الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سنن التاريخ وقوانينه

فارس تركي محمود

2020 / 8 / 24
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


إن التاريخ علم قائم بذاته له قوانينه ونواميسه حاله حال بقية العلوم الأخرى بل يمكن القول أنه من أخطر العلوم وأكثرها أهمية ، فإذا ما فهم بشكلٍ صحيح فهو باني الأمم وضامن نهضتها ، وهو هادمها ومبعثرها وقابرها إذا أسيء فهمه أو فهم بشكلٍ مغلوط . وعندما نقول أن التاريخ علم وأن له قوانينه فنحن لا نتحدث عن التاريخ بوصفه سجل لأحداث الماضي فحسب بل بوصفه فلسفة متكاملة تمتلك منطلقات ومآلات ، وبوصفه صانع الحاضر والمؤسس للمستقبل ، وبوصفه الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعادات والتقاليد والرؤى والأفكار والأذواق ، وقبل ذلك كله والأهم من ذلك كله بوصفه ميكانيزم يحتاج إلى مديات زمنية طويلة نوعا ما لكي يترك أثره وتؤتي قوانينه ثمارها . ولكن ما هي قوانين التاريخ ؟.
يمكننا القول وبكل بساطة أن قوانين التاريخ ما هي في الواقع إلا قوانين الإنسان أو بالأحرى القوانين المتحكمة بالإنسان أي دوافعه ونوازعه وغرائزه وتفضيلاته ، فالإنسان هو صانع التاريخ وموجهه وهو بطله وضحيته وهو الذي يقع عليه عبء التاريخ وهو الحاصد لثماره والمتجرع لمراراته. وبشكلٍ عام يمكن القول أن هناك قانونين فحسب يحكمان سلوكيات الإنسان وأفكاره وتوجهاته هما: قانون اللذة وقانون الألم أو قانوني الربح والخسارة ، فالإنسان في كل نشاطاته لا يهدف إلا إلى تحقيق الربح واللذة وتجنب الخسارة والألم سواء كان مادياً أو معنوياً، وإن أي فعل أو توجه أو فلسفة تناقض أو تصطدم بهذين القانونين سيكون مصيرها الفشل لا محالة، وإذا ما استعرضنا تواريخ الأمم والشعوب لوجدنا أنها قد اصطدمت بهذين القانونين مراراً وتكراراً بل أن البعض منها ما زال في حالة تصادم وتصارع معهما ، وبشكلٍ عام يمكن القول أن أهم قوانين التاريخ هي:
أولاً : التاريخ لا يسرَّع ولا يجمَّد ( التدخل البشري في التاريخ ) : يعد التدخل البشري في التاريخ واحداً من أكثر الممارسات والأفعال التي تتصادم مع نواميس التاريخ وقوانينه، لذلك فإن مثل هذا التدخل - وبأي شكلٍ من الأشكال – انتهى وسينتهي دائماً بالفشل ، وتعد محاولة تجميد أو إيقاف أو تسريع قوانين التاريخ واحدة من أكثر صور التدخل خطلاً ، فالتاريخ يتميز بأنه لا يمكن تجميده أو إيقافه ولا يمكن تسريعه أو القفز على مراحله الحتمية، فهو مستمر بفعله وتأثيره من جهة، لكنه يعمل بوتيرة بطيئة جداً ويحتاج إلى مديات زمنية طويلة لكي تتكامل حلقاته وتتواشج تروسه وتنضج ثماره من جهةٍ أخرى، والتدخل بغرض إيقاف أو تسريع تكامل حلقاته أو إنضاج ثماره ستكون له مضار وسلبيات أكثر بكثير من فوائده.
وتعد التجربة السوفيتية والتجارب المشابهة لها مثالاً صارخاً على فشل وكارثية التدخل البشري في التاريخ بهدف تسريعه ومن ثم إيقافه، فالتجربة السوفيتية كانت تسعى إلى القفز على كل الهياكل المادية والمعنوية وكل الفلسفات والأفكار والعادات التي كان يقوم عليها المجتمع الروسي وحرق وتدمير كل أسس الماضي ومنطلقاته، وجر التاريخ جراً لكي يصل إلى مرحلة بعينها وهي مرحلة المساواة المطلقة – المتخيلة والطوباوية طبعاً – بين جميع أفراد المجتمع، ومن ثم تثبيته وتجميده عند هذه المرحلة وعدم السماح له بالإفلات منها. ولمزيد من التوضيح نقول إن القانون التاريخي - المشتق أصلاً من الطبيعة البشرية – ينص على أن : من كلٍ حسب طاقته ولكلٍ حسب عمله، ويؤكد هذا القانون على حب الإنسان للملكية الخاصة وتعلقه الشديد بفكرِة الملكية الخاصة ورغبته المستمرة في زيادة حجم وكم هذه الملكية، بينما الفكرة الشيوعية التي تم تبنيها وتطبيقها من قبل قادة ومؤسسي الاتحاد السوفيتي كانت تنص على أن : من كلٍ حسب طاقته ولكلٍ حسب حاجته، وسعت من أجل القضاء على مفهوم الملكية وحاربت التعلق الغريزي بفكرة التملك، وقد استمر الاتحاد السوفيتي ولمدة تقارب السبعين سنة يحارب هذا القانون التاريخي وعلى الرغم من كل قوته وجبروته إلا أنه خسر المعركة في النهاية فتفكك وتلاشى وبقي هذا القانون قوياً وطاغياً ومستمراً بالفعل والتأثير في كل مناحي الحياة.
والفشل الذي أصاب الاتحاد السوفيتي أصاب أيضاً كل الشعارات والفلسفات والتوجهات والسياسات التي كانت تريد أن تجمد التاريخ أو تسرعه من خلال السعي إلى أو المناداة بضرورة الحفاظ على الأوضاع القائمة لمصلحة فئة بعينها او تأبيد أفكار بعينها وهو ما يندرج ضمن محاولات التجميد، أو المطالبة بالمساواة التامة بين الأغنياء والفقراء وإزالة الفوارق الطبقية من خلال فعل بشري قسري مثل قوانين التأميم وقوانين الإصلاح الزراعي ومصادرة الأملاك وهو ما يندرج ضمن محاولات التسريع، وبغض النظر عن كرهنا وبغضنا أو حبنا وإعجابنا ببعض هذه الشعارات إلا أنها فشلت كلها في النهاية لأنها اصطدمت بقانون مهم من قوانين التاريخ ألا وهو رغبة الإنسان في التطور والارتقاء وحبه للتغيير والتجديد وللتملك ومراكمة المزيد والمزيد من الأموال، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى تغيير القديم وظهور افكار وفلسفات وأوضاع جديدة، وكذلك حتمية ظهور تفاوت طبقي وتمايز اجتماعي وبخاصة أن الأفراد يتفاوتون فيما بينهم من حيث المواهب والقدرات الجسمانية والذهنية ومستوى الذكاء والرغبة في العمل والقدرة على استغلال الفرص وغير ذلك من فروقات تجعل من التغير والتغيير والتفاوت الطبقي والاجتماعي حتمية تاريخية لا سبيل لتجاوزها أو الالتفاف عليها، لكن بالإمكان التعايش والتعامل معها بالشكل الذي يكسر حدتها ويحد من شططها ويكبح جماحها ويمنعها من الوصول إلى مديات خطيرة تهدد وجود المجتمع أو تنذر بتفككه وتلاشيه، ولا يتم ذلك إلا من خلال توفير الفرص العادلة للجميع لكي يعبروا عن رغباتهم وطموحاتهم ويستثمروا مواهبهم وقدراتهم، ولكي يدخل الكل في حالة تدافع وتنافس مع الكل في ظل جو من الحرية والعدالة وتكون وظيفة الدولة الأساسية هي التأكد من أن حالة التدافع هذه تسير وفقاً لقانوني الحرية والعدالة، بدون أن تقمع أو تهدد أو تستغل طبقةٌ طبقةً أخرى أو فردٌ فرداً آخر، مع مراقبة وضبط مخرجاتها ومنعها من الانزلاق إلى مهاوٍ لا تحمد عقباها، وهذا ما يتطابق وينسجم مع قوانين التاريخ ونوازع الإنسان. وقد شهدت كل الأمم والشعوب تدخلاً بشرياً فجاً ومؤذياً في التاريخ سواء بقصد تجميده عند نقطة بعينها أو بقصد تسريعه، بل إن بعض الشعوب ما زالت إلى اليوم تمارس هذا النوع من أنواع التدخل ولم تعِ أو تستوعب حتى يومنا هذا قوانين التاريخ وفلسفته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إسرائيلية ضد إيران في أصفهان.. جيمس كلابر: سلم التصعيد


.. واشنطن تسقط بالفيتو مشروع قرار بمجلس الأمن لمنح فلسطين صفة ا




.. قصف أصفهان بمثابة رسالة إسرائيلية على قدرة الجيش على ضرب منا


.. وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير تعليقا على ما تعرضت له




.. فلسطيني: إسرائيل لم تترك بشرا أو حيوانا أو طيرا في غزة