الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصل الدين ح1

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 8 / 18
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قد أكون مثل الذي يدعو الناس لإطلاق النار عليه دون أن يرف له جفن حين أخوض في هذا المبحث الدقيق والحساس، خاصة وأن خطورة الكلام فيه لا تتعدى المؤمن والمتدين بأي دين، لأنه يحطم قناعات ويستفز عقول كانت وما زالت تؤمن بمصدرية الدين أنه من وحي الله ومن عندياته بأي شكل أرتضوه، ولكن لنتمهل قبل أن نحكم ونقرأ بوعي دون أن نطلق الأحكام لمتسرعة، خاصة وأننا نعرف أهمية وجلالة الفكرة عند الناس، ونحن نتكلم عن الأديان اليهودية أو الدين الإبراهيمي الأم لا بد لنا أن نذكر حقيقة مهمة لا نقولها نحن بل يقولها الواقع ويؤكدها البحث التاريخي المنصف أن ما جاء به اليهود من أسس في التدين والإيمان بمعزل عن التحريف والزيادة والنقص فيه هو مشترك عام في كل الديانات اليهودية، وما بني عليه لا بد أن يكون هو من صميم تلك الديانة، لكن السؤال الذي يطرح هنا وبأعتبار أن موسى نبي اليهود هو من سلسلة أباء الأغلب فيهم كانوا أنبياء وأصحاب دين بدأ من إبراهيم على أقل تقدير.
ولد موسى كما يروي التاريخ وكتب بني إسرائيل أنه ولد عام 1463 ق.م مصر القديمة في الجيل الرابع من الهجرة إلى مصر وتحديدا في زمن نبي الله يوسف والفرعون (رمسيس) ، ومصادر أحدث تقول أن أحد هؤلاء الفراعنه هو المقصود (تحتمس الثالث ورعمسيس الثاني ومرنبتاح هم الأكثر ترجيحًا لأن يكون أحدهم فرعون موسى) طبقًا لسلاسل أنساب التوارة؛ والتي تحدد بأن لاوي ابن يعقوب والذي يمثل الجيل الأول من الهجرة، له ابن هو قهات، الذي ولد عمرام الذي يمثل الجيل الثالث من الهجرة، والذي تزوّج بنسيبته يوكابد من بنات لاوي أيضًا، وأنجبت منه موسى ثالث أولادها وأصغرهم، والفرق بالسن بين موسى وهارون ثلاث سنوات. تمت ولادة موسى، حسب القصة التوراتية في ظروف صعبة، فبعد أربعة أجيال من هجرة آل يعقوب إلى مصر "أثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا جدًا"، مما سبب خوفًا لملك مصر خشية انضمامهم للأعداء حال اندلاع حرب أو منازعتهم في ملك الأرض، لذلك أمر الملك باستعبادهم "ومرّروا حياتهم بعبودية قاسية" .
البعد التاريخي له أهمية محورية في قضية موسى والدين اليهودي الذي جاء به لاحقا ومنه تفرعت شريعة الله إلى الإنسان حسب التفسير اللاهوتي والكهنوتي الذي تجذر في تاريخ الدين على أيدي كهنة المعبد اليهودي ومن الأسفار الخمسة، وهو ما تابعت على ذكره مرة أخرى الديانة المسيحية التي هي البنت الشرعية الأكثر قربا لها، وحتى الدين الإسلامي في مجال ذكر بني إسرائيل وتاريخهم ومن النصوص يذكر بشكل موسع هذه القضايا وبتفصيل أدق ومتسلسل، وهذا ما يؤكد الوحدة والصلة الموضوعية التي نزعم أن ما يجمع هذه الديانات في الأصول هو واحد بالعقائد وحتى بالتكاليف والطقوس والعبادات، وصحيح أن لكل ديانة منهن في ظاهر الأمر تتميز بخصائص تبدو لقارئها أنها تعطي لكل دين صيغة قد تبدو مفترقة عن غيرها، ولكن الباحث المحترف لا تلتبس عليه وحدة الموضوع وجوهرها العام.
نعود للسؤال الأول ونترك التاريخ لنورده في مضان البحث وجوهر سؤالنا عن ديانات أنبياء بني إسرائيل قبل موسى، القرآن مثلا يقطع بأن إبراهيم ومن بعده لم يكونا من اليهود إي ليسوا على دين موسى وهو طرح عقلي بالمنطق، ويصر أيضا أنهم كانوا على ملة أبيهم إبراهيم الذي سماهم مسلمين ، بل أجزم وحسب النص أنه لم يكن مشركا ولا يحمل دين غير التوحيد الذي أمن به وتلقاه بالتجربة الذاتية وقد هداه الله لهذا الطريق، بمعنى أن ملة إبراهيم هي الملة الفطرية العقلية التي لا تحتاج لوحي ولا رسالة محددة تشرح له معنى الإيمان بالله وأوامره ونواهيه كما يقول المتدينون، إذا دين إبراهيم هو دين الإنسان العاقل الذي يستخدم عقله في الكشف والإستدلال لذا سمي حنيفا.
الحنفية أصطلاحا في اللغات المرتبطة بالأديان الإبراهيمية تعني الميل أو الإنصراف عن المعتاد، فهي تعني كدلالة واصطلاح (المَيلُ عن الحق بالعبرية والآرامية) أو المَيلُ إلى الحق بالعربية، فقد ورد ذكر الجذر الثلاثي (ح-ن-ف) في القرآن في اثني عشرة آية، نلاحظ أن في معظمهم يكون هنالك ربط مع النبي إبراهيم الذي وصفه القرآن بالحنيف، وفي اللغة العبرية والسريانية تعني نجساً أو مرتدا، وُصِم بها العرب الذين هجروا عبادة الأصنام وارتدوا عن دين من كان حولهم، وفي المسيحية واليهودية هم الذين لم يدخلوا بهاتين الديانتين من الفرس والإغريق والعرب، فالحنفية وصف واقعي يثبت حالة موضوعية أكثر من كونها دين مؤطر برسالة أو نازلة بوحي كما في الأديان الثلاث اللاحقة وعليها سار بقية الأنبياء إلى أن جاء موسى والألواح والشريعة التي بشر بها .
في النص القرآني يثبت حقيقة جوهرية وهي أن حنفية إبراهيم الخليل هي أساس وجوهر كل ديانة لاحقة سواء كانت مؤطرة برسالة أو مجرد تصور عقلي خاص بني من أنبياء ما بعد إبراهيم (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد إصطفيناه في الدنيا وإنه في الأخرة من الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)البقرة 130، فهذا النص لا يمكن التوفيق بينه وبين بقية الديانات إلا إذا أقررنا أن جوهر كل دين هو في جوهر الحنفية ذاتها، وكل دعوة خارجها لا يمكن وصفها إنها دين إبراهيمي، فيكون وصفنا للديانة اليهودية وفرعها الديانة المسيحية وصورتها في الدين الإسلامي تنطلق من ذات منطلقات وخطوط وإحداثيات الحنفية بعيدا عن التفاصيل والصغريات التي أما تكون مبتدعة أو مخصوصة بحدث خاص أو مناسبة موضوعية تخص حالة فردية.
هنا نصل إلى المنبع الأساس للدين تحديدا ما بعد إبراهيم النبي الأول الذي أسس الوجدان الديني التوحيدي في عالمه وأستمر أثرها عبر التاريخ، وأيضا لا بد أن نشير إلى حقيقة ذات أهمية أن إبراهيم عندما مال عن دين قومة والمعتمد على الشرك وتعدد عبادة الآلهة لا يعني ذلك أنه صفر ذاكرته ومسح محتويات أخرى عن طبيعة الدين أو السائد الديني في عصره ومجتمعه العراقي الزاخر بالكثير من الأديان والعقائد الدينية منها ما كان أيضا على التوحيد ومنها قصص وحكايات من سبقه من الأديان خاصة مع الإشارة النصية التي ذكرت علاقة إبراهيم ونوح والتواصل العقيدي بينهم (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) الصافات83 ، بالنتيجة أن عصر نوح ودينه وملته هي الأساس الأكيد لملة وحنفية إبراهيم الخليل.
هذا يجرنا أيضا للبحث في دين نوح وما هي خطوط منهجه ورسالته للناس ومدى علاقة وتأثير ذلك عليها وما لحقها من تأريخية أختلطت بها الحقيقة مع الأسطورة، فالتاريخ القديم للعراق موطن ومولد إبراهيم قد بدأ بشكل بارز ومؤكد بعد الطوفان على أقل تقدير، فقضية الطوفان ونزول نوح وأولاده وتفرقهم في الأرض كل منهم يحمل هذا الدين له علاقة في تاريخ التدين في العراق، لا سيما أن هذه الحضارة العراقية القديمة لم تخلو من فترات توحيد وعبادة حنفية أو رسالية واضحة المعالم، حتى أن بعض كبير من المفاهيم الدينية التي تؤمن بها الديانات الإبراهيمية جذورها تمتد عميقا في الحضارة العراقية القديمة، منه الحياة الأخرة والطقوس والعبادات المتعلقة بالله وبخلوده بأعتباره القوة الوحيدة التي لا يمكنها أن تموت أو تختفي .
فلا بد إذا أن إبراهيم وطبقا لكونه عاش هذه المفاهيم وتعايش معها ولا تتعارض مع فكرة الحنفية ومن قبله أيضا نوح وما بينهما من أنبياء، أمنوا ونقلوا هذه المعتقدات التي لا تخالف ولا تتعارض مع إيمانهم الخالص لله، فلا عجب مثلا أننا نرى اليوم وتحديدا في العراق الطبيعي والجغرافي وليس الرسمي أن كثيرا من طقوس الصلوات وأحياء ذكريات الموت وعلاقة الموتى في الأرض هي جزء من ذلك العالم القديم، عكس بقية الحضارات المجاورة جغرافية كالحضارة الهندية وتفرعاتها التي كانت تركز على الفناء الدنيوي بتطهير أجسد الموتى بالنار مثلا، هذا الأستنتاج واقعي ومرتبط بهواجس الحضارة القديمة ومفاهيمها التي نشأت في بلاد وادي الرافدين وأنتقلت عبر الأديان لتصل إلينا بشكلها الراهن .
فمن المؤكد من خلال كل ذلك أن ديانة نوح ومشايعه إبراهيم ثم تجسدت تدوينا بألواح موسى التي هي شريعة دين اليهود تثبت أن الدين اليهودي لم يولد مقطوعا من جذور الحضارة العراقية القديمة، ولم تنقطع الصلة بين الصورة الجديدة والمصدر الأول، لذا نلاحظ أن اليهود في السبي الأول والثاني وبالرغم من نشأتهم المصرية ووجوب تأثرهم أكثر بالحضارة الفرعونية، إلا أنهم سرعان ما أندمجوا بالحضارة العراقية وحاولوا أن ينقلوا الجزء الأعظم من معتقداتهم ما بعد السبي من الواقع والديانة العراقية القديمة، أولا لتشابه الأفكار والدلالات بجوهرها العبادي، وثانيا لأنها كانت تتلائم مع أصول دينهم المدون بألواح موسى ، ومنه أنتقلت الأركان الأساسية إلى بقية فروع الدين الإبراهيمي حتى وصلت بصورتها الكاملة والناضجة في دين الإسلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س


.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: صيغة تريتب أركان الإسلام منتج بش