الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجموعة الشاعر السوري نوري الجراح -لا حرب في طروادة-: ولكنّهم يفتحون فصل جحيم دمشق بأنياب المُسوخ!

المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي

(Almothanna Alchekh Atiah)

2020 / 8 / 29
الادب والفن


"لا حرب في طروادة/ لا مراكب على السّواحل، ولا جنود في المراكب/ القمر يلهو في الحقول،/ والشَجرة تُؤنِس الحصان./ لا حرب/ في/ طروادة/ المنشدُ أسْلَم قيثارته للريح/ واستردّ أصابعه من الأوتار/ عودوا إلى بيوتِكم/ عانقوا الزوجات الصغيرات وقبّلوا الأطفال/ وتلهّوا بخمرة العيد./ لا حرب في طروادة".
في وهلة القراءة الأولى، لقصيدة "كلمات هوميروس الأخيرة"، مع لازمة القصيدة التي تتردّد كما الموج: "لا حرب في طروادة"، والتي يشكّلها الشاعر السوري نوري الجرّاح عنواناً لمجموعته الشعرية كذلك؛ قد يبدو الأمرُ بخداع سطحية التلقي الأول له، وكأنّ حرب طروادة الشهيرة لم تحدثْ، أو كأنّها كانت خيالاً انفلت من مخيّلة شاعرٍ مفتونٍ وخائف من توقّف خطوِ أنثاه على القلب، ولكنّ الفاجعَ في إغماضة العين بعد الوهلة للتفكّر أو ربّما قبل ذلك وفور انتهاء قراءة الكلمة الأخيرة التي تعيد اللازمة، هو فعلُ الواقعة المدمِّر، في سطوع محاولة الشاعر الذي يوشّح صوتَه الأسى، استعادةَ مدينة طروادة المحروقةَ المسحوقةَ من قلب الموت بقلب الخيال. ويعصُر فعلُ الواقعةِ القلبَ حين يتكشّف بعد ذلك هشيمُ المدينة الفاجعِ خلال دخان الحرائق في فصل الهشيم، ليفصحَ عن وجه دمشق الذي يُداس بجهنّمية البربرية تحت أقدام المسوخ:
"فتيانٌ يتمدّدونَ الآنَ صرعى على صِراطٍ يتلألأُ بدمائهمْ،/ وآباءٌ يتفحّصونَ الجراحَ في الأبدانِ،/ ومنشداتٌ على أطلالٍ محترقةٍ،/ وبكاءُ أشجارٍ صغيرةٍ/ ونحيبُ سَواقٍ:/ يا رائحينَ إلى دمشقْ،/ هاتوا دمشقَ بلمسةِ المنديلْ،/ هاتوا القمرْ بالمكحلهْ،/ والشّمسْ بالقنديلْ./ أنا أليعازَرُ... الطّائفُ بقدميْنِ مجرّحتيْن على صخورٍ ابتلعتْها الأمواجُ / في لُجَجِ تُبْرُق، رأيتُ الخطوةَ الغريقةَ،/ والفادي،/ رأيتُهُ مسجّى،/ وعرائسُ البحرِ هائماتٌ بهالَتِهِ."... "وفي الخلاصة،/ بعدَ الجحيمِ، والجحيمِ، والجحيمِ / أأنا أنا؟/ وهمُ صاحبي الّذي لم يصلْ،/ وظلّي الّذي أهديْتُ للطّريق؟/ وما الفرقُ لو كانَ يقاسُ بالأَشْبارِ، بينَ إيثاكا، ورافينا، ودمشقَ التي تحترقْ؟".
في هشيم دمشق، على أجنحة الصبيّ الدمشقيّ، التي لا تأبه إن كانت داخل أو خارج شمس هذا الهشيم، بعينيّ العرّاف تيريزياس، وبجسد أليعازر الذي ينبض بمعجزة القيامة، وبما مزج وركّب وفعّل من كوابيسِ تجلّي الأسطورة في الواقع، أو ارتقاء الواقع بهوله إلى الأسطورة، ومن تداخل الواقع والأسطورة وثقافة الإنسانية، في نار سوريالية الكتابة.. يبني نوري الجراح مجموعة نزوله أدراج الجحيم، ليَخرجَ بجثّة الإله السوري القتيل، ويلقيها على مرأى تويجات الربيع، أمام عالمٍ نفرتْ من رائحة عفونته أزهارُ الربيع؛ هائماً بين بحارِ ومدنِ وجزرِ الواقع والأسطورة، حاضراً، موازياً، متداخلاً بصفحات الأزمنة، مميَّزاً بالاختلاف، وسارياً بقيثارة الريح وبأقنعةِ سرد الذات والآخر والعرّاف، على ضياء وظلال أسى رماد ربيع الثورات، في خلايا قصيدة نثره التي تنبض في جحيم معالجتها للموت بالحياة.
في استعاداته الحافلة بتبادل الأقنعة، وتداخل الأماكن والأزمنة، يضع الجرّاح قصائدَ مجموعته في بنية بسيطة، تتضمّن أحد عشر فصلاً بعناوين على التوالي: (الملْهاةُ الدّمَشْقيَّة (لسان الجحيم)، سَمَكَةُ آخِيلْ (أنشوُداتْ)، كَلِمَاتُ هُومِيرُوسْ الْأَخيرَةْ، الطَّالِعُ بِالْعَجَلَةِ وَمَعَهُ الْإكْلِيلْ، الْقِيثَارَةُ والرِّيحْ، كِتَابُ آيَة، هَوَاءُ تِيْنُوسْ (أَرْبَعُ حِكَايَاتٍ لِلْمُرَاهِقِينْ)، طَيَرَانٌ فِي بُورْتُوبِيلْلُو، آلَامُ نَرْسِيسْ، يَأْسُ أُوْدِيسْيُوسْ، ما بَعْدَ القَصِيدَةِ).
ويضعُ الجرّاح ضمن كلّ فصلٍ عدداً من القصائد يتراوح بين الثلاثة والعشرة، لتضمّ المجموعةُ أربعاً وخمسين قصيدةً متفاوتةَ الطول بين القصيدة القصيرة والطويلة المقسّمة إلى مقاطع بالأحرف اللاتينية.
وفي هذه البنية البسيطة، على صعيد المعنى، يلمَس القارئ ويعيش على الأغلب، حياةَ منفاه الخاصة، من خلال القصائد الحافلة برؤى الشاعر عن مدن وجزر البحر الأبيض المتوسّط، حيث لا فرق في النهاية بين إيثاكا ورافينا وطروادة ودمشق، وليس بعمق علاقاتها التجارية الممتدة في الزمن، حيث تأخذ دمشق محور الدهشة فيها فحسب، بل أيضاً في عمق اعتقاداتها وأساطيرها التي تتلاقح وتُمثّل هذه الاعتقادات. وقد يعود القارئ في رحلة ضياعه الأوليسية، إلى صباه في تمثّل عودة الشاعر إلى الصبيّ الدمشقي الذي كان يلهو في أزقّة دمشق ويجلو عينيه بعطر ياسمينها، قبل أن تفقأ عينيه مشاهدُ المسوخ في احتفالها الكربلائي البهيمي بسوق الحميدية، وهي تجلدُ الذات والتاريخ والبشر بدمويةٍ قلّ أن شَهِد التاريخ مثيلاً لها في المآسي، مستبيحةً دعة وجمالَ دمشق أمام ذعر أهاليها. وربّما استذكر القارئ المتابع لتطور قصيدة نثر الجراح ارتداءَه قناع الجلاد في مجموعته السابقة "قارب إلى ليسبوس"، وهو يجلد الذات في طقس كربلائي بالجامع الأموي، ويقارنُ نقلتَه من محاولة سبر ما بداخل جلاد ذاته، والبشر من خلال جلد الذات، إلى التوجّه للحياديين الذين يشهدون الفظائعَ بقلوب باردة، في قصيدة "أعمال المسوخ":
" ما من مخلوق رأى حزن الشجرة/ إلا وحمل النار بعيداً عن الغابة./ لكنّ مسوخاً ولدتهم أمهاتهم في جرار سوداء/ نزلوا إلى المدن/ وأضرموا النار في الأسرَّة،/ مسوخٌ بعيون ابيضتْ/ كانوا مزارعين في جبال عالية/ ملأوا الحاويات بنشارة الحديد وكسور الزجاج/ ودحرجوها/ من قمم جرداء/ وفِي الأَعصار، في أوقات القيلولة/ لمّا تتسرخي الأرض وتمرح النسائم في جنبات الحقول/ يطوفون بأحذيتهم الموحلة جنبات السماء/ ويجزّون الغيوم بالمناجل/ ثم يجمعونها هي والجماجم تحت المطارق في قبور ترتجف.".
ويدعو الجرّاح هؤلاء الحياديين إلى ارتداء أقنعة قابيل وهابيل معه في قصيدة "احتفال بهيمي في سوق دمشقي"، والتجرّد من كوننا طَرَفاً إلى كوننا المُشاهد لما يجري أمامَنا ويجري في دواخلنا كسيّاح، وقد يستذكر القارئ في هذا ومن خلال إحساس احترام الجملة الشعرية لدى الشاعر أدونيس ومحاكاتِها في بعض قصائد مجموعة الجراح، موقف أدونيس الغريب المحايد أمامَ ما يجري، مقارنةً بصرخة نيرودا للإنسانية الغافلة: "تعالوا انظروا الدماء في الشوارع":
"فلنمض، إذن، أنا وأنت، في هذا المساء الدمشقي/ شبحان غريبان،/ يهبطان الجبل؛ /هابيل الذي قُتل وقابيل الذي قَتل/ وفي سوق الحميدية، حيث...".
وفي هذه البنية البسيطة يلمَس القارئ ويعيش ربّما محاولاته استعاداته المستحيلة المؤْسية لما مضى وتوَزَّعَ من ذاته في الزمن الذي مضى، من خلال روح الأسى المخيّمة على قصائد المجموعة والمتجسّدة في إنكار ما يحدث، وتغييبه بكلمات "لا"، و"ليس"، وتمنّي عدم حدوثه بكلمة "لو"، وكلمات "التساؤلات"، ولكنْ مع بعض العزاء أيضاً؛ فالصبيّ الذي "خرج من حطام الموجة التي صرخت بالشاطيء" كما لاجئٍ سوري يرميه البحر على شواطئ ليسبوس، فيرى أفروديت كما لو في لوحة بوتشيلي، "تخرج وتمشي بدلالٍ، وتعيدُ بيدها الرشيقة إلى رأسه إكليل البحر"، الصبيّ الذي يعيش القارئ علاقتَه بوالده، في عذوبة علاقةِ إيكاروس بوالده، الأسير معه بقلعةٍ في دمشق، والصبيّ الخارج على وصايا الأبوية بتمرّدات بروميثيوس الذي "أتمّ سطره وقصّ رؤياه على القصص" في الإشارة لفعل نبيّ الإسلام محمّد، والذي "لا أخدود يسَع جبينه المكلّل بتاج الشوك" في الإشارة للسيّد المسيح؛ الصبيّ الدمشقي الذي كان "يخرج، إلى المدرسة في صقيع دمشق بحقيبةٍ وقلم رصاصٍ ودفترٍ في غلافه بيرقٌ ملوّن؛ خرقةٌ حمراء يتكدّس تحتها، الآن، آلاف القتلى."؛ هو ذاته الأبُ الذي يفكّر "بجثمان رجلٍ أخطأه سهمُ الموت، ونبرةِ صبيّ تُركِت في دمشق"، بابنته المراهقةِ التي تجلسُ بجواره ووجهُها الفتيّ يملأ شاشةَ الكمبيوتر، ويُسَلِّم "عندما يتسابقان في أيام الثلج، بأنّ يفاعتها أقوى من حكمته".
وفي هذه البنية البسيطة يلمَس القارئ ويعيش فنّ قصيدة النثر، بتركيز أحد وجوهها على السّرد الحكائي المتألّق في مجموعة الجراح، بخصوصية المحافظة على شعريّة جملة السطر، وتداخل الأزمنة في هذا السّرد، والتنقّل فيه بأسلحة الكتابة الآلية التي تطلق الحريّة لأحلام وكوابيس الذات في أن تُرَكِّبَ صورَها، وتَنْظُمَ توالياتِ وتداخلاتِ هذه الصور في قصائد، بالإضافةِ إلى إلباس هذا السّرد ثياب أناقة اللغة، التي تتيح له التنقّل برشاقةِ وخُيَلاء الشعر، في إيقاعاتٍ خبيرةٍ تحافظ على هدوء خطوات النثر، ولا تأسره حين يحتاج لرفرفة أجنحةِ التفعيلة في شطحه للنشيد.
وفي النهاية تبقى القراءات كالعادة قاصرةً لمجموعات الشعر الغنيّة مثل مجموعة "لا حرب في طروادة"، التي تتميّز بإشراكها القارئ في التفاعل والاكتشاف عبر كونها تنبض بخلاياه.

نوري الجراح: «لا حرب في طروادة»
منشورات المتوسط، إيطاليا، ميلانو 2019
176 صفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد