الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وفاءُ النيل … عند السلف الصالح

فاطمة ناعوت

2020 / 8 / 23
حقوق الانسان


15 أغسطس، يومٌ مهيبٌ في تاريخ سلفنا المصري الصالح. مهرجانٌ أسطوريّ يحتفل فيه أجدادُنا بالنهر العظيم الذي قدّسوه وكرّموه، لأنه سرُّ أسرار الحياة، وسبب حضارتنا التي جعلت مصرَ "أمَّ الدنيا". "الماءُ" كان هاجس الإنسان الأول؛ ليشرب ويزرع. إن وجد النهرَ، استقر وعمّر وشيّد وزرع وابتكر الفنونَ والعلوم، فتنشأ حضارةٌ. أما الصحراويون فيطاردون الآبار. كلما جفّت بئرٌ، بحثوا عن أخرى يتحلّقون حولها حتى تجفَّ، فيتركونها إلى غيرها. هذا السعي المحموم وراء الماء، جعل الصحراويَّ ابنَ ثقافة الرمال، غيرَ مستقر في مكان واحد؛ فلا يزرع، لأنه لن ينتظر الحصاد، ولا يشيّد عمرانًا؛ لأنه مُفارقٌ أرضَه، ولا يبتكر الفنون والعلوم لأنه رحّالٌ جوّالٌ. وبالتالي لم يُنشئ حضارةً. بيتُ الإنسان النهري، كان حجريًّا راسخًا في الأرض، بينما بيتُ الإنسان الصحراويّ، كان محضَ خيمة نقّالة يحملها معه في ترحاله. ولهذا نشأت الحضارات القديمة فقط على ضفاف الأنهار.
لهذا، قدّس أجدادُنا "نهر النيل" ومنحوه اسم الإله: "حابي" أو "حعبي"، وجسّدوه على هيئة تمثال إنسان يحمل معالم الأنوثة والذكورة معًا؛ لكي يحمل معنى الحياة الكامل، متجاوزًا عنصرية النوع. تتجلّى الذكورةُ في عضلات ساقيه وذراعيه الهائلة، رمزًا للقوة والبأس، وتتجلى معالمُ الأنوثة في تضاريس الصدر والبطن، رمزًا لخصوبة الأرض بعد الريّ.
يحمل "حابي" فوق رأسه سلّةً تبرزُ منها زهرةُ لوتس (شعار مصر العليا/ الجنوب)، ونبتةُ بردي (شعار مصر السُّفلى/ الشَّمال)، وسعفةُ نخيل رمزًا لمرور الزمان. كأنما يعترفون لهذا النهر الطيب بتوحيد الشمال والجنوب وضمّ أطراف مصرَ بميثاق غليظ على طول ضفافه. يجلس "حابي" حاملاً على كفيه صينية عامرة بالطيور والأسماك والفاكهة والخضر والحبوب؛ رمزًا للخير الذي يقدمه النيلُ للمصريين. وأحيانًا يُصوَّر "حابي" على هيئة شابين يافعين واقفين يضفّران معًا سيقان النبتتين معًا (اللوتس والبردي) على ظهر كرسي العرش الملكي، كأنما هذا النهر الخالد يعقد وثاق الصعيد والدلتا في رباط أبدي لا ينفصم.
كان أجدادُنا يسترضون "حابي" ذي المزاج المتقلّب؛ لأن حياتهم مرهونة بناصيته. إن حزن النيلُ؛ "مالَ واحتجب"، وانحسر ماؤه؛ فتجفُّ الأرضُ ويموت الزرعُ وتلوحُ المجاعة. وإن انزعج؛ ثار وفاض ماؤه ليُغرق الأرضَ والبشرَ والماشية والبيوت. فكان لابد إرضائه حتى يأتي في منسوبه المعتدل، فيكون قد “أوفى” بعهده. وكانوا يدللون هذا العصيَّ بأمرين:
1- التراتيل الدينية، فيرِّنمون قائلين:
“حعبي/ أبو الآلهة/ أنت الذي تأتي بالمؤنة لتطعمَ مصرَ كلَّها/ وتهب الحياة لكل إنسان وتُلقي الخير في طريقه/ مجيؤك يجلبُ الفرح.”
2- القرابين. إذ كانوا يلقون في النيل الكعك والفاكهة، وكذلك عروس النيل.
ولكن، لا تصدقوا كذبة: “عروسُ النيل الآدمية". فأجدادُنا الصالحون لم يعرفوا القرابين البشرية طوال تاريخهم، وإنما قدّموا، وحسب، قرابيَن نباتية ورمزية.
كيف تصدق أن أجدادك أغرقوا الفتيات الجميلات في النهر، هم الذين قدّسوا الحياة، فابتكروا مهرجانًا رسميًّا يمجد الحياة: "شوم أنسم"، ويقيمون الصلوات في المعابد، ابتهاجًا بأول أيام الربيع، فصل الخصب والحياة، ثم يجتمعون أمام الواجهة الشمالية للهرم، قُبيل الغروب، ليشاهدوا قرصَ الشمس وهو يتحرك ليستقر فوق رأس الهرم، فتسقط أشعتُها الذهبيةُ على قمته كأنما تشطر واجهة الهرم المثلثة شطرين؟!
كيف تصدق أنهم سفاحون بينما آمنوا بحق الحياة فكانوا أول من فكّر في البعث بعد الموت. وأطلقوا على الحياة الأخرى كلمة (النهار) فكان الموتُ هو: (الخروج إلى النهار)؟! إذ من غير المعقول أن تكون الحياة سنواتٍ قليلةً فوق الأرض، يتلوها العدم! فثمة حياةٌ أخرى. وليس من المقبول أن يتساوى الطيبُ مع الشرير! فثمة حسابٌ وثوابٌ وعقاب. وصلوا إلى هذا قبل الرسالات السماوية بآلاف السنين.
كيف تصدق أن أجدادك المتحضرين قتلوا روحًا بريئة، بينما وضعوا شروطًا صعبة لدخول الفردوس؛ من بينها أن يُقرَّ المتوفى قائلا: “لم أقتل- لم أتسبب في دموع إنسان."؟!
قربان "عروس النيل"؛ لم يكن إلا تمثالاً من الجرانيت الأحمر لعروس تشبه "إيزيس"، ربة الفضيلة والخير. يلقون بالدُمية في أحضان النيل "حابي"، وكأنما ترتمي "إيزيس" في أحضان "أوزوريس"، زوجها وحبيبها الذي قتله أخوه "سِت"، إله الشر، حسدًا وحقدًا. كتب أجدادُنا في الميثولوجيا المصرية أن "فيضان النيل" هو دموعُ أُمّنا "إيزيس" حزنًا على مصرع زوجها. ولهذا كانوا يلقون بشبيهاتها في النهر، حتى يهدأ ويكفّ عن الفيضان الغضوب.
مستحيلٌ أن يقتل مَن قدّسوا حقَّ الحياة فبحثوا ودرسوا حتى أتقنوا الطبَّ والتداوي وأجروا أول عملية جراحية في المخ عرفها التاريخ. أولئك أجدادُك الذي يجب أن تفخر بانتمائك إليهم. كُن "سلفيًّا" واعتزّ بأسلافك المصريين، أيها المصري. "الدينُ لله، والوطنُ لمن يعتزُّ بتاريخ الوطن”.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس.. ناشطون يدعون إلى محاكمة المعتقلين السياسيين وهم طلقاء


.. كلمة مندوب دولة الإمارات في الأمم المتحدة |#عاجل




.. فيتو أميركي يفشل جهود عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدة


.. الجزيرة تحصل على شهادات لأسيرات تعرضن لتعذيب الاحتلال.. ما ا




.. كيف يُفهم الفيتو الأمريكي على مشروع قرار يطالب بعضوية كاملة