الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-موريس كورنفورث والبراغماتية والفلسفة العلمية- (6-7)

سلام ابراهيم عطوف كبة

2020 / 8 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


مشروع العلم

يبقى علينا ان نذكر باختصار ما يقوله ديوي في موضوع العلم،ثم نلخص بعد ذلك الاستنتاجات العامة حول فلسفته كمجموع.انه يعتبر العلم(كفن عملي).انه حينما يقول عنه انه(محاولة،مشروع..(58)،فانه يصفه بكونه(صناعة تخصصية عالية)..وانه تطبيق على درجة من التخصص بحيث انه لا يبدو اسلوبا للعمل والتطبيق بالمرة)(59)وهو يلح على ان العلم لا تنحصر مهمته في العناية بصياغة التعميمات،واننا لا نستطيع فصل العلم(الخالص)عن العلم(التطبيقي)اي العلم المعني بالتعميمات،عن العلم كما هو مطبق في الاغراض العملية الخاصة(60).ان(القوانين)التي يصوغها العلم والتي(يفترض انها تحكم الظواهر)المختلفة،ما هي في الواقع الا(طريقة عقد صفقات فعالة مع الموجودات الحسية،وطريقة تنظيم علائقنا معها)(61).
واذا عارضنا هذا الرأي عن العلم بالرأي الوضعي القديم من ان العلم انما يعني بالتنبؤ بنظام ترتيب المعطيات الحسية،او ان العلم انما يعني بالتعميمات القائمة على الموضوعات المقبولة تقليديا،فقد يبدو لاول وهلة بان هناك كثيرا من الحق في رأي ديوي.فمن الحق بكل تأكيد ان العلم ليس مجرد(نظرية خالصة)وانه يستند الى التكنيك(العالي في التخصص)وانه يصبح(طريقة تنظيم)معاملاتنا(بالموجودات الحسية).الا انه مع ذلك،فان هذه الحقيقة انما تعبر عن وجهة نظر خاصة جدا.ان تسمية العلم بكونه(مشروعا)او(صناعة عالية التخصص)او(طريقة لعقد الصفقات الفعالة)هو كلام في العلم يعبر بكل وضوح عن وجهة نظر رجل الاعمال(العملي)الحديث.ووجهة النظر هذه تضفي على ما يقوله ديوي في العلم طابعا مميزا يؤدي به الى الزوغان والانحراف.
ان ديوي بتأكيده على ان العلم هو(اسلوب العمل)،يستمر في اعتبار النتائج العلمية مجرد دلالات على(الاعمال الواجب انجازها)لتحقيق اهداف خاصة واستجابة لقضايا خاصة مطروحة – وليس باعتبارها تكون اية معرفة علمية(بالموجودات الحسية)الموضوعية.ان القوانين العلمية في نظر ديوي،لا(تحكم الظواهر الا على سبيل الافتراض): انها في الواقع(طريقة لعقد الصفقات بصورة فعالة).ان ديوي يسلم باستمرار،كسائر الوضعيين الآخرين الذين يحاولون معارضة آرائهم بآرائه الخاصة،على ان العلم لا يقدم اية معرفة عن العالم الموضوعي(الذي له وجود سابق ومستقل عن عمليات المعرفة).
ان هذا ظاهر مثلا من العبارات الآتية – على غموضها واضطرابها – التي يتحدث فيها عن السببية وقوانينها.ان(مقولة السببية)كما يقول(ليست مجرد افتراض منطقي كيفي)،انها ليست تعسفية،لانها انما تطورت واحتيجت لاغراض عملية محددة.الا ان(المقولة المذكورة هي مقولة منطقية وليست وجودية).(ان مقولة السببية تضفي على الموضوع،الشكل المنطقي،عندما تثور مشاكل معينة محددة حول المادة موضوعة البحث)(62).ومعنى ذلك اننا نحن الذين ندخل(المقولة المنطقية)للسببية في(المادة الوجودية موضوعة البحث).نحن الذين ندخلها دون ان نكتشفها في(موضوع البحث الوجودي)بالذات ذلك لان الطبيعة لا تتفق(داخليا)مع قوانين السببية.ان الدهشة من سبب انطباقها على القوانين المذكورة لا تختلف عن الدهشة من وجود الانهار بجانب المدن:اننا نجد المدن على الانهار لاننا نحن الذين نبنيها هناك،وكذلك فنحن نجد نتائج بحوثنا العلمية معبرا عنها بالقوانين السببية،لان تلك هي الطريقة التي نعبر بها عن نتائج ابحاثنا.ان القوانين السببية هي(ذات طابع مفاهيمي بطبيعتها)(63).
ان مفهوم ديوي عن العلم،بصورة عامة،يتلخص في ان هناك صفقات للتعاقد،وان هناك مشروعا للقيام بها وذلك لاكتشاف احسن السبل لعقد الصفقات المذكورة.ان ديوي يلح على معالجة تطور العلم،كما لو كان منطويا على سلسلة من الابحاث،يستجيب كل منها لاحد دوافع مشاكل خاصة معينة،ويؤدي الى نتائج عملية،في الطريق لايجاد حل للمشاكل المذكورة.
ومع ذلك،فبينما يكون من الصحيح ان مجموع تطور العلم تحدده المشاكل العملية،فليس من الصحيح ان العلم تطور او يستطيع ان يتطور بمجرد تعاقب الحلول للمشاكل العملية الخاصة.ان العلم هو تطور معرفة الارتباطات المتقابلة وقوانين حركة الحقيقة الخارجية.ان مشروع العلم ليس مجرد مشروع لاكتشاف كيفية(عقد الصفقات بصورة فعالة)بصدد سلسلة من المواقف تدعو لاستجابة من نوع تجاري،بل هو مشروع لتوسيع وتوحيد معرفتنا بالعالم المحيط بنا.ان تحديدات مفاهيم ديوي عن العلم تظهر بشكل صارخ بمعارضة مفهومه بالمفهوم الذي طورته المادية الديالكتيكية عن العلم والذي يقود التطوير المبرمج للعلم في الاتحاد السوفياتي.مثال ذلك انه بالنسبة لخطة الخمس سنوات 1946 – 1950 لاكاديمية العلوم في الاتحاد السوفياتي،كتب س.أ.بافلوف مايلي:
(ان العلم الذي ينشأ من حاجات العمل والتطبيق والذي يبرر وجوده بالاكتشافات التي يمكن ان تجد تطبيقها بالعمل،له بنفس الوقت منطقه الخاص للتطور.وقد تمر احيانا عشرات السنين قبل امكان القيام بتثمين صحيح لنظرية علمية معينة،وقبل امكان تحقيقها في التطبيقات العملية.مثال ذلك ان نظرية ماكسويل عن الامواج الكهربائية المغناطيسية،بالرغم من انها صيغت في ستينيات القرن الماضي،الا ان جهاز الراديو لم يوجد الا في نهاية القرن المذكور.وكذلك فان فكرة النواة الذرية كان قد تقدم بها نيوتن،الا ان الانفلاق الذري لم يكتشف من قبل بيكريل الا منذ خمسين عاما فقط.اما كامل اهمية الطاقة الذرية فلم نبدأ بادراكها الا في هذه السنوات.ان هذا يفسر لماذا كانت خطتنا تتحدد بمقتضيات تطور العلم النظري،بمقدار تحددها بالمشاكل العملية التي تطرحها الدولة السوفياتية.ان عمل الاكاديمية لا يمكن فصله عن التطبيق،وانه ليمد جذوره في التطبيق،الا انه بنفس الوقت يطمح الى نتائج ابعد مدى بكثير من تطبيق يومنا هذا)(64).
اما مفهوم ديوي للعلم من الجهة الاخرى،فهو ببساطة ان هناك اعمالا للمباشرة ومشروعا علميا لاظهار كيفية مباشرتها.انه يقول،بانه نتيجة للعمل العلمي(يمكن الابقاء على الثمار،وهذه الثمار هي ثمار تقدم العلم)(65).
ان العلم هو مشروع فكري للقيام ببضعة اعمال وللحصول على بضعة نتائج معينة ولاختطاف بضعة(ثمار)محدودة.ان تقدمه يكمن في سلسلة من الصفقات الناجمة،وما تقدم المعرفة الا نجاح الصفقات المذكورة.ان مصدر هذا المفهوم المتناهي في الضيق،ليس بعيدا عن الادراك.
ان مفهوم ديوي للعلم يعكس الوضع الحالي الحقيقي للبحث العلمي في الولايات المتحدة،حيث تقوده في الوقت الحاضر لحد كبير معاهد البحث(بما في ذلك الجامعات)التي تسيطر عليها الشركات الصناعية الضخمة،وفي المدة الاخيرة السلطات العسكرية،التي تفرض عليه مهمات معينة لادائها ونتائج معينة لتحقيقها.واحسن مثال على هذا الشكل من المشروع العلمي هو مشروع القنبلة الذرية.الا ان جميع العلم في الولايات المتحدة وفي انكلترة ايضا يميل بصورة متزايدة للقولبة في هذا القالب.
ان الاحتكارات التي تمول وتسيطر على الجزء الاكبر من العلم مباشرة او بواسطة الدولة،ليس لها مصلحة في تعميق وتوسيع نطاق المعرفة بالطبيعة،مما يؤدي الى تمكين البشرية من السيطرة عليها واغناء الحياة البشرية.انها تهتم فقط بما يمكن ان تجنيه هي من العلم بشكل ارباحها الحدية الخاصة من القنابل الضخمة والغازات السامة والبكتيريا الفتاكة،بالدفاع عن توسيع امبراطوريتها الخاصة،وما تعود بها عليها هذه الاعمال التدميرية.ولهذا كانت حصيلة العلم من خضوعه الى هذه المصالح الاحتكارية هي مسخه وعسكرته،وشل البحث العلمي المفيد،وتغليب السرية عليه،وخدمة مصالح الامن،واخضاع العلماء للضغط العسكري،وتقويض حريتهم الفكرية والعملية.وهذا النوع من التنظيم العلمي هو الذي نراه منعكسا في نظرة ديوي للعلم باعتباره فنا عمليا،لا تكمن(ثماره)في معرفة الحقيقة الموضوعية،بل في الاكتشاف الناجح لطرق عقد الصفقات التجارية.


الهوامش

(56) ماركس وانجلز: (الآيديولوجيا الالمانية).
(57) لينين: (المادية والنقد التجريبي)،الفصل الخامس،المقطع الثاني.
(58) جون ديوي: (مقالات في المنطق التجريبي)،ص 412.
(59) نفس المرجع،ص 436.
(60) (المنطق) – ص 21.
(61) (البحث عن اليقين)،ص 199.
(62) (المنطق) – ص 459.
(63) (البحث عن اليقين)،ص 198 - 201.
(64) مقتبس عن (سوفييت نيوز)،عدد 1542،تاريخ 26 ايلول 1946.
(65) (البحث عن اليقين)،ص 184.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في


.. ماذا تضم منظومات الدفاع الجوي الإيرانية؟




.. صواريخ إسرائيلية تضرب موقعًا في إيران.. هل بدأ الرد الإسرائي


.. ضربات إسرائيلية استهدفت موقعاً عسكرياً في جنوب سوريا




.. هل يستمر التعتيم دون تبني الضربات من الجانب الإسرائيلي؟