الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثالث/ 3

دلور ميقري

2020 / 8 / 28
الادب والفن


فيما كان لغطُ الرجال يأتي من السطح، التقطت ريما وهيَ في موقفها بأرض الديار اسمَ مطار المزة، باعتباره هدف الغارة الألمانية. عند ذلك، صرخت وهيَ تهمد على الأرض مقرفصةً: " ويلاه، أخي حدّو يخدم في المطار ". صرختها، وصلت بدَورها إلى السطح، ما استدعى هروع الزوج للاطلالة برأسه إلى ناحيتها كي يسأل عما دهاها. ثم ما لبثَ أن أمرَ ابنتيه بالنزول عن السطح، ليلحق بهما على الأثر بعدما أبلغ جيرانه الواقفين ثمة عن جزع امرأته بخصوص مصير أخيها. أخذَ من ثم يحاول تهدئة مخاوف المرأة الملولة، بالقول أن خبرَ ضرب المطار لا يعدو عن كونه افتراضاً، حَسْب: " فأينَ نحنُ من ضاحية المزة، التي من المحال رؤيتها من هنا بالنظر لبعدها "، أختتم كلامه مع ايماءات يديه ورأسه. لكن الخبرَ وصل لنساء الجيران عن طريق أزواجهن، وما أسرع أن توافدن الواحدة تلو الأخرى بغيَة التخفيف عن ريما.
استعادت بيان قبقابها من قاعدة السلّم، أين تركته قبل ارتقائها إلى السطح، وفي الأثناء راحت صورةُ الخال تتراءى لمخيلتها وهوَ في هندام الجيش الفرنسيّ، الأنيق. سبقَ لها أن افتخرت أمام زميلاتها في المدرسة بالخال، محوّلةً إياه إلى ضابطٍ رفيع المقام. لكنها كفّت عن هذه السيرة، لما نبهتها ملك بالقول عقبَ انفرادها بها أمام باب المدرسة: " لا تذكري مرة أخرى شيئاً عن خالك، لأنهم يعتبرون كل من يخدم الفرنسيين خائناً لوطنه ". في مناسبة سابقة، كانت ابنة علي زلفو آغا قد تباهت على الملأ بأن والدها من كبار الوطنيين. بعد عودتها للمنزل يومئذٍ، سألت بيان والدها عمن هم الوطنيين. فأوضحَ باقتضاب، عابساً: " إنهم جماعة من التجار، الذين يرتزقون من السياسة، دكاكينهم في البرلمان والوزارة! ". لكن وعيها كان محدوداً آنذاك، فلم تفهم شيئاً تقريباً من كلام الأب.

***
الخال، حظيَ بمكانة كبيرة عند أبي بيان أيضاً. كان والداهما ابنا عمومة، وعاشا في نفس البيت مع أسرتيهما. ظروف قاهرة، سبقَ والمعنا إليها في مكان آخر، أجبرت والد ريما على الرحيل إلى موطن الأسلاف، ثمة أينَ استقر وما عتمَ أن اقترن بفتاة بدوية أنجبت له حدّو. هذا الأخير، امتُحنَ منذ صغره بالنفي وبفقدان أبويه وأخوته في جائحة الريح الأصفر. لما ظهرَ في الشام لأول مرة في حياته، كان قد تجاوز سنّ العشرين وعليه هندام الجيش الفرنسيّ. مع أنه كان كتومَ الطبع، دأبَ لسانه على الانطلاق مع الصغار وربما لأنه حُرمَ من الطفولة. هكذا كان يقص على بيان مغامراته في المنفى، حاذفاً منها بالطبع الأشياءَ غير المناسبة لسنّها الغض. حينَ أضحى بمثابة الخطيب الرسميّ لأختها الكبيرة، أخذهما ذات مرة إلى صالة السينما، وكانت تعرض فيلماً مصرياً رومانسياً: تلك كانت المرة الأولى، تجد فيها نفسها بمقابل الشاشة الكبيرة، المسحورة، التي تستطيع استيعاب مدينة بأكملها مع شوارعها وحدائقها، ناسها يتكلمون بلهجة غريبة بالكاد تُفهم؛ وهيَ نفس لهجة المغنية أم كلثوم، المُغرم بصوتها الوالدُ بشكل خاص.
أول صورة فوتوغرافية شخصية، حظيت بها بيان في تلك السنّ المبكرة، كانت بفضل الخال. لقد جلبَ يوماً آلة صغيرة، لا تكاد تُشبه بشيء كاميرا العجوز الأرمنيّ، الذي يحضر أحياناً إلى الحارة، جارّاً قدميه المتعبتين، ليأخذ صوراً للذكور تحت أشعة الشمس. كانت كاميرا الخال مزودة بمصباح، يُضيء عند التقاط الصورة في مكان عتم أو بعد الغروب. مناسبة مجيء الخال ذلك اليوم، اتفقت مع بدء بيان دراستها في الفصل الثاني. عندئذٍ طلبَ منها أن ترتدي الهندام المدرسيّ، المكوّن من رداء بلون قاتم مع صدرية من الدانتيل، ناصعة البياض ومزركشة الحواف: ستظهرُ في الصورة بشَعرٍ بلون العسل، مفروقٍ ابتداءً من الجبهة ومنسدل من الخلف على شكل ضفيرة سميكة. وجهها المستدير، يلوحُ في غاية النقاء وتناسق القسمات، يبرز منه أنفٌ دقيق مدببٌ قليلاً عند المنخرين، مثلما أن الأذنين صغيرتان. الحاجبان الرفيعان، الفاتح لونهما، يُظهران العينين دكناوين. ثمة، أينَ انبثقت نظرةٌ عميقة وملغزة، منسجمة مع ظل ابتسامة حزينة على الفم المنمنم؛ نظرة، تذكّرُ المرءَ بمثيلتها في لوحة " الموناليزا "، الخالدة!

***
همسات مَن حولها من الأقارب، كانت تُلمّح إلى عدم رضا الخطيبة بحظها. الأخت الكبرى لبيان هذه، كانت في ذلك الوقت تعيش مع شقيقها الوحيد في منزل عائلة الأم. لم يكن بقيَ للأم غير شقيقها، وكان هذا لديه أسرة صغيرة يعيلها من دكان سمانة تقع في منتصف جادة الحي. كون الهمسات تعرّضت إلى ما أشيع عن ميل قلب الأخت لابن خالها، فإن الأم رأت بعد الخطبة أن تعيدها إلى بيت طليقها ريثما يتم الزواج. لا شك أن بيان سُعدت بعودة أختها الكبرى إلى الدار، ومنذ ذلك الوقت صارت ترافقها حينَ يأخذها خطيبها في مشاوير إلى السوق أو السينما.
" هل في وسع الخال الاقتران من ابنة أخته؟ "، سألت بيان ذات مرة أختها المخطوبة. تكلّفت هذه ابتسامة باهتة، تعبيراً عن سذاجة صاحبة السؤال، ثم ردت بالقول: " حدّو ليسَ خالي، بل هوَ أخو والدتك ". ثم أضافت تسرح بفكرها بعيداً: " خالي الوحيد، هوَ آدم، الذي يملأ جيبك بالسكاكر كلما مررتِ من أمام دكانه وطلبَ منك ايصال رسالة مسجّلة باسم أبينا ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير