم أو خيال أو تأمل ممكن أن نثبت وجوده وعدمه، طالما أن الوجود بدونه لا يعني الوجود الفعلي بحسب قانون الجذب والتنافر، ولا يمكن أيضا عده الند النقيض للوجود المادي الذي يفعل الحركة لأن ذلك يتطلب حاجته ونقصه للند، فهو خارج القانون وخارج فعله وسابق له سواء أكان واحد أو متعدد، فالنتيجة واحدة أنه خارج حتى مفهوم الواحد الأحد طالما أن الكون الوجودي هو واحد وأحد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على شاب هاجم أحد الأساقفة بسكين خلال الصلاة في كنيسة أ


.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا




.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز


.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب




.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل