الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بابٌ من صفيح

فاطمة ناعوت

2020 / 8 / 18
الادب والفن


--------------------
فاطِمَـة ناعـُوت



نظرتْ طويلا إلى باب الشقّة الخشبيّ، وأغمضت عينيها. ثم فتحتْ عينيها على اتساعهما، ومشت نحو الباب حتى تتأكدَ من إحكام إغلاقه. هي الآن في أمان من العالم الخارجي القاسي قسوةَ الضباع على جيفة. رأت نفسَها تتجوّلُ بين غرف بيتها الدافئ. تُسدلُ ستائرَ النوافذ. تنسِّقُ الزهورَ في المزهريات. تُعدِّل من وضع السجادة الصوفية على الأرضية الخشبية الدافئة. تفرشُ سريرَها الواسع بملاءة وردية ناعمة، وترتِّبُ الوسائدَ الرخوة التي سوف تحتضنُ رأسَها الخائفَ حينما يهبطُ الليلُ عليها. وضعت رأسَها فغرقت من فورها في النوم كأنما سقطت في بئر عميقة لا قرار لها. بعد برهةٍ صحت على ركلاتٍ تضربُ بطنَها، ولُعاب لزج يُغطي وجهَها ورقبتَها، ورائحة عطنة تملأ أنفَها. فتحت عينيها في فزع لترى أصدقاءها الكلابَ الأربعة التي لا تتركها تهنأ بغفوة في ليل أو في نهار. بحثت عن الكلبة الخامسة التي كانت على وشكِ الوضع، فوجدتها منزوية في ركن العِشّة وقد وضعت حملها واستراحت. كانت تلعقُ بلسانها جراءها الصغيرة. فرحتِ الفتاة وراحت تربتُ على ظهر الكلبة الأمّ، ووعدتها بعلبة حليب إن أكرمها اللهُ بجنيه أو جنيهين من أصحاب السيارات. شطفتْ وجهَها بماء القلة وجالت عيناها في أرجاء العشّة الصغيرة التي كلما شيّدتها، أسقطتها الأمطارُ والرياح ومعاركُ الكلاب والقطط والفئران وبنات آوى. أزاحتْ عنها الكلابَ، ثم بدأت تُرتِّبُ ألواح الورق المقوى الساقطة التي اقتطعتها من كراتين الشيبس والحليب الملقاة في صناديق القمامة، وتثبّت عيدانَ الخوص في السقف الذي غطته بكيس المشمّع المهترئ الذي منحه لها البقالُ بعدما نال من جسدها ما نال، في مخزن الدكان المعتم. لكنه بخل عليها بصفيحة الجبن الدمياطي؛ رغم توسلاتها ودموعها أن "يُشحّتها" لها بعدما تفرغ؛ حتى تقطّعها وتفردها وتصنع منها بابا لعشّتها، تحميها من الكلاب الناهشة التي تغزو الخرابة بين الحين والحين، ولا يقوى على حمايتها منها أصدقاؤها الكلابُ الخمسة. “انتي عارفة الصفيحة دي بكام يا بنت الكلب؟ غوري من هنا. كفاية عليكي لوح المشمّع خسارة في جتتك" هكذا انتهرها "الحاج جمعة" البقال، وهي تحاول أن تسرق صفيحة الجبن الفارغة. كان حلم حياتها حولا يتمحورُ بابٍ من الصفيح. لكن الصفيحَ غال، وسترَ العوراتِ أغلى.
أغمضتْ عينيها حتى تعودَ إلى الحلم الرغد الذي رسم لها بيتًا له بابٌ متينٌ من الخشب، وجدران حقيقية من الطوب، وسقفٌ حقيقي من الأسمنت، وسرير ووسائد ومقاعد... ولكن الحُلمَ كما الفرح، لا يأتي حينما ندعوه، بل حين يعنُّ له أن يأتي.
كانت تكره الشتاءَ لأنه يهدم عشّتها بأمطاره، وتكره الصيفَ لأنه يحرق سقفها البلاستيكي بشمسه اللاهبة، وتكره الخريفَ لأن رياحه تنزع العصيانَ التي تتكئ عليها أعمدةُ عُشّتها، وتكره الربيعَ لأن خماسينه تملأ عينيها بالرمال وجسمَها بلسعات البعوض وعُشتَها بالزواحف والقوارض.
عُشّتها لا تصمدُ يومين أمام رياح ومطر، فتعيدُ بناءها في اليوم الثالث ليرقد فيها جسدها المجهدُ بعد يوم شاقٍّ تتقافز فيه بين السيارات بفوطة متّسخة. تهمُّ بتنظيف زجاج سيارة، وهي موقنة أنها لن تتمَّ المهمة. إذ يوقفها السائقُ بإشارة غاضبة من أصبعه قبل أم تمتد يدها لسيارته، خوفًا من فوطتها القذرة. ولكي تمضي دون لجاجة؛ يمنحها قروشًا بالكاد تكفي لشقّة فول وشقة طعمية تلتهمها بنهم في ثوان قليلة هي وأصدقاؤها الكلاب. ثم تقضي بقية يومها في الركض واللعب مع أصدقائها الخمسة في الخرابة التي شيدت فيها كوخها الآيل للسقوط.
في منتصف ليلة صيفية رطبة، استيقظتْ الفتاةُ على صوت نباح وعويل وأنين وهدد. مجموعة من الكلاب الضالة التي تأتي من الخرابة البعيدة لتتطفل على خرابتهم بين الحين والحين، قامت بعملية غزو جديدة لحرمهم الآمن. دخلت الكلابُ الغازية مع أصدقائها الكلاب الأربعة في عراك دموي حادّ، فجُرح منها ما جُرح، وهرب ما هرب، وجنّ جنونُ ما جُنَّ جنونُه. وعُقر بطنُ الكلبة الأمُّ التي لم تبرأ بعدُ من نِفاسها. راحت الفتاةُ تقذفُ الكلابَ الغازية بالطوب وقطع الزجاج المهشّمة، لكن الكلاب لم تزدد إلا جنونًا وعقرتْ ساق الصبية بأنيابها ومخالبها. تحاملتُ الكلبةُ الأمُّ على جراحها وجرجرت خيوطَ نزيفها وحملت صغارها بين أسنانها ودخلت العشّة وهي تترنّح ترنّح المُحتضَر، ثم ألقت بصغارها واحدًا واحدًا في فراش الفتاة، وكأنها توصيها عليهم، ثم رقدت على جنبها وتوقف قلبُها عن الخفق. دخلت الكلاب الغازية لتُكملَ معركتَها داخل العُشّة مع الكلبة النافقة. تحاملتِ الفتاةُ على آلام ساقيها المعقورتين، وحملت الصغارَ الثلاثة العمياءَ، وركضتْ بكل ما تملك من قوةٍ واهنةٍ وهنَ النزف والوجع، حتى خرجت من الخرابة نحو الطريق العام. سارتِ الفتاةُ تعرجُ في الطرقات لا تدري ماذا تفعل بصغارها بين ذراعيها، فإذا بسيارةٍ سوداءَ فارهةٍ تتوقف، ويطلُّ من نافذتها الخلفية وجهٌ سمينٌ وعينانِ جاحظتانِ تسمرتا على ساقيها والدم ينزف من بينهما. أخرج لسانَه وبلَّل شفتيه بلعابه اللزج وقال لها: (تعالي يا حلوة.) جفلتِ الفتاة. فتلك هي المرةُ الأولى التي تسمع فيها هذه الكلمة: "حلوة؟!!!!” فتح لها البابَ الخلفيَّ وأفسحَ لها لتجلسَ إلى جواره والجِراء الصغيرة في حجرها. في بيته الوثير أنامتِ الفتاةُ صغار الكلاب في ركن المطبخ، ووضعت أمامها صحنًا به بعضُ الحليب. ثم استسلمت ليد الرجل البدينة ليجرّها إلى سريره الوثير ويفعل بها ما اعتاد الذكورُ أن يفعلوه بها بثمن أو دون ثمن. عند الفجر، تسللت من فراشه إلى حيث المطبخ، حملت الصغارَ على ذراعها، وبيدها الأخرى نتشت من فرن البوتاجاز صينيتين عريضتين ستجعل منهما بابًا لكوخها، يحميها ويحمي صغارها من أهوال العالم القاسي. فتحت باب الشقة وتسلّلت إلى حيث الظلام.

******








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و