الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءة التاريخية كيفاً _ عبد الكريم سروش مثلا 9

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 8 / 28
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


صناعة القرآن

من نتائج فكرة صناعة الدين وزيف قضية الوحي وأن الله ليس واحدا متحكما بالوجود كما بينا في البحث السابق نصل إلى محصلة من ضمن محصلات فكرته، وهي أن ما يسميها الكتب والرسالات هي جزء من عملية موهومة وغير حقيقية لأن مصدرها مشكوك فيه ولا يمكن أن يبنى على المشكوك والأحتمالي يقين بقضية أخرى هي من ضمن موضوع غير حقيقي، هنا أسس سروش لفكرة أخرى وهي أن النبي هو من يصنع القرآن وقد صنعه وفق ذاتية ومزاجية خاصة به دون ان يكون للوحي الذي ينكره مرة ويثبته مرة اخرى دور في ضبط لغة القرآن وضبط الأحكام، فكل ما وصلنا من القرآن هو الجانب الشخصي المزاجي لروح ونفسية النبي وتعقله للفكرة التي ينادي بها، فهو صانع القرآن ومبتدعه وبالتالي لا بد أن تظهر شخصيته المتأثرة ببيئتها وتحكم قوانين الواقع الاجتماعي فيها من بين المباني والمعاني التي تحمل أسلوبيته في السرد فيقول (لعب شخصيته أيضا دورا في تشكيل النص: تاريخه الشخصي، وشبابه، وأبوه، وأمه وكل ما عايشه من تجارب. ولمزاجه دور أيضا. فإذا قرأت القرآن تلاحظ أن النبي يكون أحيانا حاد المزاج وبليغ اللسان، بينما ينتابه في أوقات أخرى قليل من الملل وتكون حماسته أقل. كان لكل هذه الأمور دور هام في تشكيل القرآن. وهذا هو الجانب الإنساني البحت في مسالة الوحي )، إذا لقرآن ليس معصوما ولا محفوظا ولا كلام الله القديم بل هو باختصار تجربة النبي الحسية فقط.
وليس فقط أنه تجربة تتفاعل مع الواقع بقانون التكييف والموائمة ولكن يشترط لها أيضا روح المبادرة من المجتمع، فالشريعة والدين مجرد أفكار صامته غير قادرة على البوح أو الإفصاح عن مشروع محدد أوعن طرح اجابات وتصورات وحلول استشرافية، بل وحتى عن اجابات حالية ما لم تسأل ويسأل الدين عنها ،يطرح سروش مقولة بأن الشريعة صامتة والمقصود هنا ان الشريعة لا تطرح الاجابات من ذاتها، فلو لم يطرح الواقع موضوعه وتساؤلاته وعلات وجوده للنقاش لا يمكن ان يكون للدين دور في كشف الرؤية التصورية ولا التكوينية التكيفية عنه ،ولا بد من أن هناك من يسأل وهي تجيب لكي تستجلب الإجابة من قراءة أنية مرتبطة بالزمن والمكان وحالية السؤال ومحله.
اذن المشكلة تدور حول استراتيجية السؤال والاتجاهات التي يقود اليها، فترتيب الأحكام وصياغة شكليتها مرتبطة دوما بالسؤال وكأن مجتمع مكة ليس بذاك المجتمع البدوي الجاهلي، ولكنه مجتمع المدينة الفاضلة التي تصوغ مستقبلها وفكرته عنه من خلال هذا السؤال الذي يكشف عن اشياء كثيرة أيضا، منها مستوى تطور المجتمع ونسبة الحرية المدنية فيه وعلاقة السلطة بالمجتمع ومكانة الشريعة في حياة هذا المجتمع، الشيء الذي يركز عليه سروش وفكره أن الدين هو الشريعة تتطابق وتتوحد في المعنى والدلالة دون أن يفرق مثلا بين الأسس العامة للدين كعقيدة وبين الفهم البشري لبعض مؤديات العقائد والتي تبدو مثلا جديدة أو غير مفهومة من الإنسان لسبب ما، فتنزل الأحكام لتفسر العام بالخاص أو الكلي بالمفصل والتي تشكل جزء من الشريعة وليست كل الدين، فمثلا حينما ينزل حكم وبمنطق (ويسألونك) أو ما شابه، هذه الأجوبة لا تعدل ولا تغير من جوهر الدين كعقيدة بل توضح وتفسر جانب أحادي من الشريعة (ويسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت....)، فالجواب هنا تفسيري وليس من سنخ الكليات العقيدية التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدل ولا تحور.
فالزعم بأن الدين مجرد شريعة للناس لا بد أن تكون في جزئها العملي مرتبطة بالواقع إنما الهدف منه ومن طرحها على الشكل هذا، هو محاولة للخلط ما بين العام والخاص وما بين الكليات والفرعيات ليصل بها إلى التشويش الذي يفقد التركيز عند المتلقي البسيط مما يجره للقبول لاحقا بمنطق التوحيد الذي يركز عليه سورش في قضية التكتمي، كل ذلك يسير في أتجاه ترسيخ فكرة بشرية الدين ونزوعه نحو بسط قوة البيئة وأثر المجتمع بتكوين سلاسل الفكرة الدينية أصلا معتقدا أن للجغرافية والتأريخ وتبدل الحال الاجتماعي مفصلية حاسمة في حركة تكوينه وصناعته (ومن هنا نفهم حال الأحكام الفقهية أيضاً بأنّها مؤقتة إلاّ أن يثبت خلاف ذلك، فجميع الأحكام الفقهية في الإسلام مؤقتة وترتبط بالمجتمع العربي في صدر الإسلام والمجتمعات المماثلة له إلاّ أن يثبت بالدليل خلاف ذلك، فنحن يجب أن نثبت بالدليل القاطع أنّ هذه الأحكام وضعت للأبد وفوق مقتضيات الزمان والمكان وغير مشروطة بشروط خاصة )، المراد هنا وضح جدا ولا يحتاج إلى تأويل فهو ينصرف بالتالي إلى أحد لأمور التالية:.
1. أما ن الدين هو دين مجتمع النبي ونتاج عصره ومرتبط به وجودا وعدما ،فكلما توفرت البيئة المناسبة فهو صالح معها وبها، وبالتالي فتبدل تلك البيئة يلغي مشروعية التدين به ويجب إنهاء وجوده تبعا للعلاقة السببية والعلوية (منسوبة للعلة) وهذا الترابط يجب أن يحترم، فبالتالي الضرورات تنتفي بانتفاء فرضها وهنا لم يعد لنا حاجة بدين انقطعت عنه المشروعية التأريخية ولم يعد صالحا للتعامل به.
2. مع قبولنا بهذا الدين أشتراطات مهمة تتمثل في تبديل وتعديل الأحكام الفقهية المستنبطة والمسنونة والمقننة به ومنه لكي تتوافق مع تبدل الواقع واختلاف البيئة تبعا لتغير المفهوم كي يكون صالحا ومتصالحا مع المجتمع الذي يعيش فيه.
3. أن الأحكام الفقهية للإسلام كونها كانت نتاج مجتمع عربي له خصائصه ومميزاته الفردية لا يمكن أن يكون صالحا للمجتمعات الأخرى التي لا تتعامل مع العربية ولا تتعامل بأحكام اللغة، لأن النسيج اللغوي يطرح الأفكار تبعا لفهم اللغة لها، وهنا لا بد من جعل الدين أما أن يتكلم بلغة الناس كل حسب ما يجيد أو أن تعفى الأقوام الغير عربية من تطبيقات هذه الأحكام الفقهية لآنها لا تفهمه ولا يفهمها ولا يمكن أن يعبر عن روحيتها الخاصة.
4. إطلاق صفة الوقتية على الأحكام الفقهية هو انتزاع لمفهوم إكمال الدين وتمامية الحجة ومن ثم تجريد الدين من قوة الحضور ونزع مشروعية الأحكام الفقهية التي نتعامل بها، أو على الأقل التشكيك بمشروعية التعبد بها من خلال طرح فكرة العامل الزمني المحدد لها، لنستعين بموارد فكرية غير الدين هذا أو حتى غير معنى الدينية كي تكون المحل المناسب والحل الأمثل لإشكالية توافق الدين مع الزمن.
إننا نلاحظ من كثرة الاعتماد على توظيف فكرة التأريخي مقابل الإيماني يستدرجنا فيها سروش إلى عمق أزمة فكرية تهز يقينية التسليم بقضية الدين أصلا، وعلاقته بالسماء وتنزع عن هذا اليقين ملامح الوجود الحقيقي ليصل بنا إلى فكرة (عبادة الوهم الخادع) الذي لا يفرق بين ما هو تأريخي وما هو واقعي طبيعي، الدين هنا كما يفهم سروش تجربة محدودة بزمنها تنتهي بالمبرر وتتوقف بتوقف الدافع لها، ولا يرى في الدين ذلك المحرك الذي يعتمر النفس بروحانية تقوده للعقل وتنتهي في حدود تدين العقل الفطري، بل أن كل ما نتصوره مجرد تغيب وعي العقل أصلا عن مدارات الزمن وتغيب العقل عن واقعه الذي يجب إعادة بناءه من جديد خارج الدين وخارج العلة الأولى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكاية -المسجد الأم- الذي بناه مسلمون ومسيحيون عرب


.. مأزق العقل العربي الراهن




.. #shorts - 80- Al-baqarah


.. #shorts -72- Al-baqarah




.. #shorts - 74- Al-baqarah