الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الرابع/ 2

دلور ميقري

2020 / 9 / 1
الادب والفن


" ممدوح "، كان ثمرةَ زواجٍ مُلتبسٍ بين راعٍ عربيّ وفتاة من الحارة. على أثر وفاة والديه، تكفّلته خالته ذات المقام العالي، " نورا هلّو "؛ وهيَ ابنة آغا من آل ديركي. منزل هذه الأخيرة، كان يطل مباشرةً على الجادة وعلى مبعدة خطوات من منزل شقيقتها الراحلة، الكائن بمقابل مدخل زقاق الحاج حسين. جمّو، حفيد الحاج وزوج المستقبل لبطلة سيرتنا، رضعَ حليبَ المرأة ذات المقام العالي مع ابنتها، " بديعة "، المماثلة له في العُمر. ممدوح، حينَ أضحى شاباً مع ميراثٍ مجزٍ، أمِلَ الاقتران بابنة خالته وكان يكبرها بعقدٍ من الأعوام على الأقل. لكن والدها، وكان لا يعدّ الشابَ أصلاً من صلب حميه الآغا، أعطى ابنته لبكري بك، وكان هذا ضابطاً في الجيش يُبشّر بمستقبل لامع. رضيَ ممدوح بقسمته، وما لبثَ بدَوره أن اقترنَ بإحدى بنات عمومة والدته، وكانت أسرتها تقيم في حي الصالحية، المجاور. علاقة الشاب بأهل أبيه، في المقابل، كانت أفضل حالاً ولو أنها غير مستقرة.
الأهل، كانوا ينتمون لقبائل الرولة، المنتشرين في البادية الشامية إعتباراً من شرق قرية الهيجانة في طرف الغوطة. في تلك القرية، كان حسين بك الإيبش، الإقطاعي الكبير، يملك قصراً ضمن مزرعة ذخرت بأجود أنواع الخيول الأصيلة. وكما علمنا من قبل، أنّ موسي وكيل أعمال البك، كان يقيم مع أسرته في القرية المجاورة، البيطارية، أينَ مركز الإقطاعية. جمّو، الشقيق الأصغر لوكيل الأعمال، كان يلازمه منذ الصغر في خلال مواسم الصيف. ذات مرة، شهَدَ حضورَ زعيم قبائل الرولة، الشيخ " طراد الشعلان "، إلى القرية وكان برفقته عددٌ من الفرسان. ملابس الشيخ العربية، كانت تذكّر بهيئة أفراد الأسر الحاكمة في الأردن والسعودية. فورَ نزول الزعيم البدويّ من على حصانه في ساحة القصر الخارجية، أمرَ موسي الخدمَ بتقديم كرسيّ له. جلسَ هنالك متململاً، وكان كل فينةٍ يسأل عن البك. الوقت كان ظهراً، وهذا الأخير كان يأخذ قسطاً من القيلولة. بعد قليل، ظهرَ حسين بك الإيبش في مدخل القصر ووقف ثمة لحظة ليحدد مكان ضيفه؛ وكان هذا، بحسب ما فهمه، قد حضرَ كي يشكو من منع أفراد قبيلته من الرعي في المنطقة. بدَوره، طفقَ الشيخُ يتأمل البك، فهاله ما في شخصيته من هيبة ورهبة وكما لو كان بمقابل أسد الغابة. فإذا به ينهض من كرسيه فجأةً، فيخطو باتجاه حصانه. خاطبه الوكيل: " ذلك هو حسين بك، ألم تطلب مقابلته؟ ". ردّ الشيخ، فيما يهمز الحصان للانطلاق به: " لا بالله، لا أبغي رؤيته! ".

***
الشيخ طراد الشعلان، كانت تربطه بالفرنسيين علاقة جيدة منذ اليوم الأول لدخولهم دمشق. بحَسَب شهود معركة ميسلون ( وكان بعضهم من الحي الكرديّ )، التي هزم فيها الجيش الوطنيّ أمام أولئك الغزاة، أنّ فرسان الشيخ ساعدوا هؤلاء الأخيرين في خلال القتال ومن ثم شرعوا بانتزاع السلاح من خصومهم، المنسحبين وسط انفجارات قنابل الطائرات والمدرعات والمدفعية. ثم ظهرَ الشيخُ علناً في شارع النصر مع فرسانه، أثناء استقبال الجنرال غورو، المعيّن مندوباً سامياً لسلطات الإحتلال. وما عتمَ زعيم قبائل الرولة أن شارك في الحياة السياسية، فاشترى بيتاً معتبراً في جنوب الصالحية، مع مزرعة كبيرة، لتُعرف المنطقة فيما بعد باسم " الشعلان " على كنيته.
في زمن أحداث قصتنا، الموافق لمنتصف عقد الثلاثينات، كان الشيخ طراد قد طعن في السن وآلت الزعامة الفعلية لابنه البكر. هذا الابن، ولد في نفس عام زحف القوات العربية من الحجاز إلى الشام لطرد الأتراك. كون الأب ارتبط وقتئذٍ بعلاقة حميمة مع الجاسوس الإنكليزي الشهير، " لورنس "، فإنه أعطى اسمه لمولوده. فيما بعد، لما استلم هذا الأخير الزعامة، لم تكن علاقته بالفرنسيين جيدة. لقد اتهم من قبلهم بأنه يقطع طريق البادية على قواتهم، وذلك بتحريض من الهاشميين؛ حكّام إمارة الأردن ومملكة العراق. الهاشميون، كانوا ما زالوا يأملون باستعادة عرش سورية، ولاحَ أن الإنكليز يدعمونهم طالما أن الثمرة ستسقط بالأخير في يدهم. هكذا استهلت المناوشات بين الطرفين، لتنتهي بحملة عسكرية كبيرة على مضارب الرولة ومن ثم اعتقال زعيمها. المحكمة، وبالنظر للجو العام المعبأ ضد الفرنسيين وعملائهم، سلّمت رقبة لورنس الشعلان إلى حبل المشنقة. وقد حُجز في السجن المركزيّ بقلعة دمشق، معزولاً في زنزانة عن بقية المحكومين.

***
ممدوح، وربما بسبب شعوره بالغربة في الحارة، واصل الاتصال بأقاربه من ناحية الأب. في مناسبات معينة، كان يزور أيضاً مزرعة زعيم قبيلته، الكائنة في جنوب الصالحية، ويُقابَل في كل مرةٍ بالاحتفاء بوصفه من الوجهاء العرب في عاصمة الأمويين. فلما بدأ الفرنسيون حملتهم العسكرية على مضارب قبيلته، فإنه زار ذلك البيت أكثر من مرة كي يطمئن على الوضع. مع تطور الأحداث، تابع باهتمام محاكمة لورنس الشعلان والتي انتهت بالحكم عليه بالإعدام.
بضعة أيام على أثر الجلسة الختامية للمحكمة، وطرق أحدهم بابَ السيد ممدوح في ساعة متأخرة من الليل. فتح الباب، ليطالعه مشهدُ ثلاثة رجال بالزيّ الدمشقيّ المألوف. لكنه ميّزَ فوراً سحنةَ أحدهم، فعرف فيه أحد مرافقي لورنس الشعلان. عقبَ قيامه بواجب الضيافة في حجرة الاستقبال، ظل سؤالُ مغزى الزيارة مرسوماً على سحنته. عندئذٍ، بادر ذلك المرافق للقول بصوت منخفض وبحذر: " حبلُ نجاة الشيخ، متعلقٌ بيد أحد السجانين، وهوَ من هذه الحارة ". قلّصَ المضيفُ عينيه بحركة تساؤل، فتابع الآخرُ كلامه: " إنه يُدعى حسني، عنصر بالدرك؛ بحَسَب ما علمناه من شيخنا حينَ سمحوا لنا بزيارته صباح اليوم ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-


.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ




.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ


.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني




.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق