الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الرابع/ 3

دلور ميقري

2020 / 9 / 2
الادب والفن


في ساعةٍ أبكر من ليلة اليوم التالي، حضرَ مرافقُ الزعيم لورنس الشعلان إلى منزل السيد ممدوح وكان مموّهاً هيئته بنفس ملابس اليوم السابق. لم يدع قريبَهُ يضيّع الوقتَ بواجب الضيافة، لأنه رأى أي تأخير في المهمة قد ينتج عنه ضياع حياة الزعيم. هكذا غادرا المنزل على جناح السرعة، ميميين شطرهما باتجاه الأعالي من خلال زقاق الحاج حسين. العتمة كانت مطبقة، باحتلال الغيوم الرمادية الكثيفة صفحةَ السماء، فيما رذاذ هيّن من المطر تساقط دونَ صوت. بوسائله الخاصة، كان ممدوح قد أخذ العلم مسبقاً بالعنوان المطلوب: الدركي حسني، للمصادفة السعيدة، كان من أقارب زعيم الحي السابق، وزوجة هذا الأخير تعدّ الصديقة الحميمة للسيدة نورا ( خالة ممدوح )، فضلاً عن أن ولديهما أخوان بالرضاع مثلما جرت إليه الاشارة فيما سلف.
بعد نحو خمس دقائق من المسير فوق أرض ممهدة، صار الدربُ وعراً يتخلله أخذودُ السيل، الذي شقّ طريقه من الجبل إلى المصب في النهر. وما لبثت الصخورُ أن تراءت عن بعد، تجللها الظلال، كأنها نساءٌ بدينات التففن بملاءاتهن السوداء. السيد ممدوح، وكان دليلَ صاحبه، تذكّرَ عندئذٍ أن قدميه لم تدوسا هذا المكان منذ أيام الطفولة وشقوتها؛ أي حينَ دأبَ على مرافقة أطفال الحارة في مغامرات استكشاف الجبل وكهوفه مع متعة الاشراف على مشهد المدينة من الأعالي. لا غرو أن يتغيّرَ المكانُ عليه بعد مضي كل تلك الأعوام، لدرجة أن العتمة جعلته غريباً تقريباً عن عينيه. وهيَ ذي الحيوانات المفترسة، المستهلة سمفونية المساء بزمجرتها وعوائها، تلقي مزيداً من الرهبة في نفس الدليل وصاحبه على حدّ سواء. وكانا في الأثناء قد اجتازا منزلين متجاورين، منفردين في الخلاء، الأعلى منهما انبثق من داخله ضوءُ مصباح ضعيف. ما لم يخطر ببال الدليل، أن ذلك كان منزل آكو؛ وأنه سيستقبل بعد نحو خمس سنين ابنة عمته، واسمها " خاني "، وذلك بصفة زوجة الرجل. وفي التالي، فإنها قرابة أخرى، غير مباشرة، لن تتأخر في ربط السيد ممدوح بالدركيّ، المدعو حسني.

***
مَن فتح البابَ للرجلين الغريبين، كان علي؛ وهوَ يستأثر مع والدته إحدى حجرتي النوم في الدار. بعدما علم أنهما يقصدان شقيقه الكبير، قادهما رأساً إلى حجرة صغيرة معدة للضيوف. كان قد اطمأنَ للغة الضيفين، العربية. ففي حالة أخرى، كان من المفترض أن يكونَ أكثر حذراً؛ بما أنه وشقيقه هاربان بروحيهما من طالبي الثأر في موطن الأسلاف. ثم انسحب الشاب من الصالة، بمجرد دخول شقيقه، وما لبثَ أن اتجه إلى امرأة هذا الأخير ليطلب منها تحضير دلّة القهوة من أجل الضيفين. والدته، ظهرت من ثم كي تسأله بشيء من التوجّس عمن يكون الرجلين. إذ لم يسبق للدار أن استقبلت رجالاً غرباء، منذ أن شُيّدت قبل حوالي عامين على أثر وصول أصحابها إلى الشام. أجاب علي باقتضاب: " على الأرجح، أنهما زميلان لأخي في الخدمة ".
على القدر نفسه من التوجس، اتجه حسني نحو الرجلين الغريبين بنظراته المتسائلة. ابتدأ السيد ممدوح الكلامَ، مقدّماً نفسه ورفيقه. ولم ينسَ ذكرَ القرابة الغامضة بينه وبين الدركيّ، وبغير قليل من الحَرَج. سكتَ قليلاً، قبل أن يومئ إلى جهة المرافق، قائلاً: " إنه يحمل إليك تحيات شيوخ قبيلة الرولة، الذين يعتبرون أن حياة زعيمهم بين يديك ". تردد المضيفُ بدَوره في الكلام، وكان يفكّرُ بسرعة فيما وراء أكمة هذه الزيارة. قال أخيراً بنبرة متحفّظة: " بلى، أنا الحارسُ المكلّف بزنزانة الشيخ لورنس الشعلان، وأعتقد أنه يتلقى معاملة جيدة وغذاءً كافٍ ومناسب "
" وهوَ أكّد لنا أيضاً مدى شهامتك في التعامل معه، لذلك نحن نأمل منك المساعدة في خطة لتهريبه من السجن "، بادرَ مرافقُ الزعيم للكلام بشكل متهوّر. ثم أردفَ بسرعة: " عدا عن أنها مهمة وطنية، فإنك ستحصل على ثلاثة آلاف ليرة ذهبية مع مسكن ممتاز في عاصمة إمارة الأردن. كذلك ستؤمن لك هناك الخدمةُ في سلك الدرك، لو شئتَ الاستمرار في هذه المهنة ". بقيَ المضيفُ صامتاً، يتفرّسُ في سحنة مخاطبه. وكان لحسني فيما سلف من أعوام سيرةٌ غير حسنة مع الأعراب، الذين تنتشر مضاربهم إلى الجنوب من مدينة ماردين، وأكثر من مرة اشترك في وقائع دموية معهم على خلفية النزاع حول المراعي. لكنه كان يثق بكلمة الشرف، لو أنها صادرة عن أحد شيوخهم.. بله الآنَ، والقضية تتعلق بحياة أحد أبرز الزعماء القبليين في المشرق. ففي الأيام الأخيرة، تبادلَ الحديثَ مراراً مع الرجل السجين، المحكوم بالإعدام، فأدرك ما يحظى به من مركز رفيع وجاه وثروة.
قال ممدوح، خارقاً الصمتَ في الحجرة: " الخطة في غاية البساطة، ولن يكون فيها أي إراقة للدماء أو خطر عليك شخصياً في خلال فترة تنفيذها ". ثم تابعَ موضّحاً: " سنزودك بسترة رجل الدرك، وسيرتديها الزعيمُ بعدما يكون قد حلق لحيته وشذّبَ شعرَ رأسه. أنت تعرف بالطبع المدخلَ الرئيس للقلعة، وعندما تخرج على ساعة الغداء مع رفيقك لن يرتاب بكما أحد من الحراس. ثمة سيارة، ستكون في انتظاركما خارجاً، لتنطلق بكما على الطريق الصحراوي مباشرةً باتجاه مدينة عمّان ".
قطعَ كلامَهُ، دخولُ الأخ الأصغر مع عدّة القهوة. وما عتمَ شقيقه أن تنهّدَ بصوت مسموع، قائلاً للضيفين: " تفضّلا القهوة، وفيما بعد نتعشى معاً ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد