الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رمضانُ في الذّاكرة (ج4)

زكرياء مزواري

2020 / 9 / 3
الادب والفن


(19):
في العشر الأواخر من شهر "سيدنا رمضان"، عشر "العتق من النّار"، يدخل حيّنا في حالة تأهّبٍ قُصوى، تستنفر معها قوى الساكنة، لا مشهد يعلو فيها على مشهد "موكب الكعك"، وحمل "صوانيه" على رؤوس الصّغار والكبار، كانت "خالتي الصابرة" –رحمها الله رحمة واسعة- المعروفة بقِصر قامتها وروحها المرحة، أوّل المبادرات في "فلاج الفگيگ" بتحضير "الكعك" و"الكاطو"؛ إذ كثيراً ما كانت تطلب منّا نحن الأطفال الذهاب إلى "فران الحومة"، وجلب عددٍ من "الصواني" المخصصة للكعك من "عمي الصديق" صاحب المحلّ، مُقابل الظفر بحفنةِ "كَعْكٍ" لذيذةٍ، أو شيءٍ من عطاياها، حيث ألفنا كرمها غير محدود معنا.
كان فران "عمي الصديق" فضاءً جميلاً تفوح منه دائماً رائحةُ الخُبزِ اللّذيذة التي تنعش الرّوح قبل فتح شهية الأكل، وكانت تتكوّم على جنبات فوهة الفرن أكوامٌ من الخشب والنّجارة تنتظر إبّانها في تذكية النّار وإيقادها، وكان الطاهي الماهر "عمي الصديق" يقلّب خبزه بلوحته الخشبية الطويلة ذات اليمين وذات الشمال، بينما هو بَاسِطٌ ذراعيه بوصيد الفرن.
كان "موسم هجرة" جماعية إلى فرّان الحيّ في هذه العشر الأواخر، لدرجة أن "صواني الكعك" التي كان يمدنا بها "عمي الصديق" تنفذ عن آخرها بسبب الإقبال الجماهيري عليها، وتضطرّ بذلك الأسر إلى إعارة هذه الحوامل من الجيران الذين انتهوا من عملية تحضير الحلويات، لا شيء يُنافس نسيمَ "الحريرة" في الأزقّة الضيّقة حينئذٍ عدا رائحة "الكعك"، كأنّها عطرُ ريحان فاحت به جِنانُ السّماء وهي تحتفي بأيّام وليالي القدر العظيمة.
يزداد نشاط الجميع في أواخر هذا الشهر الكريم، ويُكثر الكّل من الأعمال الصالحات، وتزدان القلوب بالرّحمة، وتتجمّل الأرواح بالتّراحم، وتُشنّف الآذان بتلاوة القرآن، حتّى تصفّى النّفوس من أدران الأرض، وتصّعد في مراتب الأنس بالله، وأذكر ذات رمضان، أنّي اجتهدت في العبادة أيمّا اجتهاد، وحرصت على تطبيق وصايا دُعاة مسجد "عكاشة" ببراءة، منها: أنه من يَقُم إيماناً واحتساباً في هذه العشر الأواخر؛ عشر ليالي القدر، ونزول آيات لذّكر الحكيم، تفتح له أبواب السّماء، وحينها يطلب ما يشاء ثمّ يُستجاب له، هكذا نظرت في ليلة السابع بعد العشرين من رمضان المبارك إلى السّماء حيث كانت مقمرة، وبدأت أحملق في هذا الفضاء المديد، وعيناي مشدوهتان بملكوت الرّب، عسى الرؤية تتحقق، وبذلك غمرتني رهبةٌ شديدةٌ وأنا أنتظر، لكن في النّهاية لم أر شيئاً، واستغفرت الله كثيراً، ودعوته أن يرقّي روحي طوراً، حتّى تُجلّى لها منازلُ الجمال.


***









(20):
"ليلة القدر" وما أدراك "ما ليلة القدر" في "فلاج الفگيگ"، ليلةٌ عندنا، خيرٌ من اثني عشر شهراً، ليلةٌ تعكفُ فيها السّاكنة في محراب "عكاشة" حتّى مَطلع الفجر، ليلةٌ تتنزّل فيها الرّحمة، وتغشاها الطمأنينة، وتحفّها الملائكة، ويذكرها الملأ الأعلى، أو هكذا كان يُخيّل إلينا وقتئذٍ، كنّا نحن الصّغار ننتظر هذه اللّيلة بألفِ لَهفةٍ وشوقٍ؛ حيث كلّ شيءٍ يُغري بقيام اللّيل، بدءاً بجلسات الوعظ، وكثرة الأئمة في التّناوب على صلاة التراويح الطويلة، وتحدّي الصّبية قبل الكبار في إتمامها، والأهم بعد ذلك وجبات "الكسكس" اللّذيذة المرفوقة بكؤوس اللّبن الشّهية.
كان هناك عُرفٌ اجتماعي شبه مُقدسٍ في هذه الليّلة، حيث يصير من باب الواجب على كل منزلٍ أن يجعل عشاءه "الكُسْكُسَ" أو ما نسميه ب"الطْعامْ"، ثمّ يتبادل الجيران فيما بينهم بعض الأطباق طمعاً في مزيدٍ من الأجر والثّواب، وذلك في "جوٍّ تراحميٍّ" بديعٍ تخِرُّ له الجبال، أمّا من كان في مُكنته إطعام المصلّين في المسجد، فكنّا نغبطه على فعله، وعلى الجزاء الكبير الذي ينتظره يوم الدّين.
إلى جانب هذا "المشهد التّراحميّ"، كانت ساكنة الحيّ تخصص شيئاً من دُريهماتها المعدودة للمشاركة في موكب "النَّفْقَة"، وهو موكبٌ ينطلق مباشرة بعد جلسة الوعظ الرقراقة، والتي في الغالب تكون طويلة من حيث الزمن، وتميل إلى تحبيب الخير، والتحفيز عليه، تبدأ هذه العملية بتطوّع بعض الأشخاص الثّقات، بجمع ما جادت به أيدي المحسنين من المصلين داخل المسجد، ثمّ وضعها في مقصورة الإمام، ثمّ تأتي بعدها عملية فرز النّقود من أصل ورقيّ عن أخرى معدنية، وأعناقنا نحن الصّبية تتشوّف إلى معرفة ما يجري هناك.
أذكر في كثيرٍ من المرّات كيف كانت نفسي تجود ببعض القطع النقدية الفضّية منها والصّفراء، وكلي افتخارٌ وحبورٌ وأنا أشارك في هذا "المشهد الإنسانيّ" الذي تُخصّصُ فيه هذه المبالغ لإمام المسجد و مأمومه، كما كنت شديد الكُرهِ للأشخاص الذين لا يساهمون في "النَّفْقَة"، أو يمنحون تحت طائل الضغط الجماعي بعض النّقود، حيث كنت أصنفهم مباشرة في خانة "البخلاء" الذين يَكنزون التّبْرَ واللُّجَينَ ولا ينفقونها في سبيل الله، ثمّ أبشّرهم في نفسي بما ينتظرهم من عذاب الكيّ يوم الحساب.
علاوةً على هذا، كانت "ليلة القدر" عندنا نحن الصّغار ليلة التّحرّر من القيود، حيث نؤوب إلى منازلنا في الغالب بعد صلاة الفجر، أمّا عن الفترة الممتدة من العشاء إلى الصّبح، فكانت هي الأخرى بهندسة شديدة و تفصيل دقيق؛ إذ لم تكن كلّها مخصصة للعبادة وأداء التّراويح، بل تتخلّلها بعض لحظات المرح والفرح، عملاً بمقولتنا الشعبية الخالدة: "شْوِيّة لْرَبِّي وَشْوِيّة لْعَبْدَهْ".
هكذا نبدأ مع الجماعة تأدية الفرض ونعقبها ببعض ركعات التراويح، ثمّ نذهب للحيّ ونلعب بالكرة أو غيرها من الألعاب المحبوبة عندنا، ثمّ نعود مجدداً للمسجد حين نرى أطباق "الكسكس" تخترق جموع المصلين، لننتظّم سريعا،ً ثمّ نتفرّق شيعاً بين الحاضرين، حتّى لا تُمارس علينا "دكتاتورية المسنين"، وتحرمنا "الحقّ" في الظّفر بلقيمات "الطعام" اللّذيذ.


***




(21):
يتزيّن مسجد "عكاشة" العريق في "ليلة القدر" بمُسحٍ جماليةٍ لطيفةٍ، تُضفي على جنباته روحانيةً وسُكوناً غير مألوفين؛ إذ يُبادر المأموم الفقيه "عمي الصحراوي" –رحمه الله رحمة واسعة- بفتح أبواب المسجد مُبكّراً، وحرق بعض "أعواد القماري" و"حبّات الجّاوي" حتّى تفعل فعلها في هذه اللّيلة المباركة، لا شيء يقوى على مُنافسة عطر "البخور" الطيّبة التي تملأ الفضاء، وتزيده بهاءً ورونقاً، عدا رائحة "الكُسْكُسِ" الشّهيّة.
عريسٌ من عُرسان السّماء هو مسجد "عكاشة" اليوم، ريحٌ طيّبٌ، حضورٌ وَقُورٌ، نشوةٌ باديةٌ تكسو وجوه الجميع، جوٌّ تراحميٌّ بديعٌ، تُؤدةٌ تؤثّث المشهد، وطعامٌ في الأخير يقوّي من عُرى العلاقات الاجتماعية، كلّ هذا يزيد الفضاء الصّغير بمُعدّاته البسيطة، طمأنينةً وخُشوعاً عظيمين، فهو بالإضافة إلى سقفه غير المرتفع، وجدرانه المطلية باللّون الأبيض، ونقوشه الجبسية التي تعلو محراب الإمام، لا يملك إلاّ بابين وبعض النوافذ، ممّا يحدّ من انهراق الأضواء، ويبعث في العين راحةً تنعكس مباشرةً على دقّات القلب.
"ليلة القدر" خزّان من خزّانات الأرض للقداسة السّماوية، كلّ أيقوناته وعلاماته ورموزه تعرج بك إلى ملكوت الرّب، فيقتات قلبك من معين الحضرة الإلهية، وتعبر روحك في مدارج السّالكين من إيّاك نعبدُ إلى إيّاك نستعين، ثمّ تظفر بأعزّ ما يُطلب في باب مُشاهدة منازل الجمال.
هكذا، يا سادة، كان مسجدنا العظيم في هذه اللّيلة المُباركة، مسجد كلّه دفءٌ ورحمةٌ ومودةٌ، الكُلّ مُصطفٌّ خلف الإمام، والوجهة واحدة هي: الله، أحببت هذا الفضاء منذ الصّغر، عكس مدرسة "القدس" حيث كنت أُضمر لها كُرهاً وبُغضاً فعليين، كانت مدرسةً طبقيةً بامتياز، لا تكفّ عن تعنيفنا مادياً ورمزياً في كلّ لحظةٍ وحينٍ، كنّا نحن أبناء "المعذبين في الأرض" نتحمّل بعض إهانات أقراننا في الصّفّ، ولا نجرؤ على ردّ الصّاع صاعين، ما دمنا ندرك تحالفاتهم مع بعض المعلّمين؛ إذ أذكر كيف كان يتولّى بعض التلاميذ والتلميذات مهمة حراسة القسم في حالة الغياب المؤقت للمعلّم، أو تكليف هذا الأخير لبعضهم بتسجيل أسماء كلّ من يَلْحَنُ في القراءة أو لا يجيدها إطلاقاً، ثمّ يُحال بعدها على المقصلة، كم ذاقت أجسادنا الهزيلة ألواناً من العذاب بعصي وأيادي وأرجل بعض هؤلاء المعلّمين، غفر الله لنا و لهم.
مسلسل الرّهاب لا ينتهي بمجرد مغادرة زنزانة القسم، إذ كنّا شديدي الحرص على عدم ارتكاب أي فعل إجرامي ونحن بالقرب من فضاء المؤسسة، وخاصة مع أقراننا المقربين في الفصل، لأن الوشاية إلى السيّد المعلّم بمثل هذه الأفعال الانتقامية تجعل الواحد منّا مُعرضاً لسَمومُ الجحيم، ومع هذا نلتُ شيئاً من هذا العذاب، إذ تستحضر ذاكرتي مشهداً يعود لسنة 2000 وأنا في المستوى الثالث من الابتدائي، حين قام صديق طفولتي "هشام لگريفي" بشيطنة علاقتي مع تلميذة متفوقة، كان يكلّفها المعلّم كثيراً بمهام حراسة التلاميذ وقت غيابه القصير، بعد أن كنت قُمت بالفعل نفسه و شيطنت علاقته مع تلميذة من التلميذات التي أنعم الله عليهن، وقلت لها بما مفاده أنّه يهيم في حبّها، وما كانت النّتيجة إلا أن أخبرت أمّها واعترضت سبيلنا يوماً بالقرب من المؤسسة وطاردتنا بسيارتها حتّى كادت أن تزهق نفس صديقي لولا لطف الأقدار، وبهذا أعاد لي "هشام" الصّاع، حين أخبرتْ زميلتي المعلّم بما وقع لها من مضايقات بمجرد دخولنا إلى القسم، وما على هذا الأخير إلا أن اقتصّ لها، وذقت العنف بوجهيه المادي والرمزي، هكذا انتصرت زميلتي "المتفوقة" على التلميذ "الكسول"، ولكن من مكر التاريخ، أن هذا الأخير صار مُدرِّساً و باتت ربّة بيتٍ، وتلك الأيّام نُداولها بين النّاس.
لم نعرف مثل هذه الأشياء إطلاقاً في مسجدنا العتيد، مسجد الدراويش، حيث غالبية مُريديه من ساكنةٍ زحفت اضطراراً من الرّيف إلى المدينة، واستوطنت أحياء هامشية، كان مسجدنا بسيطاً، وأناسه طيّبون، لم نعنّف نحن الصّبية في الغالب إلا حين ننتهك حرمة الفضاء، ثمّ نصلي صلاة هادئة لا رياء فيها ولا تبجّح، عكس المدرسة التي لم يهدأ لنا فيها بالٌ.
أذكر في هذا الصدد أن ما تعلّمنا من قيّمٍ في هذا الفضاء، وما تشربناه من أخلاق، كان أثره عميقا في الوجدان، عكس قيّم المدرسة، فتعلمنا الصدق والصفاء والأمانة ومساعدة الأغيار، كما أدركنا بشكلٍ مبكرٍ أن الإسلام كدين يحمل رؤية للعالم وليس مجرد طقوسٍ ومشاعرٍ، وأحببنا شخص "محمّد بن عبد الله" صلى الله عليه وسلم الذي قُدّم لنا كحاملٍ لرسالةٍ تبتغي إقامة العدل في الأرض، وليس كما تصوّره السردية الاستشراقية، وعلى هذا كان ديننا شعبياً وثورياً في آن، وتعجبت ذات مرة حين قرأت شيئاً لأحد دعاة "اليسار الإسلامي" وهو المفكر المصري الشهير "حسن حنفي"، وقلت في نفسي: إن ما يقوله الرّجل هو عينه ما كنّا نعتقده دون وعي بالاشتراكية وخطاب اليسار، وبذلك كنّا حقاً: "رِفاقاً، ولكن على سنّة الله ورسوله".
ومن حسنات مسجد "عكاشة" وخطبه الجميلة قبل أن تصير مخزنية محضة، أنه علّمنا حبّ الغالية فلسطين -عكس مقررات المدرسة المؤدلجة- إذ ما يفتأ الخطيب يذكرنا بما يحيق بأهلنا في المقدس من اضطهادٍ وتنكيلٍ على يد الصهاينة المحتلين، وعن أحقّية الشّعب الفلسطيني الأعزل في المقاومة والذّود عن وطنه، وعن واجبنا نحن بالدعاء لهم بالنّصر والتّمكين، وتحضرني هنا "قصيدة" نسجتها سنة 2009 وهي السنة التي اعتدي فيها على قطاع غزّة بأبشع ألوان الاعتداء، وكنت حينها أدرس في قسم الباكالوريا، ولم أتمالك نفسي، فشعرت أنّ شيئاً ما داخلي يريد أن يتكلم، ولم أجد غير قصيدة حفظتها يوماً في مدح الرسول، وحوّلت كلماتها صوب غزة الصامدة، وقدمتها لأستاذة اللغة العربية "شريفة أحمادي" والتي كنت أحبها حباً كبيراً لأنها آمنت بي يوماً وشجعتني أيّما تشجيعٍ، فقرأت "القصيدة" واستحسنتها كثيراً، ثمّ فاجأتها حين قلت: "فقط، أردت محاكاة شعراء إحياء النموذج"، وعدت إلى مقعدي وأنا فخورٌ بهذا الإنجاز، حيث اعتقدت أن أستاذتي ستعنفني على سرقة "القصيدة"، لكن لم تدرك شيئاً من ذلك، ثم قلت لنفسي حينها: "ما أسهل الشّعر، وأن تكون شاعراً في هذا الزّمان !!"، و أبيات "قصيدتي" هي:
1-غيري يَبيتُ على الأموال يجمعها*** كأنّه راكعٌ فيها إلى صنمِ
2-وَلِي بحبِّ أهل غزة كنز هدى *** أهديها روحي وأفدي دينها بدمِ
3-لو كان عندي جناحُ الطير ألبسه *** سبقت قافلة اليهود إلى الحرمِ
4-ساروا إلى غزة الغرّاء وازدحموا *** بالبيت والرّكن فيها أي مزدحم
5-كأنّما غزة العليا مرحبة *** بطائفٍ حول ركنيها ومُستلمِ
6-لو قيل لي كيف تسعى لغزة غدا *** لقلت أسعى بروحي لا على قدمي
7-هي غزة البهية العبقرية على *** مرّ السنين طهورة النّبع والشّيمِ
8-ما أمّت مدرسةً أو حلّت جامعةً *** وعلمها فوق علم النّاس كلّهمِ
9-الله علمها وحياً بلا قلمٍ *** فسبحان من علّم الإنسان بالقلمِ
10-كانت شمائلها من قبل مبعثها *** بالحلم موفورة مرعية الحُرمِ
11-إنّي أحبّك يا غزة فليشهد عليّ بها*** ربّ العباد وذا عهدي وذا قسمي


***


(22):
هي ليلةُ البهاء والصّفاء، ليلةُ معانقة الأرض للسّماء، ليلةُ اتّحاد اللّاهوت بالنّاسوت، ليلةُ الهُيام وكشف المحجوب، ليلةُ العشق والفناء في المحبوب، هي "ليلة القدر" التي ينتظرها الصّبية والكبار، ويحيونها إلى أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، هي اللّيلة التي يُذرف فيها الدّمع وقت الدّعاء خشوعاً ثم وعياً بانتهاء مسلسل أيّام رمضان.
شيءٌ ما بعد هذه اللّيلة الملحمية يدبّ إلى رحاب مسجد "عكاشة"، ويغيّر من روحانيته وسكينته، لكأنّ جدرانه نزفت عَبرات من شدّة فقدانها للحبيب، وباتت تلفظ سماع أيّ صدى، أو زيارة أيّ مُريد، كنّا ندرك ذلك بطويتنا البريئة وفطرتنا النّقية، ولا نملك عزاءً غير الصّلاة لله بأن يجعلنا من الذين يدركون رمضان في الموسم المقبل، وأن يتقبّل منّا الصّيام والقيام.
قبل انتهاء هذه الأيّام المعدودات، تدخل اهتمامات أخرى في سجلِّ الصّغار، إذ لا حديث بين "إخوان الصّفا وخلاّن الوفا" غير الكلام عن ملابس عيد الفطر، وحلق الشّعر، وارتياد الحمّام، كان لهذا الأخير وقعٌ خاصٌ في وجداني، فأذكر وأنا شبلٌ صغيرٌ كنت أقصد حمامات النّساء الشّعبية رفقة السيدة الوالدة –أنسأ الله عمرها-، وحفظت أسماء منها:"حمام الدّكالي"، "حمام القدس"، "حمام لالة أمينة" ثم أخيراً "حمام بنقاشور" وصهريجه الكبير المملوء بمياهه الكبريتية.
شكّلت حمّامات النّساء التّقليدية عُقداً كثيرة بالنسبة لي، وكرهت أيّما كُرهٍ العاملات فيه، ممن امتهن التدليك و التحميم؛ إذ أذكر أن كثيراً من "الكياسات" و"الطيابات" كنّ ينهرن والدتي ويطالبنها بعدم تكرار الفعل، ولم يكن لها بُدٌ سوى إعادة أسطوانة اليُتم، أما عن رفاق زُقاقي فكنت عندهم محطّ غمزٍ ولمزٍ، فتارةً يخلعون عني صفة "الرجل"، وتارةً يتودّدون لي حتّى أحكي لهم عن "حَمّامْ نْسَا". كنتُ أدرك حينها أن ما يحرّكم من كُرهٍ اتجاهي هو الغيرة ليس إلاّ، لذلك كنتُ أرفض أن أقصّ عليهم أحسن القصص في "دهاليز" هذا الفضاء المختلف.
"حَمّامْ نْسَا" هو أشبه ب "سوقْ نْسَا"، ينطبق عليه وصف عبد الرحمن المجدوب: "سُوقْ نْسَاسُوق مَطْيَارْ، يَا الدّاخَلْ رُدْ بَالَكْ، يْوَرِيوْلَكْ مَنْ رْبَحْ قُنْطَارْ، وَيَدِيْولَكْ رَاسْ مَالَكْ"، فهذا الفضاء لم يكن مجرد مكانٍ للاستحمام، بل كان فضاءً اجتماعياً بامتياز؛ فنسوة الأحياء الشّعبية لا يلتحقن به في العادة إلا ثلاث مرّات في الشّهر، أي بمعدل مرة واحدة لكل عشرة أيّام، أمّا المعدمات منهن فلا يترددن عليه سوى مرتين في الشهر، كان استحمام النساء طويلاً من حيث المدّة الزّمنية، إذ يتراوح بين ساعتين إلا ثلاث ساعات، مما كان يدفع بعضهن إلى جلب بعض ثمار البرتقال، وشيءٍ من الخبز والماء حتّى يقدرن على تحمّل حرارة المكان.
كان "حَمّامْ نْسَا" أيضاً طبقياً، فالمنعمات منهن يطلبن خدمات "الطيابة" أو "الكياسة"، ولا يجلبن الماء الدافئ من "البرمات"، ولا يتقاتلن على دِلاء الحمّام، بل لهن أمكنة خاصة، ولا يجالسن "المعذبات في الأرض". كانت أجساد هذه الفئة تختلف عن الأخريات، حيث آثار الخير بادية عليهن، فترى أردافاً مُكتنزةً بيضاء، ونُهوداً مرتفعةً مكوّرة، وفروة رؤوسهن مملوءة بشعرٍ حريريٍّ ناعمٍ، عكس أجساد البقية المتفاوتة من حيث الحجم والشكل، والتي يطبعها في الغالب عدم التناسق. أمام هذا الفسيفساء الجميل، كانت عيني وإن ظاهرها الحشمة والوقار، فباطنها التلذّذ والانتشاء، حيث كنت أطلق لخيالي العنان، ليسافر بي في جِنان السمّاء رفقة حور العين التي وعد الله بها عباده الأتقياء.
"حَمّامْ نْسَا" هو أيضاً فضاء لتبادل الأخبار، وتداول الأحداث، ومناسبة جليلة للأمّهات لاقتناص شريكات العمر لأولادهن، وعقد أواصر القرابة مع عائلاتهن. فكانت خُططهن بهذا الصدد واضحة، فتبدأ الأمّ بوضع دليلٍ للملاحظات، حيث ترمق البنت من بُعدٍ، وتركز على تصرّفاتها داخل الحمام، ورصد رزانتها من خفتها، ثم تمرّ إلى فحصٍ بصريٍّ سريعٍ له علاقة بجسدها ومدى توفره على قدرٍ من حُسن القِوام، وبعد اجتياز هذا الامتحان الأولي، تلجأ الأمّ إلى الشّق الثّاني والحاسم من الاختبار العملي؛ إذ سُرعان ما تخطب ودّ الفتاة، وتُطالبها بلطفٍ بملء الدلاء بالماء البارد والدافئ، وبعدها بتقديم خدمة ٍ متمثلةٍ في فرك ظهرها من الأدران، لضبط قوة حركة اليد من فتورها، طبعاً مع تدرّجٍ في بسط الأسئلة، بغية معرفة طريقة كلامها وكيفية تفكيرها، كأنّها على درايةٍ بدرس سُقراط القائل: "تكلّم حتّى أراك".

***










(23):
"سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ للهِ، وَلاَ إِلهَ إِلاَّ اللهْ، اللهُ أكْبَرْ، اللهُ أكْبَرْ، اللهُ أكْبَرْ، وَللهِ الحَمدْ"، على إيقاعات هذا الصوت السّماوي الجميل، النّابع من أبواق صومعة مسجد "عكاشة"، وبحناجر مبحوحة لكلّ من عمي "السكيكري" –أطال الله عمره- و عمي "الصحراوي" و"الهبري –رحمهما الله-، يُفتتح أعظم يومٍ في حياة كلّ طفلٍ بحيّنا، إنه عيد الفطر المجيد يا سادة.
في هذا اليوم، ومن فرطِ الشّوق إليه، لا تغمض أجفاننا إلا لِماماً؛ إذ بمجرد ما نسمع أصداء "التكبير" و"التهليل" و"التحميد"، وهي تشقّ نسيم الصّباح العليل، إلاّ وننفض عنّا كسل النّوم، ونستعد مباشرة لصلاة العيد.
في مطلع هذا النّهار يكتسي مسجد "عكاشة" الصغير بهاءً عظيما،ً وكأنّ الكلّ في صرح ملكٍ له من الجلالة والمهابة والقداسة الأمر الكثير، إذ يأتي كلّ مُريدٍ بعد الغُسل والتطيّب بأجمل ما لديه من ثيابٍ، ويُقرفِص بهدوءٍ وسكينةٍ، ثمّ ينطلق معية المصلّين في ترنيماتٍ إلى أن يخرج الإمام من مقصورته صوب محرابه، ما أجمل وجهه يوم العيد، كأنّه بدرٌ في ليلةٍ ظلماء وسط مَهْمَهٍ مُقفرةٍ، وما أروع جِلبابه الأبيض النّاصع، كأنّه مَلاكٌ حَطّه الإلهُ من عَلٍ.
صلاة العيد تختلف عن الصلوات الأخرى في شكلها، فمن أحكامها أنّها تكون قبل الخطبة، عكس صلاة الجمعة، ثمّ تُؤدّى في ركعتين؛ حيث يُكبّر الإمام في الركعة الأولى ست تكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً عدا تكبيرة القيام، وبعد ذلك يعتلي منبره، ثم يكبّر ويهلل ويحمدل، ويذكرهم بحديث المصطفى القائل: "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه"، وبعدها يذكّر النّاس بقيم الإسلام ورحمة الله.
ما أن ينهي الخطيب خطبته، إلا وجموع المصلّين تتحلّق حوله حتّى تبارك له عيد الفطر، أما البقية فتغرق في الضّم والاحتضان والعناق في "مشهد تراحمي" بديعٍ لا تكاد تجد له مثيلاً طوال أيّام السنة، والكلّ يردد: "عِيدَكْ مَبْرُوكْ، تَعَيّدْ وَتْعَاوَدْ، لْعُقْبَة للعَامْ الجّايْ نْشاء الله، بِالرَّحْمة ولْمَغْفِرة".
بعد ذلك ننطلق نحن الصّغار إلى منازلنا بسرعةٍ، ونرتدي ملابس العيد التي من هول عشقنا لها، ارتديناها قبل هذه اللحظة أكثر من مرّة، وأيدينا تقلّب مرآة الخزانة يُمنةً ويُسرةً، ثم نتجه صوب الحارة وننتظر التحاق الجميع.
هكذا تبدأ المرحلة الأولى من يوم العيد عند الأطفال باستعراض الملابس، والانتصار لها، ورفض أيّ نظرة تبخيسية تحطّ من قدرها، مع المُغالاةفي ثمنها طبعا، وبعدها تُنتظر "منحة" الأهل ومن يباركون بهجة العيد من الجيران، والمتمثلة في بعض الدريهمات.
حلاوة جمع النّقود يومها تفوق حلاوة "الكعك" و"الكاطو" الذي تعبت الأسر في تحضيره، إذ يخوّل امتلاك "الرأسمال" لحظة "تَبرْجُزٍ" مؤقتةٍ، تنعكس آثارها مباشرةً على أشكال البناء الفوقي، وهكذا يسعى كلّ واحد في إشباع رغباته النّفسية المكبوتة طوال السّنة، ويُكثر من "الاستهلاك" و"التبضّع" من دكاكين الحي، ويختمها ببعض الألعاب التي كانت تنتعش يوم العيد والمتجلية في "حْيْط"؛ وهو نوع من القمار يلعبه الصبية بالمال".
حقّاً كانت للأعياد بهجتها، وللأيّام مسرّاتها، وللقلوب نضارتها، وعلى ثَرى "فلاج الفگيگ" ما يستحقّ الحياة... لكن، كلّ شيءٍ تغيّر اليوم، وصارت البيوت المتلاصقة مجرّد كُتلٍ طينيةٍ صمّاء، والحارة مجرّد تجمّعٍ بشريٍّ كبيرٍ بلا روحٍ، أمّا عن عُرى العلاقات الاجتماعية فباتت في خبر كان.
*****

انتهى في: رمضان المبارك1441، الموافق ل ماي 2020.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى