الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثاني/ 2

دلور ميقري

2020 / 8 / 22
الادب والفن


ذات ظهيرة، آبت بيان إلى المنزل في سيارة أبيها قادمةً من المدرسة. عقب تناولها الغداء مع باقي أفراد الأسرة، نزلت إلى الحديقة مع شقيقتها الصغيرة. بقيتا تلعبان حتى سمعتا والدتهما تدعوهما، كون الجو الخريفيّ مال إلى البرودة مع ميلان الشمس إلى الغروب. في ذلك الزمن، كان عامّة الناس يظنون أن غالبية الأمراض سببها البرد. حديقة الدار، المزروعة بشتى أنواع الأشجار والشتلات، كانت بمثابة الصيدلية للجيران وحتى لأهل الحارة الآخرين. لكن ذلك كان ممكنا، حَسْب، بفضل وصفات الجدّة، التي ثبتت نجاعتها في خلال ما يقارب العقود السبعة من الزمن: مغليّ التوت والعنّاب، لمعالجة الحميرة؛ مطحون بزر الكتّان، المحمّص مع مطحون السكّر نبات، لبحّة الصوت؛ مطحون زهرة البابونج اليابسة والزهورات المجففة، لالتهاب الصدر والسعال؛ الكينا، لسخونة الأطفال؛ السملكي، للكتم؛ المريمية، لآلام البطن؛ مغلي ورق شجرة الجوز، لحالات الاسهال؛ حب القرنفل، المغلي بالماء الساخن، لتخدير الضرس المنخور؛ زيت حبّة البركة، لتساقط الشّعر.. وغير ذلك من الوصفات.
والدة ريما، وكانت يتيمة منذ الصغر فتعهّدت السيدة شملكان تنشئتها، أخذت عن هذه الأخيرة الكثير من خبرتها، المَوصوفة. لا غرو إذاً أن تحصل الابنة على معرفة مناسبة في أمور الطبابة الشعبية بشكل عام، ومن ثم تعززت فيما بعد بفضل وجود حماتها في المنزل. لكن ريما كانت أحياناً ترتكب أخطاءً في معرفة نوع معيّن من المغليات والمراهم أو يختلط عليها أسماؤها. من ذلك، أنها شاءت مرةً دهنَ شعر بيان بمرهم خيار ( الفازلين )، معتقدةً أنه يقويه ويجعله ناعماً. آنذاك، كانت الصغيرة لا يتجاوز عمرها العام الواحد. الحماة، في المقابل، كانت في تلك الآونة قد توغلت كثيراً في شيخوختها. لكنها انتبهت لاحقاً في الحمّام إلى شعر حفيدتها، الخفيف. فلما سألت الكنّة وعلمت نوعَ الدهن، فإنها قالت وهيَ ترفّ بجفنيها دلالة على التأنيب: " زيت الخروع يفيد بمعالجة تساقط الشعر، وأيضاً عليكِ تغذيته بزيت الزيتون. أما مرهم خيار، فمخصص للبشرة لا للشعر ". الجدّة، كانت مغرمة كثيراً ببيان وتؤكد أنها الحفيدة الوحيدة، التي أخذت عنها حُسنها: " في زماني، كنتُ أجمل فتاة في الحارة وكان الآغوات يحسدون زوجي على حظه الكبير! "، كذلك كانت تقول لكنّتها ثم تسترسل في الضحك وهيَ تخفي بكفّها فمَها الأهتم.

***
في نهاية الصيف، وقبل عودة بيان إلى مقاعد الدراسة، اشتد المرض بالجدّة وما لبثت أن أسلمت الروحَ أثناء نومها دونَ أن تعاني من عذاب النزع. عادت الدار أيضاً لحالة الحزن والحِداد، وكانت قبل نحو ثلاث سنين قد ودّعت حاجي في طريقه إلى مثواه الأخير. هذا الابن، كان الهمّ الأكبر لوالدته طوال سني عُمره، برغم أنها شأن رجلها قد تكنّت على اسم الابن الأصغر؛ " ديا صالح ". لما ماتَ حاجي على حين فجأة، ولم يكن يعاني من مرضٍ ما، بقيت إلى آخر أيامها تشعر بتأنيب الذات. كانت تقول كل مرةٍ لكنّتها، لما تستعيد ذكره لمناسبة ما: " لا أغفر لنفسي عدم السعي لتزويجه، مقتنعةً بزهده في هذا الأمر. بل إنّ نساءً من الحارة عرضن عليّ بناتهن، اللواتي كن بائرات بسبب قلة نصيبهن بالجمال ".
صالح، كان الأكثر تأثراً برحيل والدته عن الدنيا. لقد كانت سنده في الحياة، وظل يستمد النورَ من نصائحها في دياجير حياته، بالأخص فيما يتعلق بأموره مع نسائه. بدَوره، عليه كان أن يبّكت ذاته لأنه استهتر أحياناً بتلك النصائح ما جعل حياته العائلية أشبه بدوامة. وإنها هيَ مَن سبقَ وتنبأت بانهيار سقف أسرته بما أنه مسنودٌ إلى أعمدة واهية: فباستثناء ريما، التي بادرت هيَ لنصحه بالاقتران بها، لم يوفق صالح في زيجاته الثلاث الأخرى. الأم، حذرته منذ البداية من الاقتران من مليحة، كونها على علمٍ بعلاقته القديمة بوالدة الفتاة. كذلك استهجنت من قبل دافعَ زواجه من حواء، المبنيّ على الشفقة من حالتها بعد طلاقها من رجلها الأول، الذي أنجبت منه ابنة. ثم تورّط بزيجة ثالثة، وذلك فقط على سبيل المناكدة مع مليحة، وكانت هذه إذاك قد هجرت منزله وعادت إلى بيت والدتها.

***
من ذلك البيت، جاءت مفاجأة جديدة لصالح ولم يمضِ على دفن والدته أكثر من أسبوعين. رودا وشقيقها الأصغر، هُرعا ذات صباحٍ إلى دار والدهما والدموع تغسل وجهيهما. كانت ريما في استقبالهما، فاستمعت إلى البنت الملولة، المعولة: " أمي طلبت منا اليوم أن نذهب إلى أبينا، لأنها في سبيلها للزواج من رجل يقيم في عمّان ". حاولت امرأة الأب تهدئة البنت ذات العشرة أعوام، بالقول: " أنت بالأساس لم تشعري بالراحة هناك في الصالحية، وفي كل مرة كنتِ تجرين شقيقك للمجيء إلينا حتى بدون أن تأخذي إذناً من والدتك ". وعلى هذا المنوال من الكلام، أمكنَ إدخال السكينة على قلب كلّ من الطفلين التعسين. لدى عودة الأب من عمله وسماعه الخبرَ، هبّ وقد استولى عليه الغضب الشديد لكي يذهب بسيارته إلى الصالحية. لكن امرأته تصدّت له، قائلةً: " بأيّ حق تمنع طليقتك من التصرف بحياتها كما تشاء، وهيَ قد أضحت وحيدةً عقبَ وفاة والدتها؟ أما بشأن طفليك، فإنك بنفسك من تنازلت عن حضانتهما لها طالما هيَ بدون رجل ".
بما أن العطلة الصيفية كان أجلها سينتهي بعد نحو أسبوعين، لم يكن هناك أسعد من بيان بخبر رجوع أخويها للعيش في البيت. مثلما سبقَ القول، كانت شديدة التعلق برودا، التي تكبرها بثلاث سنين. كذلك كانت تعطف على أخيها الأصغر، " أوسمانو "، المعرّف في العائلة بالهدوء والحياء والاستقامة. صفاته، كانت مناقضة نوعاً لأخيه الكبير، وكان هذا قد خسرَ رجله منذ الصغر بسبب ما تميّز به من شقاوة. هذا الأخير، وعلى الرغم من أنه يعيش مع والدته وشقيقته في منزل الخال، كان يلازم والده في أغلب الأوقات وظهرَ عليه الميل للاقتداء به في مهنته الأولى كسائق سيارة أجرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه


.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما




.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة


.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير




.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع