الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الرابع/ 4

دلور ميقري

2020 / 9 / 3
الادب والفن


في خلال أيام ثلاثة، انفتحَ الدركيّ على سجينه حتى أنهما تبادلا الحديثَ مراراً من خلال فتحة باب الزنزانة، المدعّمة بقضبان حديدية متصالبة. حسني، كان قد أعلِمَ مسبقاً من لدُن رؤسائه بأهمية الحفاظ على حياة الزعيم القبليّ لحين أن ينقل إلى حجرة الموت شنقاً. ولم يهملوا التشديدَ بشأن كرامة الرجل، طالما أنها تعادل عند الأعراب الحياة نفسها. برغم مقت السجّان لهؤلاء القوم، حاول أن يضعَ واجب الوظيفة نصبَ عينيه بعيداً عن العواطف. لكنه ما كان في وسعه تجنّب التفكير بالماضي، على الأقل في مستهل خدمته لزنزانة الزعيم المحكوم بالإعدام: خلا المنازعات مع الأعراب على المراعي، هناك في الموطن الأول، جاءت حادثة مقتل عمه على أيديهم، في خلال عملية ثأر، وكان ذلك مباشرةً بعد انتهاء الحرب العظمى. العم، هوَ والد بيروزا، التي لم يعرف حسني غيرها حينَ اضطر للهرب إلى الشام مع عائلته. ذلك جرى، مثلما أسلفنا، على أثر تورطه بدَوره في مطاردة على خلفية حادثة ثأر. بيدَ أن طالبي دمه، كانوا من أبناء جلدته.
من ناحيته، ارتاحَ لورنس الشعلان لسجّانه وربما لأنّ طبعيهما متشابهان. كذلك في أثناء مناسبات تبادل الحديث، وكان غالبيتها في فترة وجبات الطعام، تطرقا إلى اشتراك الأعراب والجبليين في عديد من العادات والتقاليد؛ كاعتماد حياة البداوة والتنقل بحثاً عن المراعي، بحسب دورة الفصول، إلى احتقارهم للزراعة وميلهم لنزعة النهب والسلب وايثارهم الثأر على احترام القانون. لكن حسني كان يعتقد أن قومه الكرد أقل تعطشاً لسفك الدماء في وقائع قطع الطريق، مثلما أنهم في بيوتهم أكثر احتراماً للمرأة، كذلك يتزوجون غالباً بعد حكاية حب: " غيرَ أن الحال تغيّرَ ولا شك في العقود الأخيرة، بالنظر لضبط الحدود عقبَ انهيار الدولة العثمانية "، أوضحَ ذاتَ مرةٍ لسجينه. ولعله كان يقصد القضاء على آخر البؤر اللامركزية، ثمة في البلدان المقتسمة أرضَ الكرد. في أثناء الحديث، برقت عينيّ لورانس حينَ جاء الآخرُ على موضوع الحب. فما لبثَ أن ذكرَ حادثة، سمعها من أبيه، تتعلق بفتى بدويّ من قبيلته اختطفه أشقياء من كرد الشام: " باعوه بعدئذٍ مع الأغنام المسروقة لوجيهٍ من حيهم، وهذا جعله مسئولاً عن زريبة يملكها وأحسن معاملته. فيما بعد عشقَ الشابُ ابنة آغا، يمتلك بستاناً بالقرب من مكان عمله، وما عتمَ أن فر بها إلى مضارب أهله على أطراف دمشق. غبَّ وساطة من معلمه السابق، تصالح الشاب مع والد الفتاة، وكانت الخاتمة السعيدة لحكاية الحب هيَ الزواج ".

***
لا ريبَ أنّ حسني تذكّرَ بدَوره تلك الحكاية، لما عرَّفَ أحدُ الضيفين نفسه بوصفه حفيد الآغا الديركي من ابنته. هذا الحفيدُ، اعتبرَ أيضاً المضيفَ على قرابةٍ به، وقد شرحَ ذلك وليسَ بدون شيءٍ من الحَرَج. لكن على أثر عرض خطة تهريب الزعيم القبليّ، هيمنَ صمتٌ عميق على حجرة الاستقبال. الضيفان، لاحَ أنهما اتفقا ضمنياً على منح الدركيّ مهلة كافية من الوقت لاتخاذ قراره بالقبول أو الرفض. لما استطال تردد الرجل في الجواب، بادرَ ممدوح إلى خرق الصمت متوجهاً إليه بالقول: " أنا مستعدٌ للبقاء كرهينة، لحين الاطمئنان على وصولك بالسلامة إلى مدينة عمّان. في وسعك تدبير هاتف أحد المعارف في تلك المدينة، ومن ثم يبقى هوَ على اتصال مع أهلك هنا لو جرى كل شيء بحسب خطتنا "
" أنا لستُ قلقاً من ناحيتكم، بل أفكّر بأسرتي وما قد تتعرض إليه من اجراءات انتقامية من جانب السلطات "، تكلم المضيف أخيراً. وكان جواب مخاطبه الابتسام أولاً، قبل أن يرد بالقول: " ذلك قد يحصل في تركيا، أما هنا فإن السلطات الفرنسية لا تسمح بالتنكيل بأسر خصومها أو مَن في حُكمهم ". ثم استدرك: " لكن لو شئتَ، يمكن أن نرحّل أسرتك إلى عمّان منذ صباح الغد وقبل البدء بخطة تهريب الشيخ؟ "
" هل قمتم بتأمين سترة الدرك، المفترض أن يرتديها الشيخ أثناء الهرب؟ "، انتقل حسني إلى الحديث عن صلب الخطة بشكل مفاجئ. أومأ المرافقُ رأسَهُ إلى جهة ممدوح، الذي باغته أيضاً السؤالَ: " إنها موجودة لديه ".

***
في صباح اليوم التالي، وضع حسني السترةَ المطلوبة في حقيبةٍ صغيرة يحمل فيها عادةً غداءَ يومه. لقد مضى لتنفيذ خطة تهريب الزعيم القبليّ المحكوم بالإعدام، متخلياً عن أي ضماناتٍ لنفسه أو لأسرته غير كلمة الشرف. آثرَ ألا يواجه والدته بالموضوع، هوَ مَن عدّ ذاته مسئولاً عن تغرّبها وعائلتها بسبب تورطه في حادثة قتل، ثمة في الموطن الأول. لم تواته الجرأة، هذه المرة، في مواجهتها بخبر العزم على الرحيل إلى مغتربٍ آخر. لكنه انفردَ بعيدَ ذهاب الضيفين بشقيقه، ليفضي له ببعض تفاصيل خطة تهريب الشيخ، ولينتهي إلى القول: " هذه فرصة لن أفوّتها، لأنها ستجعل مني رجلاً غنياً، فأعوّض ما خسرناه برحيلنا عن أرض الآباء والأجداد. عليك مهمة اقناع والدتنا، بأن تلحقوا بي إلى عمّان. فإذا رفضت، تبقى أنت معها وأنا أتكفل بمعيشتكما. فيما بعد، سأخبرك متى تأتي بأسرتي إلى عمّان. ولكن لو فشلت خطةُ الهرب، أو غدرَ الأعرابُ بي، فإنني أعتمد عليك في معيشة وسلامة كل من الوالدة والأسرة "
" سأنفّذ ما طلبته مني، ولو أنني أوافقُ أمنا لو أنها رفضت غداً مغادرةَ دمشق "، قالها بنبرة حزينة الشابُ البالغ من العُمر سبعة عشر عاماً. اكتفى حسني بمعانقة أخيه، وما لبثَ أن غادر الدارَ متجهاً إلى منزل ممدوح كي يأخذ سترةَ التمويه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على


.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا




.. فوق السلطة 385 – ردّ إيران مسرحية أم بداية حرب؟


.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز




.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن