الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في البدء كانت العلمانية

محمد البدري

2006 / 7 / 3
ملف - 1 تموز 2006 - العلاقة المتبادلة بين العلمانية والدولة والدين والمجتمع


يصعب الحديث عن العلمانية منبته الصلة عن السياق التاريخي لنشاتها. ويصعب أيضا إضاعة المساحة الممنوحة للكتابة، ونحن لأصحابها ممتنين وشاكرين، في سرد تاريخ نشأتها. لكن يمكن أن نغادر السرد وكتابة التاريخ إلي فهم لماذا الحاجة للعلمانية؟
بداية فان كل مجتمع وجد بذاته مجموعة من القيم الجامعة والضامه لأفراده والضامنة لبقائه واستمراريته في الوجود. فالمجتمع البدائي بالمعني الحرفي للكلمة أوجد عرفا وتقليدا ما ليحكم ذاته ويحقق الضبط الاجتماعي لأفراده في مواجه ما اعتقدوا انه خطرا عليهم داخليا او خارجيا. ببساطة، ولان البدائي غير مدرك لكثير من قوانين وشروط الوجود البشري في الحياة فان المساس بتلك القيم التي حفظت له وجوده أصبحت ذات رفعة وشأن واهتمام. لهذا فالحفاظ عليها وضمان حفظها بات واجبا علي كل الأفراد. لم تكن كلمة قدسية الأعراف أو التقاليد المرعية قد نشأت بعد. لكن الحرص علي الأعراف والتقاليد والقوانين المنظمة اكتسبت قدرا عاليا من الاحترام. وكلما استمرت الحياه المجتمعية في ظل القوانين والعرف طالما راكمت تلك الاعراف مزيدا من التبجيل والمكانة، لا لسبب سوي ان البقاء الدارويني لجماعة في هذه المرحلة البدائية هو الاهم لديهم. لهذا فان المجتمع البدائي هو مهد الاعراف والتقاليد دون منازع. وتتم عملية الحفاظ علي الطقوس والشعائر وكل ما يجري من ممارسات باعتبارها الالية الاهم والتي بدونها لا يعي الناس والافراد شيئا مما يجري. لهذا فان ارتباط تلك الطقوس والممارسات بالقيم الخلقية هو ذاته ارتباك وارتباط تعسفيين بين العرف وتلك القيم. والامتزاج الحادث من كل هذه المفردات ومعها الوظائف والمهن الخاصة كالقضاء والزواج والاعياد واقامة المناسبات تجبر الافراد علي تصور واحد مشترك يلف الجميع في احترام ومغالاه ولا يجرؤ ايا منهم علي كسره. فكسر ما هو سائد ومترسخ يوحي بالخطر بسبب الربط التعسفي بين استمرار الوجود واستمرار التقاليد والاعراف بالتوازي معها.

وتنتقل المنظومة الحضارية لمثل تلك المجتمعات الي الاجيال التالية مع بطئ شديد في قدراتهم علي التغيير الاشد بطئا خاصة اذا لم تتوفر شروط جديدة تستجد علي الجماعة لتزيح جزءا من الموروث ولاحلال ما يمكن ان يثبت جدواه لو جرؤ البعض علي التجريب. لهذا فالمجتمع البدائي هو مجتمع النقل بجدارة وليس العقل باي حال. فالفرد في هذا المجتمع لا يملك القدرة علي التفكر بعيدا عن المصلحة الجماعية للجماعة ككل. لهذا فان الالتزام الصارم بالموروث وما يمليه العقل الجمعي للقبيلة او الجماعة هو المحدد الاول والاخير لسلوك الفرد. فهو يقلد شيخه الاكبر ويتمثل سلوكه باعتبارة النموذج الامثل. الم تستمر الحياه في ظل هذا التقليد؟ وما المبتغي لمثل هذه الجماعة البدائية سوي البقاء والاستمرار؟

الانغلاق علي ما يعرفونه إذن هو الضامن لبقاء اعرافهم واحكامهم وقيمهم موضع التنفيذ. وما الاختلاط بالاجانب والاغراب سوي انتاك لما يعرفونه عن انفسهم ويحققون به مصلحتهم دون اية مراعاة للاخرين. فالآخر غريب، قيمة مناقضة لقيمنا التي حفظت أمننا. انه إذن العدو لنا ولا علينا الا محاربته. هكذا ينسحب الفرد ومعه الجماعة خشية الدخول في مناقشة الامور إذا ما تعرضت اموره الداخلية الي امور مستجدة اتت بها جماعات اخري او في الجوار. فيصبح التعصب والطاعة العمياء والخوف من الوافد في جانب ويقابلها الاستعداء علي ذلك الجديد المهدد للحمة الاجتماعية المنغلقة.

من الاعراف البدائية الي الاديان ظلت المنظومة السابق شرحها تعمل وبكفاءة طوال التاريخ. ولم يكن الانتقال من العرف البدائي الي الدين سوي استنزال قدر من القداسة لما تعرضت له المنظومة من اهتزاز عند تعرضها لمتغيرات خارجية تحدثنا عنها سابقا. لهذا فان القطيعة التامة بين الوثنية والاديان والتي تحاول الاديان او العاملين عليه تسريبها الي العقل البشري ليست سوي كذبة كبري. وبمقارنة بسيطة للمنظومة السابقة والمنظومة اللاحقة نجد الراسب القديم ببصمته التي لا تخطئها عين. فالسحر مثلا لازال ضمن المكون الديني رغم انه الاساس في المرحلة الوثنية. صاحبت مسيرة التغيير التاريخية احداث ومستجدات من غزو وفتح وتغير لانماط الحياة والعمل وصاحبها ايضا اختاط واسع المدي بين الثقافات والاعراف والاجناس والاعراق، لكن ما زالت هناك مناطق في العالم لم تتعرض بدرجة كافية لعوامل تدعو الي التفكر فيما هم فيه غارقون. لعلنا اطلنا قليلا في فهم سياق القيم والعادات وعلينا ان نتحدث عن الوقت الراهن حيث انفكت وانهارت كثيرا من المنظومات القديمة لصالح علاقات جديدة ذات قيم اكثر تقدما وجدوي وثراءا من القديم الفقير.

يقسم علماء الانثروبولوجيا السياسية تاريخ البشرية الي مرحلتين تنتهي الاولي مع بدايات القرن الثامن عشر. مرجعيتهم في التقسيم ان البشرية انتقلت من نسق غيبي واعراف بدائية لا تعرف من قوانين الكون شيئا الي اكتشاف واستخدام افضل للمادة بقوانينها الكامنة فيها. التقسيم هذا يمكن تصوره ايضا بانه يضع خطا فاصلا بين الحكم باعراف البدائيين ومعها الاديان وبين العلمانية. ولا يمكن الحكم علي صلاحية وجدوي كل مرحلة الا بما توفره تلك المراحل من ثراء وامان وحياه اكثر رغدا. وبقليل من الملاحظة فان الراسب التاريخي منذ الوثنية الي الاديان لم ينقطع في اتصاله بنا في عالم اليوم الذي يعج بكل ما هو علماني لا يمكن الاستغناء عنه. هنا يمكن طرح سؤال العلمانية مجددا: هل كان البشر علمانيين منذ الخليقة في محاولات مستميته باختراع الاعراف والتقاليد لليسطرة علي كل ما يبقيهم في مجتمعهم باقل تكلفة للوصول الي امن وجودي مع ثراء معرفي عن انفسهم وعن الكون من حولهم؟ ام ان العلمانية هي اكتشاف جديد نقل البشرية الي مصاف جديدة مكنتهم من تحقيق مطالبهم دون تيه طويل في وفي بحث عما هم هم فيه غارقون؟ أم ان العلمانية هي في ارتباط وثيق لا تنفصم عراه عن عصر العلم والمعرفة والقوانين الوضعية الملتزمة بحقيقة ما هو قائم وليس استخراج تعسفي لاعراف البدائيين الذين اعتقدوا ان ما يحملوه في تراثهم كاف لديهم لا لسبب الا لانهم متواضعون في مطالبهم وراضون عن قناعة بانهم اصحاب حقيقة رغم فقر واقعهم وجهلهم بكل ما يحيط بهم؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المحكمة العليا تنظر في حصانة ترامب الرئاسية في مواجهة التهم


.. مطالب دولية لإسرائيل بتقديم توضيحات بشأن المقابر الجماعية ال




.. تصعيد كبير ونوعي في العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل|


.. الولايات المتحدة تدعو إسرائيل لتقديم معلومات بشأن المقابر ال




.. صحيفة الإندبندنت: تحذيرات من استخدام إسرائيل للرصيف العائم س