الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: بقية الفصل الثاني

دلور ميقري

2020 / 8 / 25
الادب والفن


4
في مقابل ديبو، القاسي القلب والمتعجرف، كانت امرأته كأنها طيفٌ، لا تكاد تُلحظ لشدة انطوائها وامّحاء شخصيتها. كانت قد تجاوزت سنّ العشرين منذ ثلاثة أعوام، صورة عن أمها بقسماتها المتناسقة وعينيها الخضر وشعرها الأحمر. برغم خلق رجلها، فإنها أحبته وشغفت بوسامته وطوله الفارع، فضلاً عن افتخارها بهيبته في أي مكان حلّ فيه كصف ضابط بسلاح الدرك. طبعه الناريّ، كان يُصدّ أحياناً أمام لطفها وخنوعها. كذلك اعتادت على معاملته السيئة للصبيين، لدرجة أن تتعمد اهمالهما كي يشعر بالراحة. أفضل ساعات الصفاء لديه، عندما يكون بصحبة دمجانة العَرَق وجهاز المذياع يُطلق الأغاني. إذاك، كان يجب أن يحل على المنزل صمتٌ شامل وأن يُبعد الولدين عن مجال نظر والدهما.
ريما، لعبت دَور الأم لحفيديها في أوان زياراتها لابنتها. وكان صالح يسمح لامرأته أن تبقى فترة طويلة في أثناء تلك الزيارات، ويسعده عودتها أحياناً برفقة الولدين إلى منزله وكأنهما حفيديه. في حقيقة الحال، أن بيروزا تربت تحت سقفه منذ نعومة أظفارها وكان لها بمثابة الأب الحنون والكريم. كان قد عارضَ امرأته، لما أبدت موافقتها على طلب موسي أن تكون ابنتها زوجةً لابنه البكر. قالت ريما لرجلها عندئذٍ، مبررةً قرارها: " كما تعلم، فإن سببَ رحيل أسرتي عن الشام إلى موطن الأسلاف كان على خلفية رفض والدي اعطاء ابنته لموسي. فلا أرغب بتكرار تلك المأساة، فأعرّض عائلتي لغائلة الحقد الأسود! ".

***
كون سيارة صالح بتصرف الأسرة في آونة الزيارة، فإنها مضت بهم إلى أشهر المنتزهات والأوابد الأثرية في المنطقة. ديبو، من ناحيته، كان قد أحضرَ لأجل أسرته سيارة المخفر مع سائقها، لمرافقة ضيوفه إلى تلك الأماكن. هكذا ركب الجميعُ القاربَ، ليمخر بهم مياه بحيرة مزيريب، الهادئة الوادعة. ووقفوا أيضاً لتأمل المنظر الساحر لشلالات تل شهاب، المنسابة بصخب عبرَ الصخور. ثم ارتقوا لاحقاً درجات المسرح الرومانيّ في قلعة بصرى الشام، المحمول بعظمة وجلال على الأعمدة الحجرية الشاهقة ذات التيجان. صالح، سبقَ أن زار هذه المنتزهات والأوابد، لذلك انشغل عنها بالحديث مع المضيف وسائقه عن تطورات الحرب. لكنه دُهشَ لمعرفته أن أسرة ربيبته لم ترَ شيئاً تقريباً من طبيعة حوران وآثارها، بل بقيت في غالب الأحيان حبيسةَ جدران المنزل.
بيدَ أنّ جارات بيروزا كن يحببنها ويحدبن على ولديها، بالنظر إلى بساطتها وأيضاً هيبة رجلها. ساعد على تفاهمهن معها، الجذور الريفية المتأصلة فيها من جهة أبيها الراحل. بغيَة التسلية، كانت قد زرعت حديقة الدار بالخضار بمساعدة أولئك القرويات. ديبو، المغرم بالأزهار، نظرَ بسخرية إلى تسلية امرأته وعلّقَ بالقول: " الخضار تأتينا مجاناً، مثلها في ذلك مثل اللحوم والفواكه! ". سمعة أفراد الدرك، بوصفهم أسوأ من النهّابين وقطّاع الطرق، كان يُجسّدها صف الضابط هذا. وكان أبناء الحي الكرديّ يشكلّون كتلة ثابتة في معسكر الحامية، وشكّلوا مشكلةً سواءً لرؤسائهم أو الأهالي. صهرَ عيشو، كان أحدهم، وما لبثَ شقيقها، " فَدو "، أن انضم إليه في نفس المعسكر. وكانت هيَ تلازم ابنتها، التي بقيت على قيد الحياة بعد موت شقيقتين لها. كون كلاً من ديبو وفَدو تورّطا بشكل أو بآخر في قضية مقتل ابنة عيشو البكر، فإنها أغلقت باب البيت بوجهيهما.

***
بسبب حساسية العلاقة بين المضيف وعيشو، لم يشأ صالح القيام بزيارتها مع أسرته، وكانت تقيم في مزرعة خارج البلدة. لكن فَدو سرعانَ ما حضرَ لبيت ابن شقيقه، وقتما أخذ علماً بوجود ضيوفه. العم، كان مماثلاً لديبو في العُمر، ويشبهه لناحية الوسامة والطول الفارع، وإن كان يفارقه في الطبع والمسلك؛ اللهم إلا في ايثار القصف والطرب والشرب. في ذلك الوقت، كان فَدو قد غدا أرملَ بعدما فقد امرأته وكانت في ميعة الصبا. أثناء زيارته، كان قد انتبه لما في خلق الصغيرة تحيّة من ضيق، فعمد أكثر من مرة إلى اغاظتها بمد رجله كلما مرت من جانبه وهيَ تلعب. لما كانت توبخه بعباراتها الطريفة، كان يُطلق قهقهات سعيدة: بعد ما يزيد عن العقدين من الأعوام، ستضحي ابنة صالح هذه المرأة الثالثة في حياة قريبه.
بيان، كانت أول أخت لبيروزا وحينما أبصرت نورَ الحياة كانت هذه الأخيرة في السادسة عشر من عُمرها، متزوجة قبل ذلك بعامين. في كل مرة كانت الأم تزور ابنتها البكر، فإنها دأبت على أخذ الصغيرة معها. لا غرو أن تنشأ بين الأختين علاقة حميمة، أشبه بما بين الوالدة والابنة. وها هما الآنَ معاً من جديد، تتقافز إحداهما كالأرنب بين الحقول النضرة فيما الأخرى تمشي متثاقلة بحمل بطنها. وكانت بيروزا تعرض أختها، ذات السبع سنين، على أنظار جاراتها كما لو كانت دمية لا مثيل لها في الجمال.

5
بالنظر لتواجد بيان أحياناً لدى شروع الكبار في الحديث، فإن المزيد من المعلومات عن الشقاق في العشيرة، وحتى بين الأشقاء، كانت تصلها؛ مثلما كان الأمر في الشام بالنسبة لأسرتها بالذات. وهيَ ذي هولة جديدة تقتحم أحلامها، متجسّمة على شكل المرأة الغامضة، عيشو، التي تعيش لوحدها في هذا الريف النائي، تحرث الأرض بنفس القوة المتعيّن عليها فيها التصميم على الثأر ممن خطف روحَ ابنتها. في صباح اليوم التالي، وبمجرد افاقتها من النوم، التفتت بيان إلى رودا، المتشاركة معها في الفراش، لتقص عليها بعضَ تفاصيل الحلم. ثم تساءلت بنبرة قلقة: " إذا كان ديبو قد قتل ابنة عمته، أليسَ من المحتمل أيضاً أن يأخذ أرواحنا في غفلة من والدينا؟ "
" إنك تضحكينني بمخاوفك، أيتها الطفلة الساذجة! "، علّقت الأختُ الكبيرة ضاحكةً. ثم أردفت تقول بنفس اللهجة المرحة: " وعلى أي حال، أنت المدللة لدى زوج أختك بينما يعتبرني أنا ابنة امرأة غريبة ". قطّبت الأخرى حاجبيها في زعل، واكتفت برفع ناظريها نحو السقف، المشغول بجذوع شجر الحور. قالت بعد وهلة تفكير، كأنما تخاطب داخلها: " عجباً، لماذا نحن أخوات من أمهات مختلفات؟ أما بيروزا، فإنها أختنا من أب آخر "
" بيروزا أختك أنت، لأن ماما ريما أنجبتها "، قاطعتها رودا بهذا التوضيح. طفقت بيان تحدق بأختها، ثم ما لبثت أن قالت: " أمك أيضاً ستنجب أطفالاً من رجل آخر، ولن يكونوا أخوتي؛ أليسَ كذلك؟ ". سكتت رودا عن الجواب، ولاحَ أنها أخذت على غرّة بفكرة لم تخطر لها ببال. هنيهة أخرى، ولاحظت الأخرى أن أختها تمسح عينيها من العبرات.

***
كان ثمة دكان في منتصف الشارع الضيق، أين يقع منزل أختها، وكانت بيان معتادة على شراء السكاكر منه. البائع العجوز وهوَ من أهل البلد، كانت هيئته غريبة على الطفلة القادمة من دمشق، وكذلك لهجته. ذات مرة، رافقها الابنُ البكر لأختها، " صلاحو "، وكان يصغرها بنحو عامين. قال لها حينَ حصل على نصيبه من السكاكر: " أهلي لم يشتروا لي هذه الأشياء الطيبة، أبداً ". اجتاحت الشفقةُ بيان على قريبها الصغير، فوضعت كيس السكاكر بين يديه، مكتفيةً لنفسها ببضع حبات منه. منذئذٍ وحتى مغادرتها البلدة مع أسرتها، راحت تراقب بانتباه زوجَ أختها حينما يكون مستمتعاً بسماع الأغاني من الحاكي أو المذياع وأمامه دمجانة العرَق: كان ابنه لا يرفع عينيه عن المازة، وهوَ في مكانه بالقرب من والدته. فإذا غابَ الأبُ هنيهةً، لحاجةٍ ما، فإن الأم كانت تختلسُ لقمةَ سردين أو شطيرةَ تفاح وتضعها في عجلة ولهوجة بفم الصغير.
قالت بيان لوالدها، معتنقةً إياه في حنان بالغ: " أنت أجمل رجل في العالم وأنا أحبك كثيراً ". تلقاها صالح ضاحكاً، وما أسرع أن غمز امرأته بما معناه أن الصغيرة تستدرجه لطلب هدية أو نقود. لكنه انتظرَ عبثاً هكذا طلب، وما عتمت الصغيرة أن انطلقت إلى خارج الحجرة. عند ذلك، أوضحت ريما ما غمضَ على الرجل من تصرف ابنته: " قبل قليل، حدثتني كيفَ يُعامل المغضوبُ ولديه، فأعربت عن سعادتها لأنها ابنتك ". وكانت تقصد بالطبع زوجَ بيروزا، وطالما روت بنفسها لصالح ما كانت تشهده من مسلكه الفظ واللئيم، خصوصاً مع طفليه. برغم طبعه الصعب، كان يحترم حماته ويتصل في كل مرةٍ من مقر عمله بصالح كي يرجوه السماحَ لها أن تأتي لتزور أسرته.

***
عقبَ انتهاء أيام العطلة العشرة، بدأت الأسرة الضيفة تجهز نفسها للعودة إلى دمشق. برغم الخير الكبير، المنهال يومياً على المضيف من عمله في جهاز الدرك، لم يجد حاجةً لارسال ولو سلة فاكهة إلى شقيقيه فيّو وفوزو. هذه أيضاً كانت ملاحظة ريما، همست بها في سمع رجلها. وكانت بيان تقف عندئذٍ بالقرب من الأم، تنظر بحزن إلى المنزل، الذي قضت فيه أياماً جميلة. لما حط بصرها من بعد على هيئة ابن أختها، ما كان منها إلا الاندفاع نحوَ والدها قائلةً بحرارة: " لنأخذ صلاحو معنا إلى الشام، فإنه سيسعد كثيراً لدينا "
" على الرحب والسعة، لكن بعد موافقة والده "، رد صالح مبتسماً وهوَ ينظر إلى المضيف. هذا الأخير، تعيّن عليه أيضاً الاستماع إلى رجاء الطفلة الملولة، وكان كما علمنا يؤثرها بالود. توجّه أخيراً لابنه، متكلفاً نبرة مرحة: " يبدو أنك اتفقت مع خالتك الصغيرة من وراء ظهرنا! ". دقائق على الأثر، وكان الصغير يجلس بجانب بيان في المقعد الخلفيّ للسيارة، وذلك بعدما جهزت له والدته على عجل بقجة فيها بعض الملابس. وإلى ابنتها التفتت ريما قبل انطلاق السيارة، لتخاطبها بالقول: " سنكون على اتصال مع بعضنا البعض، هاتفياً. ولما يحين موعد وضعك للوليد، سأحاول التواجد بجانبك ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثلة رولا حمادة تتأثر بعد حديثها عن رحيل الممثل فادي ابرا


.. جيران الفنان صلاح السعدنى : مش هيتعوض تانى راجل متواضع كان ب




.. ربنا يرحمك يا أرابيسك .. لقطات خاصة للفنان صلاح السعدنى قبل


.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف




.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي