الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءة التاريخية كيفاً _ عبد الكريم سروش مثلا 5

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 8 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الجديد في مفهوم الوحي

في قراءته التاريخية يتوصل سروش أخيرا إلى صيغة جديدة لمفهوم الوحي يعتمدها أساس لكل تصورته عنه وهي الصورة التي حاول ان يتهرب منه مسبقا أو على الأقل يتحاشى القول بها، بل وأستنكرها في مبحث سابق عندما نفى عن النبي الشاعرية أي تعاطي الشعر وإن لمح بشكل غير مباشر على أحتمالية هذا الأمر بقدر ما، ولكنه هنا يعود ليقرر ما نفاه سابقا فيقول (الوحي هو "الإلهام". هو نفس التجربة التي يخضع لها الشعراء والمتصوفة. الاختلاف هو أن الأنبياء يقفون فيه في مستوى أعلى. وفي عصرنا الحديث يمكننا فهم الوحي على الأرجح عن طريق مقارنتنا إياه مع الشعر. قال فيلسوف مسلم ذات مرة أن الوحي شعر من نوع أسمى. فهو مصدر للمعرفة يعمل بشكل يختلف عن الفلسفة أو العلم. يشعر الشاعر أنه يتلقى الزاد من مصدر خارجي عنه. يشعر أنه يتلقى شيئا ما. فالشعر، مثل الوحي، موهبة. قد يفتح الشاعر آفاقا جديدة ويجعل الناس ينظرون إلى العالم بطريقة مختلفة‘) ، هذا ملخص ما أظنه كل مسعى سورش في موضوعه البحثي والنقدي كله والغائية الكبرى منه، أن شيطان أخر شبيها بشيطان الشعر هو من أوحى لمحمد وأخبره ماذا يجب أن يفعل، وبالتالي فالدين الإسلامي لا صلة له بالله ولا علاقة له بباقي الأديان إنما هي من جنون محمد وتأثره بشيطان خاص.
فمفهوم الوحي إذا عنده مما نستنتجه منه أنه ليس بالضرورة أنه محكوم بجملة عوامل تتعلق بإرادة الله وخياراته ولا بالهدف الذي يريد، بل هو في كل الحقيقية إلهام طبيعي مساوي ومماثل لإرهاصات التأمل والإبداع العقلي البشري وربما نوع من التأمل أو التصوف أو حتى نوع مما يسمى الجنون العاقل، بل وحتى أحتمالية أنه من وحي شيطان الشعر ولا مناص أبدا أن نقول غير ذلك، بل يجزم بقوله (هو نفس التجربة التي يخضع لها الشعراء والمتصوفة. الاختلاف هو أن الأنبياء يقفون فيه في مستوى أعلى)، أي أن شيطان النبي كان على درجة أعلى ومن العقلية والذكاء وترتيب الأمر من شياطين الشعر المعتاد في التعامل معهم.
علينا أن نعيد قراءة هذا النص ألف مرة قبل ان نقرر كيف يرى سروش الوحي وكيف يدرك النبي ماهيته وعلينا أن نأخذ الكلام بعقلانية الباحث الناقد بعيدا عن العواطف التي تلغي مفعولية العقل، وحتى نصل للمراد علينا تفكيك هذا الكلام إلى جزئياته لنرى كيف ينظر للأمر بجدية، لا كيف ننظر نحن لما وراء النص؛ هل حقا نحن أمام حقائق لا بد من أحترمها كونها أفكار تريد الوصول إلى الحقيقة؟ أم تريد الوصول إلى شيء أخر مختلف؟ هنا لا بد أن نحدد ما يلي:.
1. الوحي هو الإلهام.
2. الإلهام بشري من وظائف العقل الإنساني حينما يكون فاعلا بقوة.
3. الإلهام هو مصدر التشريع لكونه مصدر المعرفة به.
4. الإلهام شعور حسي من ارتدادات القوى النفسية الحسية.
5. الإلهام موهبة ممكنة لكل إنسان ممكن أن يتوفر عليها خارج ضرورة أن تكون مجعولة بعلة أو بشرط خارجي.
فيكون الوحي استنتاجا منطقيا على أنه من كون بشري أعتباري ومن وظيفة العقل وليس له علاقة بالقوة الفوقية المتحكمة بالإنسان أو الراغبة في إيصال رسالة له، وعليه فيكون العقل الإنساني هنا هو مصدر للتشريع لأنه هو مصدر المعرفة به ولا يعدو أن يكون مجرد إدراك من العقل لما في الحس البشري من قدرة على التقاطه بالتواصل مع مصدريته الأصلية من الحواس، وبالتالي فلكل إنسان تتوافر له الموهبة التي تختلق حسب ما يفهمه علماء النفس من موارد أن يكون قادر على أن يوحى له، وليس شرطا أن تكون للقدرة الربانية إردة في ذلك أو أفتراض شروط خاصة له ، هذه هي فرضيته بقراءة منطقية لما جاء به من مفهوم للوحي.
قد يظن البعض أننا بنينا هذا الإخراج المنطقي لفكرة سروش خارج سياق ما اراد هو لها أو ما كان يقصد، وأنه لازال يؤمن بأن لله تعالى هو مصدر التشريع من خلال الوحي، وقد نكون قد ذهبنا بعيدا باستنتاجنا من أن التشريع أصله عقل الإنسان باعتباره هو الذي صنع المعرفة بها، ونقول أن هذا الكلام ليس استنتاجا فقط بل هو تصريح حقيقي منه بذلك، ولا ينكر بذلك كنتيجة لما قدم أن بشرية التشريع ليس طرحا أحتماليا وأنه مجرد صناعة عقلية للنبي فيقول (إنني أعتقد أنّ النبي هو المشرع للأحكام الفقهية، أنّ النبي نفسه هو المقنن لهذه المسائل وبالطبع فإنّ الله تعالى أمضى القوانين التي شرعها النبي )، أما في نص أخر وحديث في زمنه يرى أكثر من هذا، فهو أي النبي ليس مشرعا بالنيابة بل خالق للتشريع أيضا (ولكن في الواقع - أو بالأحرى في الوقت نفسه – يكون هو الخالق والمنتج. أما السؤال عما إذا كان الإلهام يأتي من الداخل أو من الخارج فهذا لا يهم في الواقع، لأنه على مستوى الوحي ليس هناك فرق بين الداخل والخارج. الإلهام يأتي من ذات النبي. وذات كل فرد هي ذات إلهية) .
هكذا تتبلور صورة الوحي عند سروش والتي يريد أن يبسطها بقول خفي أن ما أدعاه النبي عن علاقته بالوحي مجرد توهم نفسي نابع من عبقرية، في جانب منها يتوسل بالخداع للأخرين باعتباره وجه أخر من الذكاء عندما يتراكم ويأخذ المدى المناسب له، فيكون الأمر بعده سهلا وميسرا لأن يأتي بكل جديد دون مواربة من المجتمع (فدوام التجربة يفضي إلى تكاملها قطعاً، والتجربة الباطنية للنبي حظت بمثل هذا التكامل والبسط، فيوماً بعد آخر تشتد نبوته وترتفع منزلته ويكون أعرف وأبصر بغايته وأكثر حزماً وعزماً في أداء وظيفته وأشد قوة ومقاومة لتحقيق أهدافه وأفضل توفيقاً وأشد اطمئناناً في أداء مهمته. ).
هنا يعود الدكتور سروش إلى فرض التأريخ عاملا حاسما في فرض وبسط بشرية الدين المحمدي، وينفي فكرة إلهية الدين وقطع خيط التواصل والتكامل بالمنهج الرباني على امتداد الرسالات السماوية، بل أنه ينسب لكل نبي خصيصة بشرية باطنية هي التي توحي له وبإنقطاع عن السماء ما هو المطلوب؟ وكيفية صياغة الدين وفقا لما هو ممكن ومحتمل الإمكان حسب نطاقي الزمان والمكان تأريخيا؟ (ويحدثنا القرآن عن موسى أيضاً أنّه في بداية أمره خاف عندما انقلبت عصاه إلى ثعبان وأنّ الله تعالى كلّمه بلطف وقال {لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ}، ثم إنّ موسى انسجم بعد ذلك مع الوحي والمعجزة ) ،هنا يحكم الزمن كونه وجه التأريخ عن حقيقة الوحي عند الأنبياء كتجربة تتمثل في الأعتياد عليها والتعاطي معها، بدليل أنه لا يحسم ولا يجزم بها إلا من كونها حديث القرآن الذي صنعه النبي وليس أمر الله، فهو يورد قصة تأريخية من كتاب بشري لا من إردة ربانية تحكي العبرة والدليل.
لم تكن دعوات سروش منقطعة عن تاريخ الفلسفة الكانطية بل هي تعبير حقيقي عنها وعن فهم سروش لها، فهو يؤمن بتعدد النتائج بتعدد صور الله وبتعدد وسائط الترجمة عما يريده الله لنا، معتبرا أن حقيقة الدين كما هي مجردة ومطلقة تختلف تماما عن حقيقة معرفتنا بالله، لذا فالهم البشري لهذه الحقيقية يختلف طبيعيا ولا يمكن أن يكون على نسق واحد وعلى صور واحدة، هذه الحقيقة نجدها في الأختصار التالي (لا يسوغ لنا ونحن نتحدث عن الفرز الكانطي بين الشيء في ذاته والشيء كما يبدو لنا أن نغفل استعارةَ باحثي فلسفة الدين هذه المقولة وتوظيفها في مقاربة بعض الإشكاليات، ومن أبرز أولئك الباحثين القسُّ الإنجليكاني جون هيك (1922 - 2012) في كتابه فلسفة الدين، والباحث الإيراني المعاصر عبد الكريم سروش في كتابيه (الصراطات المستقيمة) و (القبض والبسط في الشريعة).
تأثر سروش وإنقلابه الفكري على مذهب معلمه وأستاذه الخميني الذي يمثل خط فكري جوهري أساسه العودة إلى الحق بمفهومه الخاص، الحق الذي يعني له العودة إلى مدرسة الفقيه الولي الذي يتحكم بالمجتمع من خلال فقهية الولي دون أن يمنح المجتمع ولا مؤسساته الأخرى الحق في إبداء الرأي، فهو يمثل صورة أخرى للحق الإلهي في إدارة المجتمع والدولة على أعتبار أنه الوحيد الذي يملك مفاتيح الفقه، فولد هذا الإنقلاب وبتأثير الكانطية على فكر سروش ومتأثرا كثيرا بمدرسة نفي تعدد الصراطات أو تعدد التجارب البشرية في فهما، وأنها جميعا ليست على حق طالما أنها تتناقض مع الحقيقية الإلهية البعيدة، والتي تمثل بصورة وحيدة هي حقيقة النور والظلمة المحركة لوجود الكون والقادرة لوحدها على تفسير قوانين الوجود .
هذا الطرح الخطير والمشكك بالديانات والتي نؤمن أنها من إرادة السماء بشكل أو بأخر، إنما يستهدف بالحقيقة إيمان الناس وجعل التشكيك في كل موارد هذا الإيمان من واقع الحال، من خلال التركيز على قضية ظاهرية تتمثل في عدم توافق الأديان على شكل ونموذج واحد، ناسيا إن التماثل والتطابق ينفي وينتفي مع زعمه هو في كون تجربة الدين تجربة بشرية، وينافي أيضا قانون العلة والمعلول، فعندما يشرع الشارع أديان متطابقة مع رسل مختلفين إنما يؤكد عبثيته أو عدم فهمه لأسس المعرفة البشرية، ناهيك أن وحدة الأديان لا تقاس كمعيار بالظواهر الخارجية إنما بالجوهر القصدي لها، فهي تركز على مسألتين في كل ما نجده من ديانات ولو تحديدا الإبراهمية منها، أولا تركز على التوحيد الإلهي والثاني على مصلحة الإنسان في البحث عن الأصلحية والأخيرية في الوجود، وهذا وحده يكفي ليكون جامعا ومشتركا بينها ناهيك عن الكثير من المفاهيم القيمية الأخرى والتي تشكل نسيج واحد في جوهرة وحتى في شكلياته لولا تدخل الإنسان بالتحريف والتزييف.
فنكران الوحي الإلهي والتشكيك بمصدرية الدين الواحدة وأفتراض بأنتظار الخطوة التالية التي لم يفصح عنها وهي أن العالم أساسا محكوم بقطبي النور والظلمة ، والخلاصة عنده إن ما يجري على يدي الأنبياء والرسل إنما هو في الحقيقة جزء من صراع (الشيطان) الذي يمثل الظلمة مع الإنسان وواقعه الطبيعي كونه يمثل النور (الإرادة الإلهية)، هذا الطرح ليس غريبا في مجتمع مع إسلاميته المعلنة لكنه ما زال يؤمن بأسس الفكر المجوسي، ولا يمكنه أن يغادرها لأنها جزء أصيل من هويته الدينية حتى لو أدعى الإسلام ظاهرا ، إن التركيز على أن الوحي هو إلهام من الشيطان الذي سيطر على الأنبياء والرسل يعني أن فكرة الدين خارج الثنيوية الطبيعية هي بالأصل خارج صراع النور والظلمة وهي مجرد نتاج شيطاني خالص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت


.. #shorts - Baqarah-53




.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن


.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص




.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح