الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الرابع/ 1

دلور ميقري

2020 / 8 / 31
الادب والفن


في نفس السنة، الشاهدة على مولد بيان، حلّت في الحارة أسرةٌ قادمة رأساً من مدينة ماردين. وليّ أمر الأسرة، كان الابنُ الكبير ويُدعى " حسني "، وكانت والدته قد ترملت منذ أعوام قليلة. كحال المهاجرين من قبل، كان على هؤلاء أن يسألوا المارة عن عنوان أقارب سبقوهم في الحلول في الشام الشريف. صفة القداسة الأخيرة، كانت قد اضمحلّت في جمهورية أتاتورك، الساعية حثيثاً إلى مجاراة الأمم الأوروبية المتقدمة، وفي مقابل ذلك، الابتعاد عن كل ما يُذكّر بالشرق وأهله وأساطيره.
الأسرة الغريبة، سرعان ما وجدت نفسها أمام باب بيت السيّد صالح. فإن ربيبته، بيروزا، ذكرَ اسمَها أولئك الغرباءُ للمارة بصفة ابنة العم. في ذلك الوقت، كانت قريبتهم تقيم مع رجلها الدركيّ في إحدى بلدات وادي بردى، أين مقر خدمته. والد بيان استقبل أقاربَ أختها بحفاوة، ثم أفرد لهم البيت التحتاني ببابه المستقل كي يحلوا فيه لحين أن يدبروا مسكناً ثابتاً. لكنهم لم يمكثوا أكثر من أسبوع، توثقت في خلاله علاقتهم مع مضيفهم الكريم. فإن زوج بيروزا، وحالما أخذ علماً بوساطة الهاتف عن وجود أسرة عمها في منزل حميه، بادرَ إلى الحضور معها في اليوم التالي. عقبَ تبادل العناق والكلمات الجميلة، اقترحَ ديبو أن ينتقل الضيوف إلى منزل أبيه في الزقاق المجاور. القسم الأعلى من ذلك المنزل، امتلك أيضاً باباً مستقلاً وكان ينفتح على مدخل الزقاق من جهة الجبل.

***
حقّ لحسني أن يتشاءم، لما قاده زوجُ ابنة عمه إلى قطعة أرض تقع في ظلال صخور الجبل، يمر من جانبها دربَ السيل، المؤدي إلى حارة الدروز. إذ سوّرت الأرضُ بصفّ من الأحجار، وذلك بغيَة تحديد ملكيتها، بحَسَب العادة المتبعة زمنئذٍ. لقد تذكّرَ سببَ هروبه مع عائلته من موطن الأسلاف، وكان على خلفية نزاع دمويّ حول الأرض. لكنه طرد هذه الفكرة من ذهنه، وعبّرَ من ثم لديبو عن شكره. ثم أضاف: " سأدفع ثمن الأرض، بعدما أبدل الليرات التركية بالسورية "
" الشكر لحَميّ، السيد صالح، لكنه يعتبر الأرضَ هدية بسيطة نظراً لزهد ثمنها "، رد ديبو مبتسماً. عبثاً كان اعتراض الرجل، فلم ير مندوحة عن قبول الهدية مع تكرار كلمات الشكر. بيد أن المال صُرف في تالي الأيام، لتسديد أجر الفاعل ومساعدَيْه، الذين عمّروا حجرتين مع المطبخ والمرافق الأخرى، مستعملين مواداً بدائية كالدك والدف والصفيح وجذوع أشجار الحور. كان المكان موحشاً، يطرق سمع ساكنيه ليلاً زمجرة الضباع وعواء الذئاب ما يجعل القشعريرة تسري في أوصال النساء والأولاد: فضلاً عن الأم، وكانت عجوزاً لكنها شديدة المراس، كان هناك امرأة حسني الفتيّة وولداها الصغيران، اضافة لشقيقه الأصغر، " علي "، وكان في الخامسة عشر من عُمره.

***
إلى الجنوب من ذلك المنزل، المبنيّ بطريقة ارتجالية، كان أقرب مكان مأهول عبارة عن مسكن بسيط مع محل سمانة ملحق به. آكو، شقيق ريما، كان يعيش هناك مع ابنه الوحيد، اليتيم، المتجاوز سنّ العاشرة. وكان هذا يعاونه في الدكان، لكنه كان يجد صعوبة في نقل الحمولات الصغيرة من الخضار والفواكه وغيرها. على ذلك، رحّب بابن الجيران الجدد، علي، عندما عرضَ أن يعمل لديه. وكانت علاقة آكو بأقارب بيروزا قد توثقت مع مرور الأيام، فتبادل الزيارات مع كبيرها. إذ سبقَ أن تعرّف على هذا الأخير قبل نحو عقدين من الأعوام، أثناء تواجده مع أسرته في موطن الأسلاف، وذلك في منزل ريما بمدينة ماردين.
وهوَ ذا ديبو، يحضر لزيارة ابن عم امرأته وكان يحمل له خبراً سعيداً. لقد تواسط له عند ضابط مرموق، من سكان القسم الغربيّ للحي، بهدف ضمه إلى سلاح الدرك. ما سهّل الوساطة، أن حسني كان يجيد اللغة العربية شأن العديد من مواطنيه أهالي ماردين. هكذا حصل على راتب ثابت، وكان حتى ذلك الحين يعيش مع العائلة من مدخراتها. علاوة على أن خدمته كانت في حامية قلعة دمشق، أينَ السجن المركزيّ. هيئة حسني، كانت ملائمة لمهنته، المتطلّبة شيئاً من الصرامة والهيبة: كان فارع الطول، متين البنية كجذع شجرة. إلى ذلك كان جدّياً، لا ميل لديه للقصف والشراب، كريماً وعطوفاً على أفراد أسرته وأقاربه.
كان من الممكن أن يلمع في عمله، وأن تمضي حياته رخية هادئة في دمشق. لولا أن أعترض ذلك أمرٌ طارئ، فقلب كل شيء رأساً على عقب.

* الرواية الأخيرة من خماسية " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق