الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يسرا البريطانية (11)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 8 / 30
الادب والفن


لفرط قلقها سارعت بالتوجه نحو قسم الخدمات مباشرة واستلمت جدول الجناح المخصص لها وهو ذات الجناح منذ أسبوع، لم يطرأ أي تغيير عليه علماً بأن ثمة تغير في النزلاء الذين غادر بعضهم وحل آخرون ولعل ذلك يفتح الباب أمام إزالة الروتين من عملها، لم يكن هناك ثمة نزلاء مميزين طوال هذا الوقت باستثناء أحدهم دأب على إلقاء سراويله الداخلية على الأرض وهو ما سبب لها القرف " لا ليس اليوم" قالت في داخلها ذلك وهي تقرأ الجدول ولاحظت ساعة إضافية بعد نوبة عملها، فمنذ يومين أضيفت الساعة وشعرت بأنهم في الإدارة لم ينتبهوا لغيابها طوال هذه المدة وإلا تم استدعاؤها، ولما وضعوا لها الجدول في المكان المخصص، أخفت نفسها في الممر بسرعة باتجاه الجناح وبسرعة دلفت الغرفة 139 وأغلقت الباب، وقبل أن تلقى نظرة على الغرفة، لفت انتباهها على جدول المناوبة، وجود الرقم 146 الغرفة التي أبلغت عنها بالأمس "لست بحاجة للرعب اليوم" ثم واصل صوتها الداخلي الغليان "هل يعقل أنهم لم يبحثوا الأمر ويحققوا في هذه الغرفة المشبوهة التي لم يقتحمها نزيلها منذ أيام؟" هل هم بهذا الاستخفاف الأمني؟" زرعت الغرفة بخطواتها المتوترة مجيئاً وذهاباً لا تدري من أين تبدأ مع حجم التشويش الذي تغرق فيه، فمنذ الصباح الذي بدأ بانتزاعها من باب الفندق وحتى اللحظة تبدو الأمور جميعها مربكة، وعليها الآن أن تنهي نوبتها بلا أخطاء أو إرباكات قد تضاف لغيابها لو تم اكتشافه "ولابد من اكتشافه" سرحت لبرهة ثم واصلت" لا تجذبي السلبية، اعملي والباقي اتركيه للقدر"
دون أن تنزلق لصوتها الداخلي رددت بعض الآيات القرآنية لإبعاد التوتر، ثم انخرطت في العمل وبدأت بجمع الأوساخ من الغرفة، بدلت الملاءات ثم اتجهت للحمام وقامت بتنظيفه، استبدلت مواد الاستحمام والفوط وراحت تلقى نظرة على المكان، كان الوقت يهرول ويقارب من الظهيرة فأخذت تسرع الخطى لإنهاء العمل بالغرفة، يدفعها الفضول لتلحق بالغرفة 146 الغامضة لاستكشاف ماذا جرى بعد الإبلاغ عنها بالأمس، كانت بطبيعتها وفي ضوء ما مرت فيه من أحداث، كثيرة الشكوك، وضعت مصيرها على كف عفريت من كل خطوة تخطوها وعند كل منعطف مهما كانت تفاصيله صغيرة وتافهة، تلتزم الحيطة والحذر، أمر كالغرفة 146 تثيرها وتقلقها أكثر من إدارة الفندق ذاتها لأنها تربط مصيرها بمصير التحقيق في الأمر حتى لو كانت المسألة لا تخصها فبمجرد أن تكون في المكان ذاته، فهو يؤدي للتورط فيه، هذا ما جنته من رحلتها الطويلة منذ هروبها من الزبير، تاركة من حولها جنة الله! والبيئة، وذكريات سنتها العاشرة، وغرقها في رحلة التنقيب عن موطئ قدم بعد الزبير، من دون أن تنسى قصص البيوت القديمة التي بنيت من القصب والبردي وجذوع النخيل قبل الآلاف السنين، علقت بذهنها صور الخوف من الملاحقة وطبع ذلك بصماته هنا في لندن، ما دامت لم تقبض بعد الجواز البريطاني، لم يخفف من توجسها صلة القرابة "بالنيادة" الذين ينتمون للجزيرة العربية، فهنا في لندن لا وجود للقبيلة والعشيرة، كل قوتها وثقتها بنفسها تجترها من ديمومة صورة والدها جبار الشريف محفورة في أعماقها، وتعلقها بأحاديثه المتقطعة خلال الفترات القصيرة لدى عودته من الجبهة، استرسلت في صور الماضي وسنحت لها المراجعة، مشاهد الأمس والعودة للدار في الزبير، ظل الشريف يذكرها بمن تكون؟ ولمن تنتسب؟ حررها ذلك من الخوف الدائم الذي تركته بصمات والدتها بعض الشيء، فبينما كرس جبار الشريف على النسب الأصلي العربي المنتمي للسعودية ومنطقة نجد وعبارته الشهيرة" نحن ننتمي للنبي محمد" كانت والدتها تذكرها بالكويت والهروب الدائم والملاحقة المستمرة والتيه في أرض الله الواسعة نتيجة التهديد والغزو.
أخيراً ولجت الغرفة المشكوك فيها وصدمت لرؤيتها تغرق في الفوضى تحيط بها من كل مكان، الحمام والصالة والممر، بالإضافة للاستعمال المفرط للأدوات والملاءات وانتشار مخلفات المكسرات، وقفت مشدوهة تسترجع الأيام المنصرمة عندما تعاود المكان كل يوم من دون أثر للإقامة، "ماذا حدث لتنقلب الصورة رأساً على عقب؟" بمجرد أن أطلعت قسم خدمة الغرف على الحالة تبدل الوضع وعمت الفوضى الغرفة "هل أطلعهم من جديد على التغيير؟" دفعها الفضول المعتاد لتبدأ العبث بمحتويات المكان، يتلبسها التوتر بسبب الشكوك حول المكان والخشية من أن تكون هناك فخاخ منصوبة، بدأت بلملمة الملابس المتناثرة على السرير وأخذت تشم رائحتها لتكتشف بأنها نظيفة ولم تكاد تستعمل، كما لاحظت أن انتشار أعقاب المكسرات لم يصاحبه فتات صغيرة ما يدل على أن من تناولها كان بحالة طبيعية ولم يفقد السيطرة بسبب الثمالة أو المخدرات، ثم نقبت في الحمام فوجدت بخبرتها أن ثمة شخص واحد فقط استخدم الحمام من خلال الفوط وأدوات الاستحمام المستخدمة، واستنتجت بأن النزيل رجل وليس امرأة من كومة أظافر رجولية في قاعة المزبلة التي نظفتها، ظلت تنقب هنا وهناك حتى توقفت فجأة وراودتها خاطرة ساخرة من نفسها " لماذا أشقي نفسي بالتحري؟ لعنة على هذا الفضول الذي بلا معنى"
قبل أن تنتهي وفيما هي توشك على المغادرة رن هاتف الغرفة، كان الفضول ما زال في ذروته وقوانين الخدمة تمنع الرد على المكالمات الداخلية للنزلاء، وهناك نظام للاتصالات بداخل الفندق يراقب الرد على المكالمات في حالتي وجود المقيم أو عدمه ولهذا لا تستطيع الرد، ولكن هناك طريقة لتكتشف من خلالها هوية المتصل وهي رفع السماعة والاكتفاء بالاستماع من دون الرد ثم مسح البصمات من على السماعة وهكذا يبدو الأمر تائهاً، وفيما هي تتأرجح في قرارها خرس الصوت فارتاحت لانتهاء التردد، أغلقت الباب وخرجت متجهة نحو الغرفة التالية.
"ماذا يجري في دمي؟ لماذا الهوس بالنزلاء؟"
صدق حدسها، عندما استدعيت في المساء وطرح عليها سؤال من قبل أحد المسئولين عن أمن الفندق، لم يصادف أن شاهدته من قبل أو تعرفت عليه، عرفت اسمه فقط وقد نوقش على صفيحة معدنية رقيقة على صدر الجاكت الرسمي "مايكل . ج . نلسون" جلست بمواجهته في حجرة صغيرة ملحقة بقسم الموظفين الرئيسي، في البداية تأكد من اسمها، يسرا القرمزي، ثم قذفها بسؤال صاعق.
"هل لك صلة باختفاء ساعة يد تلفونية من الغرفة 146 قبل ثلاثة أيام؟"
فاجأها السؤال الذي يحمل اتهاماً، بلا تردد أجابت بثقة مقتضبة.
"لا سيدي"
خفضت نظرها للأرض لومضة سريعة " وآخرها مع هذه الغرفة المنحوسة؟" تحولت إلى كابوس يومي منذ أن رفعت التقرير بشأن الغرفة واللعنات تطاردها، لم يكتشفوا غيابها في الصباح ولكنهم أوجدوا لها تهمة قد تفصلها من العمل، وإذا ما صادف وعرفوا عن غيابها فقد تزداد الشكوك حولها وتفسد خطة مايك في التحرك بشأن الإقامة الدائمة" ماذا يجري حولي منذ أن ولدت؟" قالتها بقنوط وخوف عارم تسلل في داخلها وصَعد من دقات قلبها بالرغم من أنها واثقة أنها لم تقترب من الساعة المذكورة.
" أقسم يا سيدي لا أعرف شيئاً عن ساعة ولو ثبت علي أي شيء فأنا رهن تصرفكم، كل ما فعلته أنني رفعت تقريراً قبل أيام عن الغرفة وذكرت فيه أنها لم تسكن لفترة"
طرق الرجل يفكر وهو يتأملها ثم سألها بعدم اكتراث.
" عن أي تقرير تتحدثين؟"
دخلت في تفاصيل الموضوع منذ البداية واختتمته بذكر الحالة التي رأت فيها الغرفة 146 منذ قليل ولم تستطع إخفاء ابتسامة مزعجة شعرت بأنها غير مناسبة في موقفها هذا.
طرق "مايكل . ج . نلسون" للحظة وهو يمعن النظر في وجهها، لم تتمالك نفسها بعد رحلة اليوم الطويلة، فانزلقت دمعة من عينها ومسحتها بسرعة وهي تقول وما زالت محافظة على ثقتها بنفسها.
"هل تصدقني سيدي ؟"
"أميل إلى تصديقك"
ألقت بعبء من فوق كاهلها، وضعت يدها على رأسها وكبتت مشاعرها ورنت لصوتها الداخلي يردد" انتحري لتتخلصي من هذا العالم"
خفف من هذا الإحساس المتدفق عنفواناً، يد الرجل تربت على كتفها وهو ينهض ويطوي الورقة التي كان يكتب فيها أقوالها.
"لا تجزعي ثمة نقطة غائبة في المسألة، دعي الأمر لي واذهبي لعملك"
****
مع حلول المساء الغائم والبارد نسبياً على لندن، قطعت مسافة العودة "لكينغستون" بالقطار، غارقة في السكون الذي أطبق على غالبية ركاب المقطورة، فقد اعتادت ضجرهم ونظرتهم الجامدة وهم يمسكون الجرائد كمن يقبضون على الهواء في أيديهم التي تكسوها التجاعيد، فغالبيتهم، عجائز وشيوخ وقلة نادرة تركب القطار من الشباب وتحديداً في المساء، كانت تتطلع للخارج من النافذة وتتأمل أوراق الأشجار يداعبها الهواء، "سألقي برأسي على الوسادة وأنسى الدنيا وما فيها" استعادت ذاكرتها فيما لو كانت هناك بقايا من ويسكي أو نبيذ بدولاب المطبخ، تولاها استياء لو لم يكن هناك ما تتناوله الليلة للاسترخاء وإجراء جرد في سلسلة أحداث اليوم منذ الصباح الباكر حتى اللحظة، طاف بذهنها المشوش وجه مايكل . ج . نلسون رجل الأمن ولوهلة سريعة استعادت ملامح وجهه الأسمر ببشرته الفاتحة ودهشت من عدم تركيزها في ملامحه ساعة كانت تجلس أمامه، فسرت الأمر بأنه الخوف الذي تملكها " منذ متى لم أشعر بالخوف؟" لاحظت الآن فقط بأنه كان ستيني العمر وله عينان سوداوان بعكس أقرانه الإنكليز، كما ظهر لها أنفه الصغير وشاربه الخفيف ذي اللمعة كما لو أنه دُهن بالزيت، شعرت تجاهه بالود وخاصة بعد أن ربت على كتفها وقد منحها ذلك شعوراً بالاسترخاء بعد موجة الفزع الذي لفها وهي تُستدعى للأمن الداخلي للفندق، صوت الصمت من حولها لا يقطعه سوى هدير القطار من الخارج ومنظر الأشجار يهزها الهواء وصورة المنازل العتيقة محاطة بالغابات المطلة حافتها على الشارع طريق العودة، كان اليوم طويلاً وشاقاً ومليئاً بالنتوءات، تذكرت عبارة لم تسعفها الذاكرة أين قرأتها أو سمعتها تقول "أن البوصلة تدلك على الشمال ولكنها لا تكشف لك ما يعترضك في الطريق من مفاجآت" لعلها من فيلم أو صحيفة قديمة لكنها مرت بخاطرها وعبرت وسط زحام الأفكار المتواردة حتى لحظة وصول القطار لمحطته الأخيرة، ركبت الباص مستخدمة كالمعتاد بطاقة oyster وأمضت عدة دقائق حتى محطة "سيربيتون" ثم واصلت العودة مشياً على الأقدام حتى شقتها التي ولجتها وصدمتها رائحة البيض الذي كان وجبتها الأخيرة بالأمس حين أعدته مقلياً مع الطماطم، وقعت عيناها أسفل الباب من الداخل على ورقة صغيرة، كُتبت بخط ركيك عبارة عن ملاحظة تذكرها بموعد استحقاق إيجار الشقة" لقد دفعته، لا، لم أدفعه" عصرت ذاكرتها واستعادت وقائع اليومين أو الثلاثة الماضية لكنها وقعت بتشويش يطغى على الذاكرة وفهمت بأنه من غير الممكن أن تطالب بالإيجار مرتين،" أين تبخر الراتب؟ لم أفعل شيئاً خارج المألوف؟"

علقت الرائحة بالمكان وقفزت نحو النافذة الوحيدة المطلة على الخارج عبر الشرفة وفتحتها ليتسلل الهواء البارد بداخلها، ثم بدأت بخلع ملابسها وأخذت في الارتعاش بسبب تيار الهواء البارد، اتجهت نحو المرآة وراحت تتأمل جسدها، كانت المرة الأولى منذ سنوات تقف أمام المرآة شبه عارية إلا من حمالات الصدر والسروال الداخلي البنفسجي اللون القصير، كان تأثير اليوم بارزاً على نفسيتها ورغم تعرضها للتحقيق الأمني إلا أنها أحست بارتياح من مقابلة المحامية الليبية نهى الزيني التي أوكلت إليها مصيرها في بريطانيا بل وفي الدنيا كلها، مر بخاطرها أن هذه المحطة اليوم هي الأخيرة في سلسلة محطات العذاب ومن هنا بدأت تفكر في مظهرها استعداداً للمرحلة القادمة التي تتطلب اهتماماً بمظهرها، كانت رؤيتها لجسدها بعد مدة طويلة لم تقف فيها أمام المرآة عارية له وقع الصدمة، إذ رأت خصرها الذي كانت تتباهى به وقد أكتنز قيلاً أسفل الخاصرة وأعلى السروال، فيما بدا لها نهداها وقد فقدا بروزهما الصلب مع تورم في الكتفين بينما احتفظا فخذيها بتناسقهما وظلت مؤخرتها مشدودة وهذا ما أسعدها ولو أنها أحبطت حينما رأت الخطوط الصفراء على هيئة تضاريس ناتئة بجانبي الفخذين وأرجعت ذلك لزيادة الوزن " منذ الغد سأبتاع جهاز قياس الوزن" وفي خضم ذلك تذكرت للحظة أنها لم تدفع إيجار هذا الشهر" لابد من فعل شيء، أي شيء مجنون لأجني دخل إضافي".
استعادت صورة الفتاة الصغيرة ذات السبع سنوات وهي تهرول من المدرسة تحت أشعة شمس الزبير الحارقة والمشبعة بالرطوبة، وسمعت صوت من بعيد على إيقاع خطوات جبار الشريف بزيه العسكري ونجومه المرصعة أعلى القميص الخاكي المرقط بلون الصحراء، يلتقيها عند مدخل المنزل، يحملها بين كتفيه ويقرصها في خدها ثم يلج المنزل وهو يردد عبارته الدائمة " الشيطانة الماكرة" أوشكت على البكاء وهي تتأمل المرآة ولم تشعر بلسعة البرد الذي لفحها لحظة خلها لملابسها للوهلة الأولى " كم كنت جميلة؟ ماذا جرى ليسرا جبار الشريف الفاتنة؟" قاومت البكاء واتجهت للنافذة وأغلقتها ثم أسدلت الستارة وهي لا تشعر برغبة في ارتداء ملابسها، سكبت لها كأس من بقايا زجاجة فودكا رخيصة لا تعرف حتى مصدرها ثم أشعلت سيجارة كانت ملفوفة وجاهزة على المنضدة واستمرت في تأمل جسدها " لابد من تغييره"
في الصباح الباكر وهي تهبط من الشقة واجهت رذاذ المطر يغطي الشارع والسماء ملبدة بالغيوم السوداء الكثيفة والظلام يغمر الدنيا وكأن الليل مازال قائماً، الساعة في معصمها كانت تشير للخامسة وخمسٍ وخمسين دقيقة، لم يكن الطقس بارداً ففي مثل هذه الفترة من شهر مايو عادة ما تستمر الأمطار ويقل البرد وتزداد الرطوبة وخاصة عند الفجر وفي غياب أشعة الشمس، سارت نحو فندق الهوليدي إن، واضعة حقيبتها على رأسها واحتمت بواجهة الفندق الخارجية بانتظار سيارة فلين محاولة بين الفينة والأخرى إخراج رأسها لرؤية الشارع الذي تأتي منه السيارة، فقد اعتادت الوقوف عند رصيف الشارع الخارجي المطل على نهر التايمز، وخشيت أن لا يراها ويمضي.
تذكرت عبارة الليلة الماضية حول ضرورة إجراء تجميل لجسدها بإعادة إحيائه، ابتسمت" لابد من تغييره" اجترت العبارة وكأنها تكرس تصميمها على إحيائه بالتركيز على العبارة مرة أخرى.
عندما بلغت الفندق توقف المطر وظلت الرطوبة، ساد الظلام وحمل لها ذلك إشارة بيوم معتم كبقية الأيام المنصرمة وهي تتوالى بالمفاجآت القاتمة التي لا تكاد تتوقف منذ أن حلت قدماها أرض بريطانيا الحلم الذي انتكس وأصبح كابوساً جاثماً على أنفاسها، منذ الفجر حتى الليل، كان هذا إحساسها وهي تعبر الردهة وتحي كل من يصادفها بحركة من رأسها أو بعبارة صباح الخير لو وجدت تشجيعاً من بعض من يصادفها، كان الإنكليز وخاصة النساء نزقات في الصباح بعكس الرجال، كانت ترى في نظراتهم الاحتقار لها برغم أن بعضهن عاملات مثلها، كن يرفضن حتى مجرد رد التحية، تجاوزت هذا الشعور اليائس وتوجهت نحو قسم الخدمات كعادتها لاستلام جدول العمل، لتفاجئ بعدم وجود اسمها في قائمة اليوم، عادت مرة أخرى تمعن النظر في القائمة لتكتشف إدراج اسم عامل آخر بولندي تعرفه من بعيد، وقفت جامدة مكانها ولم تأبه بنظرات اثنين من العاملين هناك، أحست بقلبها يسقط من مكانه وحرقة تجتاح معدتها وجمود في قديمها "أخيراً ألقي بي في الشارع" التفت حولها لتجد الجميع انسحب وظلت وحدها في المكان، اتجهت مرة أخرى تقرأ القائمة، سحبت خطواتها ببطء ثم غيرت رأيها وأسرعت نحو شئون الموظفين.
أول ما وقع نظرها وهي تجلس قبالة المسسز ليبولد ابتسامتها الباردة التي وجدت فيها خبث الإنكليز في نظرتهم لها "من حقها أن تبتسم وهي تراني مكسورة" قبل ليلة مضت كانت خارجة من الصيدلية ورأت رجل طاعن في السن مقعد وحوله كأس بلاستك أصفر قديم فيه بضع قطع نقدية صغيرة، عندما بحثت في محفظتها الصغيرة لم تجد سوى ورقة من فئة خمسة جنيه وبعض القطع الصغيرة، فكرت للحظة ثم وضعت الورقة ومضت في طريقها سعيدة لأول مرة منذ بداية اليوم كله، تذكرت ذلك الشعور وهي تتلقى ابتسامات المسسز ليبولد التي بدا وجهها المعتاد وقد كسته تجاعيد النوم " لماذا تسخر من ألمي؟" لكن شعورها المتشائم ذاك لم يستمر طويلاً، إذ بادرتها المرأة بعبارة هادئة.
" يسرا.. مبروك، لقد كسبت اليوم، أولاً تحققت رغبتك وتم نقلك "لهوليدي إن كينغستون" مع ترقية وان بدت صغيرة لكنها بداية جيدة"
انتفضت في مكانها، ودت لو تقفز من مقعدها وتلقى بنفسها على المرأة وتقبلها "هل هذه حقاً مسسز ليبولد التي تصورتها طوال الوقت وحشاً نزقاً؟" لم تكد تنتهي المرأة من كلامها حتى استأنفت قائلة وقد بدت أسنانها ليسرا هذه المرة أجمل من كل المرات التي قابلتها فيها.
" لهذا لم نضعك اليوم على الجدول، خذي إجازة وسأسلمك رسالة مع توصية للإدارة الجديدة في "كينغستون" وأتمنى لك نجاح أكبر في عملك، متميزة ومخلصة وستنجحين بلا شك طالما ظللت جسورة"
لم تدرك مغزى العبارة الأخيرة " طالما ظللت جسورة" لابد من أنها رسالة غير مباشرة لمعنى ما تريد إيصاله من غير أن تفصح " لكن المسسز ليبولد أفصحت عن جزء من لغز الفترة المنصرمة في العمل معها وهي تصافحها في نهاية المقابلة وتسلمها الرسالة والتوصية.
"اهتمي بشئونك وستكشف لك الأيام كثيراً من الخفايا"
في الخارج أطلقت لخطواتها العنان وأفردت زفرة حادة خرجت من أعماقها وكادت تشعل السيجارة قبل أن تخرج من الردهة الداخلية للفندق باتجاه موقف السيارات، كان أول شيء قامت به هو التدخين.
بحلول المساء نسيت عدد المرات التي قرأت فيها الرسالة والتوصية، ولولا خشيتها من تهرؤ الورقتين لاستمرت في قراءتهما، فقد نصت الرسالة على منحها ترقية وزيادة معقولة في الراتب إذ بلغت 120 جنيهاً " للشراب" علقت والفرحة تتسلل لقلبها لأول مرة منذ غادرت الزبير، كان الوقت صباحاً والحركة في الشارع هادئة على غير المعتاد وبدا الناس يتحركون بسرعة قصوى كأن فوق رؤوسهم الطير، "أخيراً يسرا خرجت بنقطة لصالحها" علقت هذه المرة بصوت مسموع، والتفتت خلفها خشية أن يسمعها أحداً، كما خشيت أن تصاب بعاهة جدتها " دلال" وهي كويتية التي عرفت بتحدثها مع نفسها بصوت عالٍ، هذا على الأقل ما روته لها والدتها التي دأبت على رواية الوقائع التي تتشدق بأصلها الكويتي كلما تشاجرت مع جبار الشريف، عادت بها الذاكرة للوراء في هذا الصباح الغائم مع تفجر مشاعر الفرح المصحوب بالتوتر والخوف من أن يكون ذلك مجرد طفرة عابرة توحي بعاصفة قادمة "أعوذ من الشيطان، حتى فرحتي أفسدها بنفسي" استرجعت خلفيتها القديمة عن الأبراج، وفتحت نافذة على العراق ثم تسللت للبصرة ومنها حطت في الزبير، رأت في الأبراج السحر الرباني الذي رافقها منذ الطفولة والمراهقة، يتبلور من حلقات الماء والأرض والنار والهواء، انفلت خيالها في مشهد غائر من الأمس حين كانت تتدثر بشتاء ديسمبر وتخترع حلقة الثلج بحكم كونها من مواليد ديسمبر، كانت قد جعلت من برج القوس وهو البرج التاسع في دائرة الأبراج الذي ينتهي به فصل الخريف برجها العاجي! الذي لا يصله أحداً بما فيهم والدتها التي بالرغم من كل محاولات التطفل للوصول لخزانة أسرارها، كانت المرأة الكويتية كلما تشاجرت مع عقيد الزبير تلجأ للبحث في سلة المهملات الأسرية لتصنع من يسرا شبحاً لا ينتمي لنخيل الزبير وأوراق البردي، لم توفق إلا في الأمور الصغيرة، وظلت الطفلة الزبيرية تكبر وتنضج حتى ألقت بها رياح الشرق الأوسط الدامية على حافة نهر التايمز "بكينغستون" وقد استقرت فيها منذ اليوم كعاملة بفندق الهوليدي إن.
"سأبدأ بحفلة أدلل فيها يسرا القرمزي على نجاحها والانتقال لكينغستون، ويا الله، الجنسية البريطانية"
فيما كانت تجمع أغراضها البسيطة من الخزنة المخصصة، وهي عبارة عن فوط للوجه وعلب سجائر منوعة كانت تجمعها بعد رحيل النزلاء من الغرف وبعض أنواع كريمات الوجه ومرطب للفم، حتى أعواد تنظيف الأسنان كانت متناثرة في الخزانة، داهمها فلين مبتسماً وخلفه اثنتين من العاملات معها في الخدمة، توقفت عن جمع أغراضها وبادرها الرجل قائلاً بنبرة احتفالية.
" القسم قرر الاحتفاء بك بحفلة توديع نهاية هذا الأسبوع"
تركت مهمة جمع الأغراض وارتعش جفنها وهي تنتقل بنظراتها بين الثلاثة فيما استأنف فلين الكلام من جديد.
" لا تنسي ليلة نهاية الأسبوع فقد حجزنا لك الإجازة والمواصلات ورقصة عربية ترقصينها"
سارعت إحدى المرأتين وهي الأكبر سناً وذات شعر منسدل اجتاحته خصلات بيضاء، فيما بدت بشرتها رمادية على غير المعتاد للنساء، تدخلت في الحديث قائلة بنبرة ودية مصحوبة بابتسامة باردة.
" نعم مطالبة بالرقصة وأنا اضمن لك هدية تطيح برأسك ليلتها"
في داخلها أسئلة محشورة لا تجد الوقت للبوح لنفسها بها لكنها اختزلت وحداً بسرعة من شدة استغرابها " كيف انفجر كل هذا المخزون من الود الإنكليزي؟"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3


.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى




.. أنا كنت فاكر الصفار في البيض بس????...المعلم هزأ دياب بالأدب