الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءة التاريخية كيفاً _ عبد الكريم سروش مثلا 3

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 8 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


عبقرية أم نبوءة

هذه العبقرية التي أنشأت هذا الدين والعودة إلى افتراضنا الأول لا بد لها من مكونات ومعطيات تصبغها برح العبقرية وتبلور مقوماتها وتكشف عن بدايتها وأسس وركائز الفكرة التي نتجت عن عبقرية النبي، حتى يتمكن من أن يبني فكرة تقود مجتمع جديد نشأ على أنقاض ما هو متأصل من سلبيات في الروح البدوية، ويعكس نظرتها للحياة والوجود والسماء وعلاقتها بالأرض، ناهيك أن المثال الذي يسوقه سروش دائما لا يتعلق بأسس الدين الجديد ولا بمقوماته الكلية، إنما هي تحديدا في قضايا اخلاقية لا ننكر أن الإسلام في البعض منها خفف حدة القسوة فيها أو لطف من أحكام بعضها، بل أبقى على الكثير من القيم العربية التي تتلاءم مع كونية الإنسان وروح إنسانيته كالكرم والشجاعة والنبل والوفاء بالعهد.
يؤكد سروش على حقيقة لا ننكرها وهي تمثل بصورة ما على ترابط العبقرية مع صورة المجتمع لها وكيف يفهمها، لو أخذنا مجتمع مكة مهد الدين المحمدي نجد أن مفهوم العبقرية يتجسد بالأبداع الشعري دون غيره، على حقيقة أن الشعر يمثل اعلى درجات الوجدان الحسي الشعوري عند العربي، ويتدرج في عظمته بالقدر الذي يتصل بالملهم له وهو الشيطان الشعري، لذا فإن ما يكون خارق وعبقريا لا بد أن يكون مرتبطا به (بالشيطان) وليس غير ذلك، وهو ما حرمه النبي على نفسه كي ينجو من تهمة إلهام الشيطان له (أنّ النبي بما له من مقام النبوة والزعامة الدينية لا ينبغي أن يخلط كلامه بشعر، فلا ينبغي للنبي أن يتحرك في عمله وكلامه بحيث يقال إنّ قوة الخيال في هذا النبي شديدة وحاكمة على تصرفاته. وخاصة إذا علمنا أن العرب الجاهليين كانوا يرون أن الشياطين توحي للشعراء) ، هذه الإشارة والتي أظنها غير بريئة بالمرة توحي إلى أمر أخر أن محمدا نبي العرب ووفقا لقياسات مجتمعه كان بأتصال مه شيطان الشعر أو بالشيطان عموما، وبالتالي فما جاء به لا يكون خارجا عن مرادات شيطان العرب.
لا بد هنا أن نحدد للنبي نوع العبقرية التي جادت بهذا الدين وصاغته وبسطته في مجتمع مكة الذي لا يفهم العبقرية خارج حدود الإلهام الشيطاني، وكيف تمكن من تصور وتشريع عقائد مثل التوحيد والعدل والبعث والحساب لا يمكن أن تنشأ في مجتمع لا يعرفها البته، ولا يؤمن بها أصلا بل تتناقض بالكلية مع معتقداته، وتتناقض أيضا مع فهمه للشيطان وعن مصدرية ومقدمات هذه القضايا التي تطرق سمعه لأول مرة، فالعرب وبمقتضى ما أورده سورش لا يعرفون عن الشيطان إلا ما ورد عن أدبيات الأديان الأخرى والصورة التي تجعل منه عدوا لله وللمؤمنين، ومن هنا فالوحي الشعري الشيطاني هو بنظرهم من جنس المعجز البشري الطبيعي الذي لا يكون متاحا لأي أحد، لأن الشيطان فقط هو من يملك أدوات الإعجاز بحسب قدرته وقوته التي تتفوق على البشر.
أما من جانب أخر وحسب ما يرى سورش من تأثيرات النصرانية مثلا على أسس الدين المحمدي والتي زاوج فيها النبي مع بيئة البدو والجاهلية كما يقول ليقدم لنا صورة الدين الجديد، فهذا لا ينكر كون فكرة الدين الجديد والتي أكد عليها أنه ضمن سلسلة من الأديان التي يجمعها أس واحد وهو الإسلام الإبراهيمي بمبادئه الأساسية، وحتى لو سلمنا بالتأثير الخارجي فإن هذه المؤثرات وبالذات النصرانية فيها الكثير من النقض والمصادمة مع أصول وفروع الدين المحمدي والمنتقدة منه لأنها وكما يقول القرآن تعرضت للتغيير والتحريف، وهذا يستلزم أيضا صورة لعبقرية بلا حدود للنبي لكي يصل إلى شيء غير ممكن استحضاره في تأريخية وجوده ونشأته في مكة المشركة البدوية ذات الميل العصبي لجاهليتها حتى بالأديان الأخرى، وعليه لا يمكن القبول بهذا الفرض دون دليل يثبت كيفية تكونت هذه العبقرية وصور النشأة والتكوين بل مجرد إدعاء خالي من سند وحجة وجيهة.
هذا الإدعاء بالعبقرية يتعارض مع قول عبد الكريم سروش أن كل ما موجود بالفقه الإسلامي له قواعده ومعطياته في الواقع الاجتماعي العربي، بل يجزم أن كلية المعرفة الدينية التي جاء بها الإسلام إنما هي ليست غريبة ولا مستنكرة في مجتمع مكة، بل ويقطع أن الدين المحمدي لم يأت بجديد على مستوى العقائد والأحكام والأفكار الأخلاقية فيقول (فلو نظرنا إلى المجتمع العربي آنذاك لأدركنا أنّ هذه الأحكام كانت سائدة ومتداولة لدى العرب في ذلك الوقت أو كانت شبيهة لها كثيراً، وأساساً فلا يوجد حكم جديد فيها )، أي أنه لا يفصل بين حقيقة أن وجود أقلية ما تؤمن بهذه المبدأ قد تكون هي منشأها ومحلها التكويني وقوله بكون المجتمع العربي مجتمع جاهل أمي متوحش لا يفقه من الحياة غير شروط البدوية، فيتخلص من هذا التناقض بهذا لأطلاق العام الشامل بدون تبرير له ولا شرح كيف يتوافق الجاهلي مع المجتمع الديني الذي يؤمن بالقيم والأحكام الدينية والعقائد المتنوعة، وبذلك إنما يراوغ في تسويق مشروعه الفكري بإفراغ الإسلام من روحه الإيمانية التي تبشر بمجتمع مختلف وقواعد وأسس مختلفة ليمنح فكرته شيئا من المعقولية التي يمكن ان يتقبلها الناقد والدارس .
هنا من حق القارئ ان يتساءل إذا ما قيمة الدين وما هو المرتجى منه إن لم يكن يمثل حالة جديدة تسعى بما فيها من قيم لنقل المجتمع والإنسان من حالة التسافل إلى حالية السيرورة في طريق الكمال البشري؟ وكيف تسنى للنبي أن يصنع أمة بخلاف ما كنت عليه من جاهلية حطمها وسعى لعدم تجديد مقوماتها بما أتي من أحكام؟ ولماذا لم يكن هذ المجتمع التي توفرت فيه أساسيات التطور وخزنت معارفه بمبادئ الدين المحمدي قبل التشريع به أن ينتقل ذاتيا لمراحل شهدها بوجود هذا الدين؟ هل كان الخلل في الأحكام أم في المجتمع؟. تساؤلات من هذا النوع هي التي تكشف تتهافت هذه المقولة وعدم جديتها بما تمتلك من خرافة فكرية ترمي إلى أبعد من القراءة التأريخية.
أما أن يجعل هذه العقائد والأفكار وليدة المجتمع بعامته ففيه بعض التجني على الواقع التاريخي والذي تم فحصة ودراسته من الناحية الوقائعية ومن ناحية الفكر التاريخي والتي تنفي في مجملها هذا الادعاء، ونأخذ مسألة التوحيد مثلا وشيوع عبادة الآلهة المتعددة والمجسدة بمسميات وأشكال حسية وطريقة التعبد ومفاهيم الحساب والعقاب وأخلاقية الإنسان المؤمن بالله، فلا تتطابق مع مجتمع مكة الوثني متعدد الآلهة ولا محيطها النصراني يؤمن بالوحدانية المطلقة التي جاء بها الاسلام لا تقريبا ولا أصلا، بل أن فكرة التعدد تتناسب مع شعور القبيلة العربية التي تشكل اجزاء المجتمع العربي المعتزة بانفرادها، بعبادة إله مقدس مخصوص أمر لا يمكن إنكاره كما لا يمكن أن نخفيه عن عين المؤرخ الدارس والباحث عن الحقيقة، فكيف جعل من النقيض قاعدة لأسس فكرته للقراءة التاريخية للدين عليها وهي مخالفة أصلا لمنطقية التاريخ ذاته.
إذا سلمنا بأن الدين المحمدي ليس أكثر من تجربة تأريخية خاضها النبي متسلحا بعبقرية فائقة وتراث حقيقي قادر بالقوة أن يتحول بلمسة فكرية إلى هذا الدين، الذي كان عاملا محوريا في التاريخ والواقع الاجتماعي الإنساني فمن السهل أن تتكرر التجربة مع توافر عنصريها العقل والتراث، وسنشهد ولادات كثيرة لنمط مختلف من الأديان تتمخض عنه وعند الكثير من المجتمعات أيضا تجربة أخرى مع دين جديد، لنعيش عالم جديد أسمه عالم الديانات المشخصنة بدعاتها ومبتدعيها، وهنا أيضا لا بد لله أن يعطي صكوك الإمضاء والإبراء لهذه الديانات ليشهد زورا على عدم أهليته الذاتية لرسم وجود صاغه هو وركبه وخلقه بإبداع ليترك للإنسان حرية لعبث به دون أن يحرك ساكنا.
من المؤكد أن التجربة أي كان شكلها لا بد لها أن تكون متعددة بتعدد معطيتها وتفرق مؤدياتها، وبالتالي فتكرار وتعدد التجربة أمر مفروغ منه ولا ينكره الدكتور عبد الكريم سروش أيضا، بل أن في داخل التجربة ذاتها روح التعدد وهذ ما يؤكده بقوه (إنّ بحث التعددية يتعلق بالتدين المعرفي لا التديّن المصلحي، والتعارض الحاصل بين الرأي القائل بالتعددية مع الرأي المخالف له من داخل الدين إنما هو من جنس التعارض بين الفلسفة والدين، أو بين العلم والدين، حيث يتحد طريق الحلّ في الجميع، وهذا التحكيم التاريخي والجمعي إنما هو من شأن طائفة المتدينين المحققين) ، فما كان ممكنا وحقيقيا لمرة واحدة ممكن وجائز الحدوث على الدوام طالما أننا ننظر للموضوع من ناحية كونه تجربة تأريخية فقط قادها البشر وكانت نتاج واقع محكوم بما فيه.
يقول سروش في هذا المنحى قولته المشهورة التي تؤكد وتجزم بتأثر صورة الدين وشكليته وارتباطها بالواقع، وبالتالي فالقراءة التأريخية هي التي تكشف جوهر التجربة الدينية بمعزل عن حقيقية إلهية الدين (إنّ إله العالم عندما خلق البشر وقذف بهم في أجواء الفكر فإنه خلق لهم لغات وعوالم مختلفة وجعل العلل والأدلة متنوعة وأقام في طريق العقل مئات العقد والمنعطفات الفكرية، وبعث الكثير من الرسل واصدر نداءات ذات ألوان متعددة ومختلفة للبشرية وجعل الناس شعوباً وقبائل ليتحركوا لا من موقع التكبر والتنازع بل من موقع التعارف والتواضع فالذين يطالبون بتسوية التعرجات الفكرية والمذهبية بين الناس عليهم أن ينتبهوا لئلاّ يقودهم هذا المسلك إلى السقوط في منزلقات التعارض مع المشيئة الإلهية ومواجهة الإرادة الربانية في هذا الشأن.. ).
هنا لا يشير الدكتور سروش للبعث الإلهي بمعنى أن الدين هو ترتيب رباني مجعول بالأشاءة التي تحكم الناس على طريق الغاية النهائية من فعل التدين، ولكنه يراها وينسبها من وجهة قوة الفعل البشري المختلف بطبيعته حسب بشرية الإنسان وقدرته على محاكاة الواقع الذي استحكمت فيه عوامل تواجدهم، والاستجابة لهذا الواقع بعيدا عن التراتبية التي أرادها الله تيسيرا للبشر كي يفهموا مراد الله، وإن لم تخرج إلى فضاء التناقض والتضاد حسب معطيات الواقع، فعنده الشرط الأساسي لصحة الدين عدم تعارضه مع المشيئة الإلهية أو التناقض معها، هنا وقع وأوقع نفسه في مطب المغالطات الفكرية فهو لم يشرح ولم يقدم لنا في الدين الإسلامي م تعارض ولا تضاد مع المشيئة الإلهية حتى يمكنه أن ينزع صفة الإلهية عن دين الإسلام.
كل الذي يؤمن به ويبشر به ينسبه من أمر دين الإسلام ونبوية محمد إلى ما هو إنساني بالطبع، ومدعيا بالمحاكاة التاريخية لسلف العقائدي السابق مرة، وبالضرورة الحتمية لكونية الواقع وشكليته وقوة تأثيره على الإنسان النبي مرة أخرى أيضا، فهي بالمجمل مجرد أفتراضات منفصلة عن واقع الحقيقة طالما أنه يفتقد الدليل الحقيقي والمادي الذي ينجح بجر اليقين العقلي لها، وعليه كي يكون جادا في طرحه ومخلصا لعلميته ان يثبت يقينيتها على أرض الواقع بالملموس، إنها محاكمة تأريخية تتناقض مع مقولاته التي يحاول فيها أنتزاع روح الصدق والجدية من خلال التشكيك بمصدرية الدين أولا وإضعاف مبدأ الوحي (وإلاّ فكلّ التجارب عبارة عن الوحي، غاية الأمر أن الوحي ذو مراتب : فهناك مرتبة دانية ومرتبة عالية، وأحياناً يقترن مع العصمة واُخرى لا يقترن معها، وهناك ما يختصّ بالنحل وما يختصّ بالإنسان من العرفاء والأنبياء والشعراء. فكلّها تمثل تجارب دينية وباطنية وكلّها تحتاج، كما أسلفنا، إلى تفسير وفي الحقيقة أنه لا توجد لدينا تجربة خام أو تجربة محضة، ).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا