الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثانيا: التاريخ حر

فارس تركي محمود

2020 / 8 / 24
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


وهذا هو القانون الثاني من قوانين التاريخ، فما دامت قوانين التاريخ هي ذاتها قوانين الإنسان فلن يكون التاريخ إلا كالإنسان حراً يكره القسر والإجبار ولا يتفاعل مع الإملاءات ولا يسلس قياده لأحد، بل على الجميع أن يسلسوا قيادهم له ويخضعوا لقوانينه. إن قانون حرية التاريخ قانون ثابت لا يمكن خرقه أو التحايل والالتفاف عليه، وعندما نقول أن التاريخ حر فهذا يعني أن قوانينه ستتكفل بإفشال أية محاولة أو تجربة بشرية تقوم على الإجبار والقسر، وبخاصة إذا كانت هذه التجربة تسعى إلى بناء أمة أو مجتمع أو كيان سياسي، وفشل التجربة لا يعني عدم قدرتها على إقامة كيان مادي – امبراطورية، دولة، دويلة، إمارة، الخ. . . – لكنه يعني أن هذا الكيان سيحمل بداخله بذور فنائه، وسيمر حتماً بمرحلة الانهيار والتصفير المرة تلو الأخرى، وسيكون في حالة اضطرار دائم لاستخدام مستوىً عالٍ من القوة والعنف الفوقي من أجل ضبط تفاعلات المجتمع وفرض السيطرة عليه، وسيعاني من الاضطرابات والاهتزازات والصدامات والانقلابات، ولن يستطيع الاستمرار لفترات زمنية طويلة، كما أنه لن يستطيع الوصول إلى أي مستوى من مستوى البناء التراكمي، بمعنى أنه وفي اللحظة التي سينهار فيها هذا الكيان سيجد المجتمع أنه لا يزال يراوح في مرحلة الصفر، وهذا ما أثبتته كل التجارب التاريخية التي خاضتها الأمم والشعوب.
إن كل التجارب التي خاضتها البشرية في القرون والحقب التاريخية السابقة لعصر التنوير والحداثة كانت مبنية على القوة والعنف ومصادرة الحريات وإجبار الناس على تبني توجهات وممارسة سلوكيات واعتناق أفكار ومذاهب بعينها، لذلك فشلت في البقاء والاستمرار وفي إحداث نقلة نوعية في مسيرة الجنس البشري. إن الإنسان بطبعه ينفر من القمع والإجبار، نعم قد يقبله على غيره بل وقد يسعى من أجل ممارسته على الآخرين إلا أنه لا يرتضيه لنفسه. لذلك فإن محاولة إجبار الناس قد تنجح لفترة محدودة لكنها ستفشل بالتأكيد على المدى البعيد، وستترتب عليها الكثير من العواقب الوخيمة والنتائج السلبية ليس أقلَّها تزايد مناسيب القمع وتنامي الميل للعنف وانتشار السلوكيات الخشنة. وسبب الفشل يتمثل بأن الاختلاف والتنوع جزء من التكوين الإنساني فالبشر كانوا وما زالوا وسيبقون مختلفين ومتمايزين في أفكارهم ورؤاهم وتوجهاتهم وأذواقهم، لذلك فإن إجبار الناس على فكرة أو سلوك بعينه سيصطدم حتماً مع توجهات وأفكار نسبة كبيرة من أبناء المجتمع وسيحولهم إلى عناصر تختزن بداخلها مشاعر الاستياء والغضب والرفض والرغبة بنسف الواقع وقلبه رأساً على عقب.
إن من أبرز حالات القمع والإجبار التي شهدتها البشرية عبر التاريخ هو القمع أو الإجبار الأيديولوجي، بمعنى فرض أيديولوجيا معينة على المجتمع وإجباره على الالتزام بها، سواء كانت تلك الايديولوجيا ايديولوجيا دينية أو مذهبية أو عرقية أو ممثلة لتوجه فكري أو فلسفة سياسية. ويعد هذا النوع من أنواع القسر والإجبار من أكثر الأنواع ضرراً على الدولة والمجتمع، وذلك لأن المتبنين له يعتقدون اعتقاداً جازماً بأن أفكارهم وأيديولوجيتهم تمثل الحق والصواب المطلق وبأنها الطريق الأمثل للبناء والارتقاء وإن كل ما يخالفها هو الخطل والانحراف بعينه، وبناءً عليه يتم إجبار المجتمع برمته على السير وفقاً لمقولات ومبادئ تلك الايديولوجيا، ويتم تسخير كل موارد وقدرات الدولة والمجتمع من أجل تحقيق أهدافها وتصوراتها، والأنكى من ذلك أن الايديولوجيا – وهذه خصيصة ملازمة لها - لا يمكن لها أبداً أن تعترف بأنها خاطئة ولا بأي نسبة مئوية حتى لو قادت مجتمعاتها إلى الهاوية، فالملام دائماً – وبحسب متبني الايديولوجيات - هو الخلل في التطبيق وليست الأسس الفكرية للأيديولوجيا ذاتها، والنتيجة الطبيعية لمثل هذا التصور أن الحكم المؤدلَج لا يمكن إقناعه بخطأ سلوكه ولا يمكن له أن يتغير أو يعيد النظر بمنطلقاته، وبالتالي لا يتبقى سوى طريقة واحدة لإزاحته وهي القوة مع ما يعنيه فعل القوة من ثورات واضطرابات وصدامات وربما حتى حروب كونية كما حدث مع الايديولوجيا النازية والفاشية. وما زالت الكثير من الأمم والشعوب لا تدرك قانون حرية التاريخ وما زالت تحاول أن تفرض آراءها وأفكارها بالقوة وبالإجبار وما زالت تفشل المرة تلو الأخرى لأن قوانين التاريخ تنتصر دائماً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي