الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القراءة التاريخية كيفاً _ عبد الكريم سروش مثلا 10

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 8 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الأكثري والأقلي

من حق السائل الذي يدرك أن الله تعالى يتعامل مع الإنسان كمخلوق مخير على قاعدتي الحرية في الأشاءة له والالتزام بالأشاءة منه بها، تبادلا بينهما بمقام تعلق كل منهما بالأخرى {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}التكوير 29، هذا من جهة الثانية تعلقها بالأولى كقوله تعالى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}فصلت40، التبادل هنا جدلي تبادلي لا يمكن فصل الإرادات ولكن يمكننا فهمها على حالية محددة خارج الموضوع بذاته وارتباطه بالنتائج البعدية والغائية، عليه يكون مضمون السؤال، لو أراد الله أن يطبق هذه القاعدة الأنفة على موضوع إقامة القواعد الأولى لكان لزاما أن يترك الأشاءة للمأمور على محل الحرية فقط ولا يمكن إلجائه على التقيد بالقواعد فقط.
الإجابة الأولى ستكون بلا شك أن الله يعلم ما يريد وفق ما جعل للأمر من علة، والعلة هذه ترتبط بمدى أيضا خارج الموضوع، فهو أي الله تعالى لم يأمر لغرض أمتحان الطاعة وكشف ماهيتها بل نسب للموضوع لعلة تنتهي خارج ما هو مفترض من الأمر، أنها ببساطة إقامة قاعدة تبتنى عليها كل الركائز الأخرى وأنها أصل الأشياء اللاحقة، وبالتالي فأن جعل الأمر مناط بكيفية الإنسان وإن كان متميزا بدقة التنفيذ، لا يحصن هذه الأسس من اجتهادات قد تتعارض مع العلة والغائية، وهنا يكمن سر الإلزام الملجيء بضرورة التقيد التام والمراقب من الله بالتنفيذ وفق المخطط المرسوم.
في الحياة العملية والبسيطة وفي عالم اليوم هناك ضوابط صارمة وهناك مخططات وطرق ومناهج تنفيذ دوما ترتبط بمحصلتها النهائية بسلامة المشروع المنجز بها، وضرورة ان يكون التوافق والانسجام حاضرا ودوما وبقوة في جميع المراحل التي تبتدئ من التصور المجرد وانتهاء ليس بالغاية البعيدة فقط، بل وحتى علاقة هذا الترابط بين البدايات والنهايات مع النسق العام الذي تعيش وتتصور وتتواجد بها الفكرة، وقد يمتد هذا المدى من العلائق لما بعد وما قبل وحتى إلى مديات قد لا تكون منظورة للتفكر المبسط بالأشياء، لأنها بالأول وبالأخر تجمعها مع الكون علاقة زمن تأريخي يؤسس لأشياء وتتأسس له وعليه أشياء أخرى، هنا لابد للعاقل أن ينظر من خلال أفق أكثر جدية وأشمل بزواياه خارج الموضوع بل خارج المنطق المفترض أحيانا.
هذا يحدث في الأشياء الاعتيادية التي هي نتاج جهد عقلي نظري وعملي مرتبط بالإنسان، الذي مهما بلغ من كمالية في التصور والتأمل ودقة التقنية لا بد له أنه يصطدم بما لا يمكن تحسبه وعده من العوارض الأصلية للأشياء، ومنها استحالة الكمال وبلوغ مرتبة التمام فيها طالما نحن جميعا متفقون على أن الإنسان كائن متجدد في التعلم وأكتشاف المعرفة ولا يتوقف عن ذلك لأنه ملزم طبيعيا أن يتعايش مع حركة الزمن وأستحقاقاته البدية، فالتوقف عند خط نهاية يعني أنتهاء مبرر وجوده وأختفاء علة السعي نحو الكمال وإن كان ذلك حلما أفتراضيا يصنعه بنفسه.
من هذا المنطلق ندلف إلى موضوع قد يشكل الدخول إليه والخوض فيه من المحرمات الفكرية ومن المحذورات العقلية عند البعض، ليس لأنه كذلك على ما أجزم به ولكن لكثرة ما بالغنا في تقديسه وإحاطته بالكثير من التصورات المغلقة التي غلفت معالمه، تعديا على أصل الموضوع أحيانا كثيرة، وفي أحيان أخرى لقلة الاهتمام الجاد به من جانب الكثيرين الذين يرون فيه مجازفة غير محمودة العواقب والنتائج، وأنها مهما شكلت من صدقية وإخلاص قد تعرض صاحبها للكثير من النقد القاسي والغير منضبط ممن أسس لها وروج وحافظ على هذه الطروحات التي تعرقل وتحبط مشروع الله _ الإنسان، وهذا المشروع هو تحطيم القواعد الأولى والخروج عن الالتزام بالأمر الإلجائي الذي أفترضه المشرع الأول وأراد أن يتم بالصرورة التي سطرها هو لا المشروع البديل.
النصوص التي وصلتنا محفوظة والتي تتعلق بالإقامة كلها تشير على مبدأ واحد هو إتباع إبراهيم عليه السلام، الذي سبق وأن تبين لنا أنه أقام الدين كرسالة وفق رؤية الله وليس وفقا لما يشاء هو، أي انه كان متبعا لأمر وجوبي، والإقامة هنا وإن كانت تعني مفاهيم متعددة ولكنها في الجميع تشير إلى معنى البناء والشروع بتنفيذ المأرب الربانية وأولها التأسيس {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }يونس105، لأن في خلاف ذلك وصف يتعدى حدود الإقامة السليمة وهو الإشراك والتشارك فيما ليس فيه حق للمقيم.
مناسبة هذا الكلام هو إيراد الدكتور سروش مفهومي الأكثري والأقلي فيما شرع الدين به وأفتراضا أنه شرع الله، فهو يرى أن كل ما وصلنا من الدين مبسوط على (قاعدة الأقلي) وأنه لا حقيقة أبعد من حدود الكفاية الضرورية لإقامة الدين، لأن ما بعد هذه الضرورات تمتد حرية الإنسان التي يجب أن لا تتقيد لاحقا بأكثر من حدود الأقلي، نافيا هنا مسألة الإكمال الديني بمعنى الجميع متيقنا من الإكمال تعلق فقط بالضروريات الموجبة.
الكلام بمجمله العام مناسب وحقيقي فيما يخص جزء من جوهرية الدين المتعلقة بالتكاليف والأحكام، أما ما يخص النظرة الشمولية من قبل الدين للحياة هناك وقفة تعارض نسجلها على فكر سروش دون ان نخرق قاعدة أن الله جعل الدين منهج للعقل قبل أن يكون منهج عمل، أي أن الله مكن للعقل بما بسط في أحكامة ن يكون هو المستنبط والمستقرئ في أن واحد لاستخراج المرادات الكلية والجمعية من أسس، أما جوهريته فهي مبينة بالتمام والكمال، وأما أن تكون رمزية لتكون مصدر للتفصيلات مهما تشعبت وتنوعت، فهو يحيل للعقل ذلك ويعتمد عليه في بلورتها لكن من خلال إكمال موارد العمل العقلي الأولي.
أما أن ندعي أن الله أو دين النبي قد أجمل الأقلي تاركا للعقل الإنساني أن يبني الأكثري من خلال نظرته لداخل الدين وخارجه مستعينا ببشريته وموثقا ذلك بالتجربة التأريخية، إنما هي مثل شخص يخلط الزيت بالماء باعتبار أن كليهما سائل ممكن أن يتمازج مع الأخر دون الالتفات للخصائص الذاتية لكل منهما، معتمدا على مبدأ السيولة بينهما فقط (إذا كنّا ننظر إلى الدين بعين الطمع ونتوقع منه أن يكون جامعاً وشمولياً ونريد أن نستخرج منه كل ما يحتاجه إليه الإنسان في حركة الحياة والواقع، وكنّا نرغب أن يمثّل الدين الحد الأكثر من توقعات الإنسان، فسوف نصطدم بهذه الحقيقة سريعاً، وهو أنّ الدين بهذا المعنى ناقص ولا يحقق جميع توقعات وطموحات الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية )، لا تعارض مع مورد الكلام جملة ولكن في التفصيلات هنا يحضر الشيطان، الله الذي خلق وعلم ما خلق وادرك ما بعد الخلق ونظم الحياة بالشمولية المحكومة بقاعدة النفع والمصلحة، لا يمكن أن يكون غافلا عن تصور كلي وجامع لهذا الخلق، ولا يمكن أيضا أن ننسب لله عدم العلم بها أو على الأقل عدم طرح هذا العلم بصورة تصورات في الكتاب الرسالي، أما صراحة وما تلميحا أو رمز يشير لها.
مجرد الإقرار بهذا النص يلغي فكرة الأقلي عن الله بل وينفي أيضا محدودية العلم بالمراد الكلي للدين، نعم ممكن أن تكون حدود التكاليف بالأقلي والالتزامات التعبدية أيضا، لأن ما في البشري من الدين أي ما يخص جانب البشر منه إمكانية تطبيق الأقلي، أما في الجانب الإلهي لا يمكن أن نقر به مع الإحاطة الشمولية والكمالية والجمعية للرؤية الإلهية {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً}فاطر44، في هذا الحال يقر سروش به ويعلن تناقضه مع نفسه حينما يصرح (إذن الدين {لا المعرفة الدينية} كامل لا جامع، وهذا الكمال يمثّل الحد الأدنى في عالم الثبوت لا الحد الأكثر في عالم الإثبات، أي أنّ الكمال الأقلي يتناسب مع شأن ذات وجوهر الدين، وليس بالنسبة للمعرفة الدينية التي تتحرك فيها عناصر التغيير والاختلاف .).
فقضية الأقلي تقابلها بالمنطق فكرة الأكثري وكلاهما تنبع وتتبع من مراد الله في وضع قاعدة معرفية للموضوع الذي يحدد فيه الأحسنية والأخيرية، وكلاهما وجه واحد يتناول ما في المحدد المطلوب أو المفروض أن يكون، فلا أقلي يمكنه أن يكون قائما بمفرده لأننا بخلافه وإن لم يذكر يمكننا أن نستنبط الأكثري عقلا، فالدين ليس كاملا فقط بل أيضا جامعا لحقيقة الموضوع، أما عن طريق المعرفة الدينية التي ندركها أو من خلال نصوص الدين وهي المبدأ في تحديدهما على إنفراد واضح وجلي، مثلا عندما يقول الله تعالى (حرمت عليكم ....) أو يقول (إن الله يأمر بالعدل والإحسان....) فهو حدد كلا المعنيين أما بطريق المعاكسة أو بطريق التحديد المباشر، قول الله حرم عليكم الميتة مثلا حصر التحريم فيها على أنها الجزء الأقلي من الضروريات ولكنه فتح أيضا بابا للعلم بما هو الأكثري من خلال إخراج المحرم من دائرة الحلال والمباح، هذا الجمع هو مفهوم الحد الأكثر من الثبات لا يمثل بأي حال الحد الأدنى في الثبوت لعدم وجود حال أخر لكليهما الحلال الأكثري والحرام الأقلي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد