الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القهوة مكانا أليفا.. القهوة شرابا أنيقا

شكيب كاظم

2020 / 8 / 30
الادب والفن


المقهى، مكان يرتاده بعض الناس، للقاء، أو تمضية بعض أوقات الفراغ في الثرثرة، وقد تكون هادفة أو فارغة، أو في انتظار صديق، أو لقراءة جريدة أو مجلة، مع احتساء الشاي أو القهوة، والمقاهي؛ أو القهاوي، على لغة الباحث المصري الكبير الدكتور لويس عوض، أنواع، سواء على مستوى المكان، أم المرتادين، فثمة مقهى المحلة، وهذه ظاهرة اجتماعية كانت بارزة وواضحة في الحياة العراقية، يكون خاصا بأبناء المحلة، يوم كانت المحلة، أو ( الطرف) باللهجة الشعبية البغدادية، أشبه بالكيتو المنعزل، وغالبا ما يكون داخلها، أو في مكان بارز فيها، وهذا الطقس، تلاشى أو كاد مع تطور الحياة وتعقدها، وتشرنق الإنسان، وبحثه عن عالمه الخاص، الذي يقضيه في المنزل، بعد ساعات العمل، يمضي وقته هذا بمتابعة التلفاز، أو مطالعة الصحيفة اليومية، أو أمام الشبكة العنكبوتية، فضلا عن المقاهي العامة، التي تكون في الأماكن الكثيفة بشريا، مع عدم نسيانها القهاوي الخاصة بالمهن-وهذه هي الأخرى تكاد تتلاشى من الحياة العراقية- فهذا مقهى للتجار، وثان للفنانين، وآخر للمحامين، ورابع للمثقفين والكتاب، وهو ما يعنيني في حديثي هذا.
لقد كان المقهى الثقافي مَعْلما بارزا في الحياة الثقافية الأوربية، ولقد اشتهرت باريس بمقاهيها التي تأخذ حيزا واسعا من الشارع، وهو ما شاهدته في العاصمة التونسية الرائعة، يوم جئتها قادما من ليبيا صيف سنة ١٩٩٦،وزرتها ثانية صيف ٢٠١٩،.ولا سيما القهاوي المطلة على شارع الحبيب بورقيبة، المقاهي الفرنسية كانت مثابة للعديد من أدباء فرنسة، ولقد رأينا عديد الصور التي تظهر جان بول سارتر مع صديقته سيمون دو بوفوار،.وهما جالسان في مقهى من مقاهي باريس، ولا سيما في شارع شانزليزيه، يتحدثان ويتناقشان ويكتبان، ولم يكتفيا بهذه العلاقة، بل ضمهما قبر واحد، بالرغم من أن بوفوار ماتت بعد سارتر بست سنوات، في ١٤ من نيسان ١٩٨٦، والدنيا ضاجة في الأعاجيب، إذ توفي سارتر في ١٤ من نيسان ١٩٨٠!
كما إن عديد إبداعات إرنست همنكوي (انتحر ١٩٦١) شهدت النور في المقهى الثقافي، كان يواصل الكتابة على الرغم من الضجيج والزعيق، في حين كان المقهى مكانا أثيرا للشاعر المدوي إزرا باوند.
مقهى الفيشاوي
في طنجة مدينة الأديب المغربي محمد شكري، أخذ المقهى حيزا بارزا في حياته، فهو المكان الذي إلتقى فيه- فضلا عن الحانة- مع اصدقائه: محمد بنيس، ومحمد برادة، والصعلوك الفرنسي جان جينيه، والمسرحي الأمريكي تنيسي ويليمز، والروائي بول باولز، وقد خص محمد شكري الثلاثة الأجانب بكتاب بعينه أخذ العنوان ذاته، فالأول، (جان جينيه في طنجة) وثان لويليمز، وثالث لباولز.
في القاهرة، اشتهر مقهى الفيشاوي، كونه طقسا يوميا للروائي نجيب محفوظ، وقد تحلق حوله عدد من أدباء مصر وكتابها، وقد زرت هذا المقهى في شهر أيلول ٢٠١٦، عند رحلتي إلى قاهرة المعز، فضلا عن منتجع شرم الشيخ الرائع.
في دمشق الشام، ثمة مقهى (المحطة) مثابة لأدبائها، وكانت مكانا يلتقي فيه الأديب متعدد المواهب (صدقي إسماعيل) الذي تولى زمنا رئاسة تحرير مجلة (الموقف الثقافي)، يلتقي بأصدقائه من أدباء سورية، ولاسيما أولئك المتحدرين من لواء الأسكندرون؛ مسقط رأسه، بدوي الجبل، وسليمان العيسى. صدقي إسماعيل الأديب الذي تخرمه الموت سراعا ١٩٧٤، ولما يكمل عقده الخامس!
فضلا عن (مقهى الروضة) الذي كان مثابة للمثقفين العراقيين المقيمين في سورية، وفيه التقيت بصديقي الناقد الدكتور حسين سرمك حسن، صيف ٢٠٠٧ قادما من حمص، التي نزلت فيها زمنا، ترى وهل ننسى ( أبو حالوب) الذي أضحى معلما من معالم مقهى الروضة؟
وإذ خص الروائي نجيب محفوظ عالم المقهى برواية ( قشتمر) حيث قدم لنا حيوات عدد من الأصدقاء، منذ الطفولة وحتى الشيخوخة، فيما يعرف برواية الأجيال، وفي زمان تجاوز الستة عقود، وفي صفحات تقترب من مئة وخمسين ، رواية مكثفة، أبحرت بنا منذ بداية القرن العشرين، منتهية بمقتل الرئيس أنور السادات، خريف سنة ١٩٨١، فإن أديبنا الراحل غائب طعمة فرمان ( صيف١٩٩٠) ولج عالم المقهى برواية ( القربان) كما إن العديد من حوادث رواية ( الوجه الآخر) للروائي الكبير فؤاد التكرلي(٢٠٠٨) إنما تجري في مقهى ( حسن عجمي) المطلة على شارع الرشيد، والمقابلة لجامع الحيدر خانة، وكذلك روايته؛ رائعته ( المسرات والأوجاع)، وفي رواية ( منزل السرور) للروائي ناطق خلوصي، يرد ذكر لمقهيي ( حسن عجمي) و(الشابندر) كذلك.
مقهى الزهاوي
من أقدم مقاهي بغداد الثقافية ( مقهى الزهاوي) الذي كان يرتاده الشاعر جميل صدقي الزهاوي (١٩٣٦) وأخذ اسمه من لقبه، فضلا عن ذلك المقهى المطل على نهر دجلة، والذي اتخذه الشاعر معروف بن عبد الغني الرصافي (١٩٤٥) أخريات أيامه بعد مبارحته لمدينة الفلوجة، ونزل في دار من دور آل عريم الكرام مطل على نهر الفرات قرب الجسر الذي يشبه جسر الصرافية ببغداد، بارح الفلوجة إثر حوادث شهر مايس من سنة ١٩٤١ ليقيم في محلة السفينة بالأعظمية،؛ واتخذ ذاك المقهى مكانا للقاء أصدقائه، وكانت من إحدى إرهاصاتها، قصيدته الجميلة التي ستبقى في الذاكرة طويلا، وهو يصف منظر الغروب؛ غروب الشمس في أصيل يوم شتائي بغدادي أعظمي جميل:
نزلت تجر إلى الغروب ذيولاً صفراء تشبه عاشقا مَتْبولا
لقد شهد المقهى الثقافي ازهى أيامه في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وكان أكثرها يتربع على واجهات شارع الرشيد، البلدية، والبرلمان، حسن عجمي، والبرازيلية، فضلا عن مقهى ياسين بشارع أبي نواس، الذي تحول إلى فندق إسمنتي أصم، ويجب أن لا ننسى مقهى المعقدين، المقابل لمطعم نزار ذائع الصيت وقتذاك، في فرع يؤدي إلى شارع أبي نواس، كذلك مقهى الشابندر.
وكما أفاض الروائيون في ذكر المقهى الثقافي، فإن الشاعر والباحث سامي مهدي، أعطى هذا المكان حصته، وهو يكتب كتابه السجالي المثير (الموجة الصاخبة. شعر الستينات في العراق) الصادر سنة ١٩٩٤، وكذلك الشاعر حميد سعيد في كتابه (المكان في تضاريس الذاكرة) الصادر في سنة ١٩٩٤ في ضمن سلسلة (الموسوعة الصغيرة) فضلا عن الشاعر والناقد الدكتور مالك المطلبي في كتابه الممتع (ذاكرة الكتابة. حفريات في اللاوعي المهمل)، ويجب أن لا ننسى كتاب (مقاهي بغداد الأدبية) للأديب الكاتب رزاق إبراهيم حسن (٢٠٢٠).
لقد درس الغرب، المكان، جماليا، وفي الذاكرة، ذلك الكتاب الذي كتبه الفيلسوف الفرنسي الظاهراتي ( كاستون باشلار) ودرس فيه جماليات المكان، الصغير والكبير، المتناهي في الصغر، المتناهي في الكبر، العلية، الصحراء ،البيت الذي ينمو مع ساكنه، هي إحدى عجائب الكون، كما درس الناقد العراقي ياسين النصير، المكان روائيا، إذ درس البئر، المقهى، الكوخ ،الغرف، السلالم، الشارع، الصحراء، والمكان المتحرك؛ السفينة كما لدى جبرا إبراهيم جبرا ( ١٩٩٤)،السيارة كما لدى الروائي والمسرحي العراقي محيي الدين زنكنة، في روايته (آسوس. مملكة المياه) كل هذا درسه النصير في كتابه (الرواية والمكان) بجزأيه.
لكن باشلار لم يدرس المقهى جماليا، واكتفى بما ذكرت آنفا في كتابه الذي ترجمه الأديب الفلسطيني الراحل غالب هلَسا، ونشر سنة ١٩٨٠، ويرى باشلار أن المكان يستمد جماليته من الألفة، فإن تحب المكان وتتجذر فيه فمن الفته، وزيادة في الترداد عليه، ولهذا أحب الناس مساقط رؤوسهم، وتعلقوا بها، وكذلك الأماكن التي عاشوا فيها، لذا يصعب على الإنسان هجران بلاده، ومغادرة أماكنه الأليفة، ومن هنا رأينا الغربة ومعاناتها، والاغتراب الجسدي عن المكان، وترى الإنسان يحن لأول منزل، بخلاف ما يذكره الوجوديون، من أننا حين نولد نلقى في أماكن معادية، نولد منفيين، في حين إن المكان يستمد هناءته من معايشته وإدامة الصلة به، ولعل هذا ناتج من غربة الوجوديين، والوجودية بشقيها المؤمن الذي يمثله ( كيرككارد)، وشقها الشاك، الحائر، المتسائل، ولا أقول الملحد الذي يمثله سارتر، ويقترب منه الفيلسوف الماركسي ( جيورجيان هابرماس) يقترب هابرماس من آراء باشلار في إلفة المكان وتأثيراته، فهو يرى إن القهوة كانت مشروبا أسهم بصورة عميقة في التغييرات الثقافية والاجتماعية الأوربية الحديثة.
إلفة المكان وجماليته
وإذ يعزو بعضهم إلى ما تحتويه القهوة من مادة الكافيين المنشطة للذاكرة، فضلا عن ما تحمله من عوامل الإدمان، فإن هابرماس يعزو تأثيرها إلى المكان والفته وجماليته، فالقهوة أو المقهى مكانا، وليست مادة منشطة، أو مشروبا محتسى، وراء ما أنتجته المقاهي أو القهاوي من تأثيرات في النشاطات الثقافية والاجتماعية في أوربة الحديثة.
أرى إن رأي المفكر هابرماس أكثر وجاهة من رأي من قال، بسببية القهوة مادة محتساة في التوجهات الحاصلة في أوربة، إذن ما الذي سنقوله عن الشاي شرابا؟ وهو الذي يقدم في الكثير من المقاهي الأوربية؟ وإن كنت لا أنفي شعبية الشاي وتواضعه، أمام أرستقراطية القهوة وبهرجتها وتأنقها، فلقد ارتبط الشاي مع غذاء الفقراء والناس البسطاء، في حين ظلت القهوة مشروب العِلْية والمتأنقين، ولعل ذلك راجع إلى نوعية السائل وكثافته ونوعية احتسائه، فشرب القهوة على مهل، يوحي بالتأمل والتفكر، وما أرى غريمها الشاي إلا خلاف ذلك!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا