الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب السبعينات بين النجف وبغداد (2)*

جعفر المظفر

2020 / 8 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


طيلة عهود الدولة العراقية المدنية التي كانت قد تأسست بعد إنهيار الدولة العثمانية التركية ظل علماء المرجعية في النجف, بدرجات مختلفة, محافظين على حالة (الكيان الموازي) التي كانوا ورثوها في أثناء وجودهم تحت ظل الحكم العثماني. وثمة ما أتاح لفكرة الكيان الموازي ان تنتعش ان العثمانيين أنفسهم لم يكن يهمهم من أمر العراق شيء أكثر من كونه موقعا لتحصيل الجبايات المادية ومصدرا لمد جيشهم بالجند, وهي عملية كانت على مستوى كبير من الأهمية وذلك لسعة أراضي الأمبراطورية العثمانية الواجب الدفاع عنها. كما أن السلطات العثمانية كانت تستعين برجال الدين الشيعة لأجل إطفاء خلافاتها مع العشائر العربية الشيعية المتمردة.
ودون الدخول في تفاصيل العلاقات المتشعبة بين شيعة العراق وبين الدولة العثمانية, ومنها ما هو سلبي بحكم حالة الصراع والحروب التي حدثت بين الدولة الصفوية والعثمانيين, ولكون العراق إسلاميا ثنائي المذهب, على خلاف الكثير من البلدان العربية التي كانت لا تشكل كما العراق عمقا إستراتيجيا لصراع الأطماع بين العثمانيين والصفويين, فإن إعلان العديد من علماء النجف من الشيعة وعبر فتاوى دينية ملزمة القتال إلى جانب العثمانيين (المسلمين) ضد جيوش الحلفاء (المسيحيين) لم يكن ليتأسس إنطلاقا من الوفاء للمشترك الديني في وجه الإحتلال الغربي (الكافر) وإنما أيضا لأن أولئك المراجع كانوا يدافعون في الأصل عن دولتهم, أي (الكيان الموازي) الذي كان قد نشأ برضا وقبول عثماني, ولأن وعود دول الحلفاء وشكل دولهم وأنظمتهم المستقبلية كانت تبشر بقيام دول مدنية علمانية لا يمكن إلا أن تتعارض مستقبلا مع مؤسسة الكيان ومصالحها وخطابها الديني الذي لم يكن قد وجد معارضة نوعية من لدن العثمانيين الذين وإن كانوا يتبعون المذهب الحنفي إلا أن تبجيلهم وإحترامهم لأهل البيت الذي يدين لهم الشيعة بالولاء والتبعية كان مصدرا لتوثيق العلاقة مع الشيعة العراقيين.
على الطرف الثاني, سنة العراق لم تكن لهم مرجعية دينية من خارج المرجعية العثمانية نفسها. ولأن غالبيتهم تتبع المذهب الحنفي, كما العثمانيون, ولأنهم من الناحية المذهبية كانوا متناغمين أيضا مع الإمبراطوريات السابقة (الأموية والعباسية) وأنهم في الغالب لم يخاصموا تلك الدول منذ تاريخ نشأتهم, أي أنهم لم ينشأوا كما الشيعة في مساحة المعارضة مع تلك الدول, فهم لم يكونوا بحاجة إلى مرجعية مذهبية مستقلة غير تلك التي مركزها في إسطنبول, بل نراهم كانوا من حيث الفتاوى الدينية تابعين لمفتي الديار الإسلامية العثماني, وإن حساب الأمر في النهاية يجب أن لا يغفل البتة عامل الإنحيازات الدينية والمذهبية حينذاك وخوف السنة العراقيين من الأطماع الإيرانية في العراق, ومعروفة هي الخسائر البشرية التي كان يعانيها أنصار كلا المذهبين السني والشيعي نتيجة للصدامات الصفوية العثمانية على أرض العراق.
وقد جعلهم هذا الأمر, والمقصود هنا (السنة), بلا حاجة إلى (كيان موازي) كذلك الذي حصل عليه (الشيعة) بحكم ترعرعهم في ساحة المعارضة التاريخية التي أنجبت إحتداماتها وصداماتها حالة من التعايش مع سلطة الخلفاء والسلاطين وأعطتهم بالتالي ذلك (الكيان الموازي) الذي ظل يتبع مرجعياتهم الدينية المذهبية وعلى رأسها مرجعية النجف, فالسنة, بتعبير آخر كانوا جزءا من الدولة العثمانية في حين أن الشيعة العراقيين كان لهم كيانهم الموازي ضمن حالة الدولة العثمانية.
في إتجاه آخر, هذا الإختلاف في النشأة والتكوين وصيغ التعبير عنه, وحالة الموالاة والتواصل السني, قد ساهمت كلها بتسهيل وصول العديد من سنة العراق إلى مدنٍ كإسطنبول وأنقرة حيث فتحت لهم أبواب العمل في الجيش والوظائف الأخرى, فصار لهم ضباط محترفون من داخل المؤسسة العسكرية العثمانية نفسها. هؤلاء سيكونون في المستقبل, أي بعد إنهيار الأمبراطورية العثمانية, نواة تأسيس الجيش العراقي, وذلك بعد إنضمامهم للثورة العربية الكبرى التي كان يقودها الشريف حسين من الحجاز الذي وقف إلى جانب الحلفاء الغربيين في الحرب العالمية الأولى على أمل أن تكون هناك دولة عربية واحدة برئاسته, وهو وعد سرعان ما تخلى عنه الحلفاء وتم بديلا عنه العمل بإتفاقية ساكس بيكو التي قسمت العرب إلى دول عدة كان من ضمنها الدولة العراقية المدنية برئاسة الملك فيصل.
ولهذا فقد بات من الحق إعتبار سنة الدولة العثمانية, من العراقيين المنضمين إلى ثورة الشريف حسين ضد العثمانيين, سياسيين مدنيين ولا علاقة لهم بالدين السياسي, بل كانوا ثائرين ضد دولة الدين السياسي العثمانية, اي أنهم باتوا منحازين "قوميا" ضد دولة الخلافة الدينية, وقد ساهم ذلك برفع درجة إستعدادهم للإلتحاق بثورة الشريف حسين في الحجاز لأجل بناء دولة عربية خارجة على عصر الدين السياسي.
على الجهة الأخرى كان الشيعة العراقيون في تلك المرحلة المفصلية, وبفعل وجود كيانهم الموازي المحكوم من قبل قيادة قائمة على التحالف الوثيق بين رجال الدين وزعماء القبائل وشيوخ الإقطاع, كانوا يعيشون (حالة ساكنة) وغير متأزمة بل ومتعايشة مع الدولة العثمانية لأن كيانهم الموازي كان على مستويات عدة نتاجا لحالة الدولة العثمانية. بالمقابل كان عسكريو السنة المتواجدين أصلا في قلب الإمبراطورية العثمانية يعيشون حالة متحركة وفاعلة ومتخاصمة مع حالة الإمبراطورية العثمانية وميالون للإنتفاض ضدها, لذلك رأيناهم يصطفون سريعا مع التحالف الغربي ليكونوا جزءا من الثورة العربية في الحجاز ومهيئين لتشكيل قيادات الدولة العراقية الجديدة التي أنشأها الإنكليز كإحدى إفرازات ثورة العشرين.
على الطرف الآخر كانت المراجع الشيعية ودوائر الخلافة العثمانية قد حدّت من وصول عناصر شيعية إلى مدن القرار العثماني وخاصة إسطنبول, وبهذا ظل الوجود الشيعي العراقي يتحرك ضمن كيانه الموازي, إذ لم تسنح له فرصة التحرك خارج الزمن الديني العثماني الذي صار على أبواب أن يصبح حكاية من الماضي.
ويمنحنا هذا المشهد الزمني المفصلي قدرة كبيرة على فهم طبيعة الدولة العراقية القادمة بعد إنهيار الخلافة العثمانية وهيمنة الإنكليز على العراق وإقامة الدولة الملكية برئاسة الملك فيصل ومن ثم إبتعاد رجالات (الشيعة) عنها, بل ووقوف الكثيرين منهم على عكس أقرانهم من (السنة), إلى جانب دولة الخلافة ضد الحلفاء وذلك من منطلق ديني بوصفهم لم يغادروا الزمن الديني كما أقرانهم السنة الذي عاصروا عن قرب تلك المتغيرات التي أدت إلى زوال دولة الخلافة فتهيأوا بالتالي ليكونوا قادة للدولة العراقية الجديدة.
إن السنة العراقيين على المستوى السياسي والعسكري دخلوا في حالة التناقض القومي مع الكيان العثماني, في حين أن البنية الشيعية بشكل عام لم تكن مهيئة لتأجيج حالة التناقض القومي مع العثمانيين لأن كيانهم الموازي قد جعلهم أقرب إلى الدولة العثمانية منهم إلى الحلفاء الغربين وثورة الشريف حسين المتعسكرة معه ضد الدولة العثمانية.
هذا السياق التاريخي قد أدى من ناحيته إلى ولادة عراق معوق, وسيكون التوصيف المهني والموضوعي لهذه العراق, الخارج من الرحم العثماني والخارج عليه, أنه دولة بقيادات عسكرية ومدنية سنية لكنها بمجتمع منقسم على نفسه إلى سنة يتبعون (الدولة) وإلى شيعة يتبعون (كيانهم الشيعي).
وإن هذا العراق المعوق كان قد ورث بكل تأكيد مشاكل أخرى كالكردية مثلا والآشورية, غير أن مجال إهتمامنا هنا قد دفعنا إلى التركيز على حالة الصراع ما بين (الكيان الشيعي) والدولة العراقية الملكية الجديدة المدنية التكوين والسنية القيادات.
في هذا العراق المعوق, الخارج من من عهد الدولة الدينية إلى عهد الدولة المدنية, ستجد الدولة العراقية الجديدة نفسها بالحتم في مواجهة الكيانات الدينية والسياسية الموروثة من عهد الدولة العثمانية.
أما الكيان الشيعي الموازي فسيجد نفسه في مواجهة تحديين في نفس الوقت:
الأول ذلك الذي رتبته تلك النقلة الكبيرة والمفصلية الحاسمة من عصر الدولة (الدينية) العثمانية إلى عهد الدولة (المدنية) العراقية, والتي كان صعبا عليها السماح بوجود كيان في جسم دولة كما كان الأمر في أثناء الحكم العثماني, فإنتحت عبر تحولاتها وسياقاتها الجديدة إلى إعادة صياغة علاقة الكيان الشيعي مع الدولة المدنية.
أما التحدي الأصعب الذي واجهه الكيان الشيعي فتمثل بمغادرة الكثير من الشيعة أنفسهم مساحة (الكيان) إلى مساحة (الدولة) وذلك نتيجة للتحولات المرافقة لعملية بناء الدولة العراقية الجديدة. ولهذا صارت قيادة الكيان الشيعي في مواجهة أن تفقد (شعبها) بعد أن تمت عملية النزوح الجماعي الشيعي إلى المؤسسات العسكرية والمدنية, من جيش ومدارس ومعامل صغيرة وأحزاب سياسية وما شابه من فرص لم تكن موجودة في عصر العراق العثماني الذي كان يعيش في مرحلته القروية والبدوية والإقطاعية المتخلفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*القسم التاسع ويليه القسم العاشر من قراءة لدور محمد باقر الصدر في التمهيد للحرب العراقية الإيرانية والذي سيتطرق, للمخاض الذي عاشته المرجعيات الدينية الشيعية والذي أدى إلى بروز الصراع بين مرجعية الكيان الموالية لخط الإمام الحسن (الحكيم والخوئي) المتعايشة مع الدولة الملكية والجمهورية وصولا إلى مرحلة السبعينات التي أنضجت فكرة الخروج, من الكيان وعليه, بتأثير من أفكار محمد باقر الصدر والخميني لأجل تأسيس دولة الفقيه ونائب الإمام الغائب, وهي مجموعة تدعي الإنحياز لنهج الإمام الحسين الثائر حد الإستشهاد ضد الدولة (الأموية الكافرة).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر | الأقلية الشيعية.. تحديات كثيرة يفرضها المجتمع


.. الأوقاف الإسلامية: 900 مستوطن ومتطرف اقتحموا المسجد الأقصى ف




.. الاحتلال يغلق المسجد الإبراهيمي في الخليل بالضفة الغربية


.. مراسلة الجزيرة: أكثر من 430 مستوطنا اقتحموا المسجد الأقصى في




.. آلاف المستوطنين الإسرائيليين يقتحمون المسجد الأقصى لأداء صلو