الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأوضاع الجيوستراتيجية المصرية الحالية بين القوة الناعمة والقوة العسكرية (1)

جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)

2020 / 8 / 22
السياسة والعلاقات الدولية


آن الأوان لأن نرسم الصورة المتكاملة/المكتملة للحقيقة، ونخطُ بأقلامنا الموضوعية الحرة، من موقعنا الفكري الرمادي الأوسط؛ الخطوط العريضة الأكثر خلوداً؛ لطقس سياستنا المصرية الخارجية المعبرة عن حجم مصر وقوتها، وهي المرآة الناصعة التي تعكس أوضاعنا الجيوستراتيجية الحالية، ومكانتها في خضم هذا التزاحم/المزدحم بأجواء العلاقات الدولية المتقلبة؛ التي تستند بالأساس على قوة الدول وتحالفاتها الاستراتيجية وتكتلاتها الاقتصادية؛ في تدافع مستعر/مسعور على أن تجد كل دولة لنفسها موطئ قدم وسط هذا الزحام المؤلم. تحاول كل دولة فيه تجنب أكبر قدر ممكن من الصدمات/الصدامات بقطارها الأفعواني في إدارة أفكارها وانفعالاتها وخططها الحالية والمستقبلية.

التنظير
تعني الجيوستراتيجية: فن التعامل الاستراتيجي مع المشاكل الجيوسياسية، أو ممارسة السياسة القائمة على العِلم، خاصةً؛ العلم التحليلي الواقعي والتجريبي. وتعتمد الصياغات النظرية في الاستراتيجية الجغرافية بشكل كبير على القاعدة التجريبية؛ التي تنأى بالمتعاملين في حقل العلاقات الدولية عن الفتور والعزلة. على الرغم من أن العلاقات أو الاستنتاجات المتعلقة بقيم الحقائق؛ يتم ملاحظتها بشكل مختلف من خلال المناهج الجيوستراتيجية المختلفة و/أو التنافسية. وقد أصبحت المفاهيم الجيوستراتيجية التي تنبثق من النظرية قاعدة للسياسات الخارجية والدولية لأغلب الدول.
من المسلم به أن مصطلح "الاستراتيجية الجغرافية" يستخدم في كثير من الأحيان، في سياق عالمي، للإشارة إلى مراعاة التوزيع العالمي بين البر والبحر أو توزيع اليابس والماء، والمسافات، وإمكانية الوصول، من بين عوامل جغرافية أخرى في التخطيط الاستراتيجي والعمل السياسي. وهنا يتم استخدام تعريف الاستراتيجية الجغرافية في إطار إقليمي أكثر محدودية. حيث يتفاعل مجموع العوامل الجغرافية للتأثير أو لإعطاء ميزة لخصم واحد، أو التدخل لتعديل التخطيط الاستراتيجي وكذلك المشروع السياسي والعسكري.
كما تتضمن الاستراتيجية الجغرافية تحليلات الموقع وأهمية دور الأودية النهرية والبحار الداخلية والمحيطات العالمية وجزيرة العالم والمركزية واللامركزية وما إلى ذلك. على سبيل المثال؛ كانت بداية الحضارة القديمة تقع في أودية نهر النيل في مصر. لم يوفر نهر النيل التربة الخصبة لإنتاج المحاصيل فحسب؛ بل سمح أيضاً بالفيضانات التي فرضت ضرائب على براعة السكان. كان مناخ المنطقة مواتيا لوجود كيانات اعتمدت أساساً على الزراعة. كما وفرت الأنهار طرقاً للتجارة في فترة كانت فيها عضلات الإنسان ورياح السماء هي القوة المحركة للسفن. أصبحت وديان الأنهار عاملاً موحداً في التطور السياسي للشعب.
هذا من الناحية المادية؛ أما بقية النواحي المعنوية يأتي في مقدمتها بناء أم الحضارات، تلك الحضارة الإشعاعية التي أرَّختْ للعلاقة التطورية بين المصري القديم وأرضه، وكيف انعتق هذا المصري الإنسان من بدائيته مبكراً واعتلى فنار الحداثة. ذلك الفنار الذي كان بمثابة المرشد لبقية الجماعات البشرية البدوية/البدائية المحيطة بالمركز الحضاري الوليد، وأضاء لكل من سار على دروب التحضر الذي نشأ وتطور في مصر القديمة، ومن ثم انتشرت إلى جميع جهات العالم على هيئة موجات مهاجرة فيما يعرف بنظرية الانتشار الحضاري.
تلك النظرية التي تغنى بها علماء العصر الفيكتوري البريطانيين. وعلى رأسهم الأنثروبولوجيين السير سميث SIR SMITH، وبيري PERRY. وصرحوا: بأن كل الحضارات الإنسانية العالمية اللاحقة ما هي إلا أشكل متدهورة من الحضارة المصرية الأصلية الكبرى الموروثة. وكانت بحق بمثابة فجر الضمير الإنساني على حد تسمية عالم الآثار الأمريكي المرموق جيمس هنري برستيد JAMES HENRY BREASTED.
حيث أدرك المصري القديم أن حضارة بلا قيم هي بناء أجوف لا قيمة له، فكم من حضارات انهارت وأصبحت نسياً منسيّاً؛ لذا سعى إلى وضع مجموعة من القيم والمبادئ التي تحكم إطار حياته، تلك القيم التي سبقت "الوصايا العشر" بنحو ألف عام. وقد تجلى حرص المصري القديم على إبراز أهمية القيم في المظاهر الحياتية؛ فكان أهم ما في وصية الأب قبل وفاته الجانب الأخلاقي، حيث نجد الكثير من الحكماء والفراعنة يوصون أبناءهم بالعدل والتقوى.
كذلك كانوا يحرصون على توضيح خلود تلك القيم في عالم الموتى. لذا؛ نحتوا على جدران مقابرهم رمز إلهة العدل "ماعت" ليتذكروا أن العمل باقٍ معهم. نعم لقد سبق المصريون العالم أجمع في بزوغ فجر الضمير الإنساني، وفي الوقت الذي فشلنا فيه نحن أحفاد هؤلاء القدماء العظماء؛ نتيجة وقوعنا فريسة لثقافة صحراوية طاغية تعادي وتُكفِر الجميع بما فيهم أجدادنا الفراعنة؛ فنسيناهم بل وكفرناهم بأوامر من هذه الثقافة التي تحرضنا صراحة على القتل؛ جاء "برستيد" عالم المصريات العبقري ليعرفنا على أجدادنا العظام وموروثهم الذي أنكر كل شر وحاكم موتاه الذين كانوا يتنصلوا من الموبقات وعلى رأسها القتل أو التحريض على القتل أو النظر إلى حليلة جاره أو تلويث مياه النيل وأوضح لنا أكثر من ذلك بجلاء. في كتابه الفذ، والذي أعتبره؛ بما ورد فيه من قيم مصرية قدية؛ بمثابة أقدم وثيقة لحقوق الإنسان.
هذا ما فاء به نهر النيل على الإنسانية جمعاء. وإذا ما نظرنا لبقية المعطيات الجغرافية من داخل عباءة الاستراتيجية الجغرافية سنجدها تستخدم أيضاً بعض المفاهيم الجيوستراتيجية ذات الصبغة التاريخية أو حتى الموروثة من بلد إلى آخر بسبب التاريخ المشترك والعلاقات بين البلدان والثقافة وحتى الدعاية كنواتج متميزة لتلاقح الحضارات بأفكارها؛ حتى السيء منها الذي فرض علينا أفكاره المتطرفة التي أورثتنا الاكتئاب الطاغي والغضب المستعر والإرهاب المزدهر برعاية مؤسسات عقائدية تنشر إلى اليوم بلائها المُشرعَن.
وتُعد الجيوستراتيجية فرعا من الجغرافيا السياسية، وتعني في جوهرها؛ كيفية استرشاد السياسة الخارجية للدولة بالعوامل الجغرافية؛ ذات التأثير المباشر على التخطيط السياسي والعسكري. وكما هو الحال مع جميع الاستراتيجيات، تولي الاستراتيجية هنا اهتماماً بكافة الظروف الجغرافية في مسعى يطابق الوسائل مع الغايات. والمعني في هذه الحالة هو التنسيق بين موارد الدولة (سواء كانت محدودة أو واسعة النطاق) مع أهدافها الجيوسياسية (والتي يمكن أن تكون محلية أو إقليمية أو عالمية). فكما يقول خبراء الاستراتيجية: "الجغرافيا هي أم الاستراتيجية".
يؤيد الجيواستراتيجيون، بصفتهم؛ أكثر إحاطة ودراية من الجيوسياسيين، استراتيجيات تؤجج الحروب، ويقاربون الجغرافيا السياسية من وجهة نظر قومية. كما هو الحال في جميع النظريات السياسية. وترتبط الاستراتيجية في الجغرافيا بشكل أساسي بالسياق الذي وُضعت فيه: جنسية الاستراتيجي، وقوة موارد بلده، ونطاق أهداف بلده، والجغرافيا السياسية لفترة زمنية أطول، والعوامل التكنولوجية التي تؤثر على المشاركة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
وبشكل معياري/تحليلي؛ تصف تلك الاستراتيجية كيفية تشكيل السياسة الخارجية من خلال الجغرافيا، أو توقع قرارات السياسة الخارجية المستقبلية لبلد ما على أساس العوامل الجغرافية. والمعروف بأن الاستراتيجية في سياقها التاريخي؛ وبعد الحرب العالمية الثانية، على وجه الخصوص؛ قام بعض العلماء بتقسيم الاستراتيجية الجغرافية إلى مدرستين: مدرسة تتبنى نظرية الدولة العضوية الألمانية الفريدة. ومدرسة تتبنى الاستراتيجيات الجيوستراتيجية الأنجلو أمريكية الأوسع. ولا شك في أن قوة الدولة، خاصة؛ في المجالات الجيوستراتيجية عامل حاسم في العلاقات الدولية لأنها محدد رئيسي للدور الذي يمكن أن تلعبه الدولة في المجتمع الدولي وفي علاقتها مع الآخرين.
ورغم ذلك؛ لا يكفي أن تمتلك الدولة مثل هذه القوة. كما يجب أن تستخدمها بشكل فعال. فالمعروف أن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، تعتبر الموارد الاقتصادية مصادر رئيسية للقوة. بالإضافة إلى القدرات التنظيمية، والقوة العددية، والكفاءة والفاعلية، والمعرفة المتقدمة بمصادر البيانات، والتحكم في الوصول إلى المعلومات والأدوات، كما أن لسمعة امتلاك القوة دوره في هذا السياق.
والأشكال الكلاسيكية للقوة تعددت وتنوعت مع مرور الزمن. لتشمل القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والسلطة السياسية، والبراعة التكنولوجية. ويضاف إليها ما اصطلح عيه بـ "القوة الناعمة"، ويصعب رسم خطوط حادة فاصلة بين هذه الأشكال من القوة، لأنها عادة ما تتفاعل وتترابط بشكل متبادل ومعقد.
بشكل عام، تجعل القوة الآخرين يميلون إلى موائمة أولوياتهم وتفضيلاتهم مع أولويات وتفضيلات أصحاب القوى في علاقاتهم الدولية. وعندما تقوم الدولة بتحديد أهداف وغايات سياستها الخارجية، يجب عليها تقييم مصادر قوتها بعناية، وكيف يمكن نشرها من أجل تحقيق غاياتها. وبذلك، ستستخدم، في العادة، مزيجاَ من القوتين العسكرية والناعمة.

البقاع المصرية الساخنة حالياً
تتمثل في ثلاث محاور: أولها محور الورم الإسلامي/السرطاني بسيناء. وثانيها؛ محور الجبهة الغربية، واحتشاد تركيا بمرتزقتها الإسلاميين. وثالثها وأهمها؛ محور القرن الأفريقي وسد النهضة على النيل الأزرق بهضبة إثيوبيا.
بالنسبة للمحور الشرقي السيناوي؛ الحقيقة المرة/المروعة هي أن السيناريو المستقبلي الوحيد الذي يمكننا التنبؤ به على وجه اليقين هو أنه سيكون هناك المزيد من الهجمات الإرهابية. نظراً لوجود التراث الإسلامي على حاله في كل بيت، وأغلب البيوت متدينة حتى النخاع. وحسب إحدى التقديرات يوجد على الأقل فرد واحد بين أفراد كل أسرة مسلمة متشدد/متطرف بأفكاره. ما يعني بأنه إرهابي مع إيقاف التنفيذ، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى؛ نظراً لتصاعد التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط الملتهب على الدوام بغليانه الراديكالي وتخلفه وأمراضه الفكرية/النفسية المتراكمة، لن يتم منع العنف الإرهابي بالكامل أبداً، حتى وإن وجدت العديد من الاستراتيجيات التي يمكن أن تحد (فقط) من آثاره. وإن كان من غير المرجح أن يحدث ذلك على المدى القصير. طالما أن الأزهر يرفض بمنتهى العنت أن يريحنا ويطهر مناهجه من كم القضايا الفقهية والفكرية المثيرة للجدل؛ حتى لا نتهم بإرهابهم الفكري وتوجيه تهمة "ازدراء الأديان" لنا.
حتى بات التحدي أمامنا هو كيفية تقليل مخاطر الإرهاب لا القضاء عليه؛ في تسليمٍ منا بالأمر الأزهري الواقع؛ حتى لا نصطدم بالدين الذي فضح أصوله العِلم وانقضى الأمر. وبمنتهى الصراحة هذا الكيان يذكرني بحزب الله في لبنان. فإذا كان حزب الله دولة داخل دويلة. فالأزهر عندنا يعد دويلة داخل دولة. دويلة تتمترس وتتغطرس بالدين؛ وتعيش داخل جلبابها السلفي المرتق بالشيطنة وتصر على أن تجذب الفكر المصري وتستحوذ عليه برمته؛ ولا تولي اعتباراً لأي أحد؛ وإذا نبس أحد ببنت شفة ألقوا عليه بشباكهم تلك التهمة الإرهابية البغيضة التي تتنافى وحقوق الإنسان "تهمة ازدراء الأديان".
والغريب أن الدولة برجالها وبمساعدة بعض القضاة السلفيين بخلفيتهم الإسلامية ساعدوا في ترسيخ هذا الوضع المخزي لبلد في حجم وتاريخ مصر. ونرى في هذا المأزق الفكري بأن الدولة في حاجة إلى قيادة علمانية قوية ترتدي قفاز "ماو" وتتعامل مع كل من يرفض التغيير اللازم لنهوض البلد وانعتاقها من هذا الورم السرطاني؛ بفوهة البندقية، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى تحتاج البلد من كل مستنير أن يحضر لثورة اجتماعية/ثقافية/تنويرية تركز على إصلاح التعليم قبل كل شيء، وتنوير هذا الشعب الضائع في بلاهة الجهل والتخلف الذي لا يليق باسم مصر.
ومن خلال رصدنا للعمليات الدنيئة للإسلاميين؛ وجدنا أن الجماعات الإرهابية تستهدف بشكل روتيني الأهداف "السهلة" في المدن والبلدات، لا سيما في الأماكن التي من المرجح أن يتجمع فيها الناس. والهجوم الأخير على مسجد الروضة ليس استثناء. في الواقع، المدن وسكانها هم الهدف وليس الأضرار الجانبية. الجماعات المتطرفة الراغبة في إقامة الخلافة الإسلامية أصبحوا خبراء في فصل المجموعات السكانية المختلفة عن بعضها البعض والاختباء/التخفي وسط هذه التكتلات السكنية. بل أن بعض الأسر تمتلك بكل فخر أحد الإرهابيين العتاة المنطويين تحت ألوية الجهاد الإسلامي بأي اسم وبأي صفة. ويتم الفصل من خلال قصف المواقع الدينية وأسواق الشوارع والملاعب الرياضية ومراكز الشرطة، فيجبرون عامة الناس على التشرنق في ما يرقى إلى مستوى الحصار الجسدي والنفسي.
ومع الوقت؛ انحصرت المشكلة في كيفية تقليل مخاطر الإرهاب دون خنق الحياة في المدينة تماماً. ومع فرض الأمر الواقع؛ بات على المدن التي ستتعامل مع هذه التهديدات، التفكير الفعلي في التعايش مع المستقبل المضطرب. على سبيل المثال؛ قد يحتاج رؤساء المحليات أو البلديات ورؤساء الشرطة إلى البدء في تطبيع التهديد، والاستثمار في كل من الوقاية وإدارة العواقب. ووجب على الشركات العاملة في مجال الخدمات تحديث خطط الموائمة/الاستمرارية الخاصة بها بانتظام. كما ويجب على الحكومة تحسين اتصالاتها بين كافة الوكالات لتبادل المعلومات. الأمر الكارثي؛ والذي لا مفر منه هو أن سكان المدن والبلدات في سيناء سيحتاجون إلى التعود على الوضع الطبيعي المستجد.

وللحديث بقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تحقيق مستقل يبرئ الأنروا، وإسرائيل تتمسك باتهامها


.. بتكلفة تصل إلى 70 ألف يورو .. الاتحاد الفرنسي لتنمية الإبل ي




.. مقتل شخص في قصف إسرائيلي استهدف سيارة جنوبي لبنان


.. اجتماع لوكسمبورغ يقرر توسيع العقوبات الأوروبية على إيران| #م




.. استخراج طفلة من رحم فلسطينية قتلت بغارة في غزة