الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءة التاريخية كيفاً _ عبد الكريم سروش مثلا

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 8 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الفكر الإنساني بطبيعته الذاتية وليس كمنتج إنساني فقط له قابلية للتطور والتغير والتبدل وفقا لما يعتاش عليه ويؤسس له من التجربة الواقعية وكيفية تعامله مع الواقع عموما وموضوعه الخاص خصوصا، فهو دوما متحرك للأمام ويتعامل مع الزمن واستحقاقات قوانينه بروح ديناميكية متحركة، لذا نجد انه كلما كان الفكر قابلا للقراءة المجددة وقادر على الموائمة يكون أكثر قابلية للحياة وللتطور، وفرض اهدافه ورؤاه كعامل يساهم في السيرورة الوجودية ويقودها للرقي وصولا إلى غائية الانسان من الوجود، وهذه من الحقائق الثابتة التي لا ينكرها العقل وتصدقها التجربة الحسية البشرية.
من هنا فإن الكشف الدائم عن مواطن الضعف والقوة للفكر شيء أساسي ومهم في عملية النقد الفكري، الذي يمنح الفكرة قوتها ويكشف أيضا عن توليد معرفة متجددة تتصل به وتتفرع عنه وتؤسس لما بعده، وتتوصل مع حركة الوجود وتفسر وتعلل ما يمكن ان يجعل لهذا الفكر من مشروعية في الاثر والتأثير بعيدا عن التحجر والتخشب الذي يمنع من التجديد والتحديث والمسايرة، لذا قيل أن الفكر الحقيقي هو الفكر السيال الذي لا ينقطع عن السير في الزمن للحد الذي يمكنه في المجاراة والتأثير والتأثر أيضا.
الإسلام كدين يطرح أمام القارئ مرة كفكر معرض للنقد والتمحيص والدراسة للوصول فيه لليقين، دون ان تمس قدسيته المفترضة لأنه أساسا كما نفهم خطابا للعقل، ولم يفرض كحقائق ثابتة قاطعة ومطلقة ولكنه أيضا ليس ضنيا بالأساس ولا قابل لأن يتجاوزه الزمن بفعله المحرك للحياة، وهذا امر طبيعي وقد ورد هذا الفرض كحقيقية في حوارية النبي إبراهيم عليه السلام مع ربه {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}البقرة260، كان النبي إبراهيم موقنا وقاطعا بالجزم بهذه اليقينية ولكن المراد ليس العلم الذاتي به، بل ليكشف ويكتشف لغيره هذه الحقيقة، حقيقة أن الدين والإيمان به لا بد أن يمر عبر امتحان العقل ومحاكمة اليقين.
ومرة أخرى يطرح الدين كأنه نتيجة تأريخية للقراءة البشرية له، وهذه القراءة لا بد ان تتنوع وتتعدد تبعا لسياليه الفكر الذاتية وقدرته على الإنتاج المعرفي المتطور والمتجدد، حسب ما يفرضه الواقع التأريخي من معطيات تسمح للممارسة النقدية أن تأخذ دورها الفاعل في الكشف عن حقيقة الفكر الديني المنتج بشريا، لا بحقيقة جوهر الأصل الديني بالذات، وهذا التفريق ضروري لبيان القراءة والمقاربة التأريخية للفهم إذا أردنا أن نجعل من الدين محرك حقيقي وقائد للعقل الفكري المتدبر والمدبر لسيرورة الحياة ذاتها.
هنا يكون من حق الإنسان أن يعيد قراءة الدين ويؤسس له فهم خاص به ليكون مسؤولا عن نتائج إيمانه أو عدم إيمانه بالدين ويتخلص من مقولة وجدنا أباءنا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}المائدة104، ومن محاسن الفكر الإنساني أن بذور الشك فيه لا تنفك من أن تراود العقل الإنساني دون أن تنقطع لحظة عن فعلها ونتائجه، والشك دوما مع العقل النقدي والمنهج العلمي يوصلنا إلى الكثير من المعرفة المتجددة ويفصح عن كشف خبايا الفكر وما يخفى على المتسالم به دون فحص، فكلما تعمقت في البحث وتتوسع في دائرة الشك تصبح المساحة أوسع للكشف عنها وتتشعب لتشمل في الأخر حتى ما يمكن أن يعد ثابتا ومطلقا أبتدأ، وهنا تكمن أهمية النقد والشك في تقويم الفكر ودورهما في الوصول الى حقيقة المراد الفكري ككل، وهذا ينطبق بجدية على الدين كفكر وليس كجوهر فطري.
الخلاصة التي نريد ان نشخصها هنا تتمحور حول الفصل بين الدين كفكر قابل للقراءة المتعددة وعلى أعادة القراءة في كل مرة وهذا حق طبيعي لكل إنسان، سواء أكان مؤمنا به أو غير مؤمن ،ولكن من حقنا ايضا أن نسأل القارئ الجديد عن منهجيته في القراءة وعن برهان النتيجة التي توصل لها قبل أن يجعل من نتائج القراءة مسلمات له ويريد أن يسوقها كحقائق، كما أن من حقنا أن نعيد قراءة هذه القراءة سواء أكانت نقدية أو استكشافية استنباطية أو استقرائية وممارسة نفس الحق الذي منح له، وبين الدين كضرورة لها امتداد في جوهر الوجود وجوهر الذات الإنسانية، وكحقيقة أجتماعية وليست تأريخية وإن فصلنا بينها وبين القداسة التي لا تظهر إلا من خلال اليقين المتأتي من حتمية الوجود القائم بقوانينه.
لذا ونحن نستعرض بالمنهج النقدي العلمي لقراءة الدكتور عبد الكريم سروش للدين المحمدي فإننا نضع في الأعتبار هذه الحقائق التي سطرنا جوهرها هنا، والتي نؤكد من خلالها أننا كمفكرين لا نستخدم النقد سلاحا للقمع الفكري ولا نريد منه ان يكون كذلك، ولكن لنجعل منه ممارسة معرفية قصدها التحري عن اللوازم التي نحتاجها في تأسيس ثقافتنا وتصوراتنا عن الوجود بالوجه الأصح، والقادر على التفسير والتبرير للكثير من الاشكاليات الفكرية والعقيدية.
القراءة بوصفها الذي يأخذ منها العنوان جوهر ستكون متعددة حسب المنهج الذي يتبعه القارئ وينحاز له معتمدا على أدوات محددة، ليس من خياره الخاص بل من افتراضات الزاوية التي يقرأ منه وما يفهمه من مرادات هذه الزوايا، فالقارئ النقدي مثلا عندما يقرأ الفكرة لا ينظر لها بعين السيكولوجي ولا بأدوات الرمزي ولا باستحقاقات التأريخ مثلا، أنه يبحث عن مواطن محددة تشكل له بيئة يطبق عليها منهجه النقدي الذاتي ووفق رؤيته لمعنى النقد ووعيه بالمنقود، متسلحا بالمعرفة التي يتنافس بها لأجل أن ينتج منها فكرة خرى.
فلا يمكن مثلا لمؤرخ أن يمارس فنه النقدي إلا من زاوية التأريخ لأن معطاه الأولي مبني على فكرة التأريخية وأدواتها الزمن الروائي وحقائق التدوين وما بينهما من روابط ومستلزمات فكرية ومنهج يوصل به إلى معرفة حركة الحدث تأريخيا ومن ثم يجري عليه الحكم النقدي، دون أن يكون ملزما مثلا بمراعات الجانب المعرفي خارج معرفته للتاريخ، مثلا وغير ملزم باستخدام علم النفس أو علم اللغة في بحثياته وإن كان يستعين ببعض مفرداتها، ولكن ليس كعلم ومنهج متكامل وهذا اصلا خارج وظيفته الأساسية.
إنه يفهم التأريخ كما يفهم الطبيب مثلا علم الجراحة ولكي تكون ناجحا كطبيب لا يلزمك هذا أن تلم بالتأريخ الطبي أو تأريخ علم الطب، لكن المؤرخ الطبي الذي يؤرخ لعلم الطب لا بد له أن يكون ملما بأجزاء واسعة من ثقافته بعلم الطب، لأن من يؤرخ في موضوعية الطب وعليه أن يفهم مفردات علم الطب ويدركها بخصائصها، لئلا يقع بالتوهم والتشابك المعرفي مما يفقده الجدارة لأن يكون مؤرخ طب، هكذا هو الحال عندما نقرأ الدين بروح التأريخ ونمارس منهجنا النقدي عليه، لا بد أن نكون مؤمنين أو على الأقل نتوفر على وعي بما نؤرخ له أو نتعامل معه تأريخيا حتى لا تختلط الأمور ونقع في الجهل المركب في التاريخ وفي الدين وبذلك نفشل في القراءة وفي النقد أيضا.
شرط التأريخية الأول ان تعي لتأريخ وتفهمه على أنه ليس سجلا فقط للفعل البشري وسرد لقصة الوجود، هذا تبسيط غير علمي للتأريخية وتجهيل حقيقي لمعناها، الفهم التأريخي بالأساس هو فهم استنباط قوانين المستقبل من خلال حركة الماضي والحاضر حتى يكون بإمكاننا التنبؤ والقياس للفعل القادم وتوقع الحركة التالية منه، بذلك يساهم التأريخ في تعزيز فرصة تحقق الكمالات البشرية، إذا ما قيمة التأريخ إن كان يخبرني عن بطولة فلان وشرح تفاصيل واقعة فلان دون أن يبين لي القيمة المرجوة من هذه الحكاية أو تلك، حتى في النصوص القرآنية التي تناولت الحدث بأسوب تأريخي كقصص الأقوام والبشرية التي سبقت، كان وراءها هدف ليس لسرد القصة واستظهار واستحضار واقعها، بل ساهمت في بلورة فهم لبعض المعاني والدلالات التي يراد من وراء سوقها أن تؤسس لشيء جديد خارج سياق الزمن الماضي.
لا بد أن نفرق بين تأريخية الفكر الديني ونقد هذا التاريخ لنخرج من بين طياته وملفاته حقائق إصلاح للواقع وللوجود، وبين أن نفهم الدين كواقعة تأريخية سجلها السرد التأريخي خارج أطارها الروحي والفكري، أي أنه جردها من الروح والجوهر ولا بد ان نمارس عليها لنقد وهي ميته وهي خالية من جوهرها كما يدرس الطب كتأريخ خارج الواقع الإنساني ذاته، هل يمكن أن نفهم كيف تطور الطب دون ان نفهم الوقائع التي ساعدت على هذا التطور وأن نفهم كميت التضحيات التي قدمتها البشرية بالأرواح والأنفس قبل أن نصل هذا لتطور، أنها مفارقة أن نجرد الفكرة من جوهرها ومن روحها المحركة، الدين فكر ذو جوهر وروح يتحرك بالوجود وينتج أثره وتصورته وأحكامه من خلال الروح والجوهر، وهما الإيمان الفطري بصورية وشكلية وكونية علاقة الارض والسماء ورسم أفاقهما ليتحول ذلك إلى ما يشبه الحاجة المستجدة على الدوام.
للناقد التأريخي حتى يكون منصفا ومتجردا في عمله أن يرى بنفس العين والمنهج لكل ما يمر به ويطبق ما يعتقد ويؤمن به حتى على فكرته النقدية ذاتها، ولا يستثني نفسه منها لأنه بهذا سيكون لا علميا ومنحاز وجاهل جهلا مركبا، لا تشفع له تأريخيته المزعومة إن لم يؤمن بها سلفا، فلو طبقنا مثلا نظريته القائلة بسلفية لأحكام القرآنية ومدى تأثر فكر القرآن الكريم بها كما يقول سروش (فلو نظرنا إلى المجتمع العربي آنذاك لأدركنا أنّ هذه الأحكام كانت سائدة ومتداولة لدى العرب في ذلك الوقت أو كانت شبيهة لها كثيرا)، لو طبقنا نفس المبدأ على دراسته النقدية للدين المحمدي أو ما يسميها المقاربة التأريخية لفهم الدين على ما يقول، سيكون من السهل علينا أن نقول _ لو نظرنا إلى المجتمع الفارسي قديما وحديثا لأدركنا أن دعوة سروش سائدة ومتفشية فيه، بدليل أن كل الأصوات الشعوبية والحركات المناهضة للفكر الديني المحمدي والتزندق والإلحادية تخرج من المجتمع الفارسي، وهذه حقيقة تأريخية لا يمكن إنكارها، وبالتالي فصوت سروش واحد من هذه الأصوات أو أنها شبيه لها كثيرا_ هنا لا يمكن ان ينكر سروش القاعدة التي بنى عليها فكرته وإلا عد رجل عبثي لا فكرة علمية يمتلكها ويدافع عنها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص


.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح




.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة


.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا




.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س