الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رمضانُ في الذّاكرة (ج3)

زكرياء مزواري

2020 / 9 / 3
الادب والفن


(10)
كان صيام "ولاد بابا وماما" غريباً بالنسبة لنا نحن أبناء المعذبين في الأرض؛ حيث لا نكف عن السّخرية منهم والاستهزاء بهم؛ إذ كيف يعقل أن يصوم الواحد منهم نصف يومٍ، وإذا ما ناله شيء من العطش بادر إلى شربة ماءٍ يبلّل بها بلعومه، وحجته في ذلك أنّه يتمرّن على الصيام؛ أما في النّصف من شهر رمضان الفضيل فيجتهد الواحد منهم بصيام اليوم كاملاً، ويحتفي به أهله أيّما احتفالٍ، كأنّما صام الدّهر بأكمله؛ إذ أذكر ونحن صغار حين نزور مركز مدينة وجدة ليلاً ونتجوّل في أسواق بيع الملابس لكي نعلم الماركات والموضات الجديدة التي أتى بها التّجار، كنّا نجد في "ساحة الحمام" أو "طريق مراكش" صبية مع أسرهم وهم يرتدون ملابس المصوّر، ويلتقطون صوراً مع تصفيقات أهلهم، كنّا نستهجن هذا التصرّف، ونقول لبعضنا: هيّا نستطلع أجواء أبناء "لفشوش" وحكايتهم مع صيام رمضان، ولمّا ننهي ذلك، نضحك بمكرٍ على حال هؤلاء، ونرفع من شأن الثقة في أنفسنا، ونقول: "يَحْيَى وْلاَدْ الشّعبْ".
مسلسل الدّهشة مع المنعّمين في الأرض لا ينتهي أبداً، حيث يحتفظ كلّ واحد من أبناء الأحياء الشعبية ممن كانوا يدرسون في "القدس" بقصص وحكايات معهم، فأستحضر هنا قصة طريفة وقعت لي مع أحد هؤلاء، فكنت في المرحلة الابتدائية على غرار كثيرٍ من أقران حارتي من هواة تربية "جراء الكلاب"، وكان مكاننا المفضل الذي نستودعهم فيه "الحصيدة" أو "مور الديور"؛ فهذا الفضاء بالإضافة إلى كونه يحتوي على ملعبٍ من ترابٍ حيث تدار لقاءاتنا الكروية القوية في سبيل نيل نصف درهمٍ، كان أيضا مرتعاً خصباً لبعض المدمنين على شرب الكحول، حيث يوجد بعين المكان تاجر خمرٍ يدعى ب"أوتشي"، وكان قصير القامة وزئبقياً، لدرجة أن رجال الأمن لم يتمكنوا يوماً من ضبطه في منزله الأشبه بدهليز نملٍ.
في هذه المساحة الشاسعة المسماة ب"الحصيدة"، نشطت تربيتنا لجراء الكلاب، حيث شيدنا منازل لهم، ولقبنا كل جرو باسمه، وحاولنا أن نرصد حتّى نوعية سلالة كل كلب صغير، فكان لدينا (chien- loup، berger، doberman، policier، Bouledogue ، husky، pitbull،...)، و لكن هذه السلالات كانت متخيّلة وليست أصلية، حيث لم يكن في حوزتنا غير كلاب الأرض المعذبة المنبوذة التي رمت بها الأقدار إلى إخوانها الكادحين، هكذا وبافتخار شديد تباهيت أمام زميلٍ لي في الفصل وهو من أبناء حي القدس، بنوعية هذه الجراء التي أمتلكها معية رفاق حارتي، وطالبني بإعطائه جرواً واحداً، وقال لي حينها بلفظ فرنسي لم أفهمه إلا بعد سنوات: (on est d accord ?).
طبعاً، لم يأخذ شيئاً من ذلك، وما محاولتي في إسالة لُعابه إلا من باب استعراض العضلات، وإثبات الذات، التي حرمتنا إياها مدرستنا الطبقية، ولفظه الغريب آنذاك بالفرنسية كان غيضاً من فيضٍ، فأذكر وأنا في السادسة ابتدائي، وبالضبط في بداية الموسم عند معلم الفرنسية، سأل إحدى التلميذات عن مهنة والدها، فأجابته بلغة موليير:(un juge)، ثم تواصل الحديث بينهما دون أن نفقه شيئاً ممّا كان يقال، ولا أتذكر إلا كلمة ضحكت في قرارة نفسي عليها، وهي: (avocat)، لم أدرك معنى الكلمتين حتّى بلغت عمراً معيناً، وعلمت أن الأولى تفيد "القاضي" والثانية "المحامي"، وليس نوعاً من الفاكهة التي ترمز في متخيلنا إلى زيادة القوة الجنسية، وهذا دليل كافٍ على حجم التفاوتات الطبقية التي كانت ترزح فيها المدرسة، وخاصة أن مؤسسات التعليم الخصوصي لم تكن كثيرة حينذاك، وإلا لكان الأفضل لهؤلاء أن يدرسوا فيها، ويتركوا للمقهورين الفضاء علّه يتماشى وأحلامهم.



(11):
للإنصاف، لم يكن أبناء القدس وبعض من أولاد الحي الجديد الرّاقي الذي ظهر بجوار حارتنا الشعبية والمسمى "حي الأندلس"، حيث ألحقنا به ظُلماً و بُهتاناً في الأعوام الأخيرة، على شاكلةٍ واحدةٍ، بل كان من بينهم من يتنكّر لهويته ويحبّ الالتحاق برفاق الحارة، حتّى يطرد عنه ذاك اللّقب الملعون الذي كنّا نصنّفهم به، وهو "ولاد بابا وماما".
نعم، ورغم كبر منازلهم و"بذخها"، وشوارع أزقتهم الواسعة عكس دروبنا الطويلة الضيقة، وسيّاراتهم المركونة أمام دورهم، واشتغال جلّ آبائهم في أسلاك الوظيفة العمومية، إلاّ أن بعضاً ممن نشتمّ فيه رائحة "التشعبيت" كنّا نقربه إلينا زُلفى.
أدركنا مُبكراً أن "المال" الملعون (وْسخْ الدنيا) هو المسؤول المباشر عن كلّ جروحنا، وأنّه حجر عثرة يحول وإشباع جميع رغباتنا النفسية المدفونة، لذلك لم يكن لنا بدٌ من خطب ودّ أبناء المنعمين في الأرض، وبيع "السعادة الزائفة" لهم، كان جلّهم محروماً من الحرية التي كنّا نتمتع بها، حيث مسار الواحد منهم مضبوط من المدرسة إلى المنزل بالثانية والدقيقة، كما أن أغلبهم يفتقرون لحسّ المغامرة واستكشاف المجهول، لذا وجدوا في حياتنا معنى الطفولة الحقة، فقررّ بعضهم الانضمام لحي "فلاج الفگيگ" والتمرّد على صنمية التدجين التي يغرقون فيها.
هذه الشرذمة القليلة وجدت في حينّا الشعبي ملاذها المخلّص من النّعت المنتقص من رجولتها، وبدأ شيئاً فشيئاً يصلب عودها، فتراهم يغامرون مع أبناء الحي فيما يغامرون، ويفعلون معهم كل ما يفعلون، وإذا ولوا مساء إلى منازلهم بعد الذي ظنوه إنجازات، رأيت أبناء "فلاج الفگيگ" يضحكون على ذقونهم، وينظرون إليهم مجرد "كُوميرات"، يسدّون بها ما يعانونه من فقر شديد.
سياسة "التْكُومِيرْ" كانت هي السياسة الرائجة حينئذ، والعملة الوحيدة التي عبرها "يتبرجز" أبناء المطحونين، وكنّا نعدّ من يظفر بصداقة مع أولاد "بابا وماما" في خانة "الشطّار"، ووسيلتهم في ذلك، كانت الثّعلبية والمكر طبعا.
في هذا الجوّ نشأ أبناء الحارة وأعينهم تراقب "همْزات" أقرانهم في الدّراسة، ومن العجيب أن ذاكرتي تستحضر هنا قصة "حبّ مقدسية" في المرحلة الإعدادية، حيث جمعتني بفتاة تدرس معي وهي من قاطنة حي القدس، لم يكن لهذه "العلاقة" أن تنسج لولا فنّ الخطابة الذي تدربنا عليه في حينا العتيد، وبذلك سقطت المسكينة صريعة الهوى.
لم يصمد "الحب" في زمن الطبقية إلا أيّاما معدودة، حيث كنت أندهش بحجم التفاوتات الاجتماعية وأنا أقارن وضعي بوضع من ازدادت في فرنسا، وتتكلّم برشاقة لغة موليير، كما أنّي لم أسمع في حياتي قط كلمة (argent de poche)، ولا تعوّدت إطلاقا الاحتفال بعيد السنة الميلادية الجديدة (bonne année)، أو إهداء شيءٍ في أيّام عيد الميلاد (bon anniversaire).







(12):
كانت فتيات "لفشوش" من حي القدس على درجةٍ من الوسامة واللّباقة التي تتساوق وخطاب المؤسسة، فما امتلكنه من "رأسمال ثقافي" من أسرهن خوّل لهن "التّفوق" داخل الفصل، ونلن بذلك حظوة عند المدرسين، ومع هذا كانت للبعض منهن رغبة في اكتشاف أسرار "نزقية" أبناء الأحياء الشّعبية، وسعادتهم العارمة في الاستمتاع بفترة المراهقة، لذلك فضّلت الكثير منهن عَقد علاقات صداقةٍ وحبٍّ مع هذه الفئة، نظراً لما كانوا يتمتعون به من جرأة وجسارة وقدرة على الإقدام، عكس ذكورهن الأقرب إليهن في الأنوثة.
ذات مرة، ونحن في إعدادية القدس، وفي إحدى الحصص الجحيمية من مادة "التربية على المواطنة"، أردنا أن نكسر رتابة الدرس المملوء بالإيديولوجيا والوهم معية رفيق حارتي "العزاوي"، وسألت تلميذة من تلميذات "لفشوش"، التي كانت "تتطاوس" كثيراً في مشيتها، عن نوعية السيارة التي أوصلتها إلى باب الاعدادية، وقلت: "وَاشْ هَدِيكْ مَامَاكْ لِي جَابْتَكْ فَالفُونْطُومْ"، فلّما سمعت الكلمة الأخيرة ضحكت حتىّ برزت أسنانها، وقالت: "هَدِيكْ مَاسْمَيّتْهَاشْ الفُونْطُومْ، اسْمهَا المِيرْسِدِيسْ"، ولم أملك وسيلة لردّ الصاع لها غير السخرية من طريقتها العجيبة في الكلام وأنا أردد ما قالته، وصديقي يقول لي:"سْكَتْ عْلِينَا رَاكْ حَشّمْتنَا"، لما انتهت الحصة، وغادرنا زنزانة القسم صوب ساحة المؤسسة، لنلتقط شيئاً من هواء الحرية، نادتني تلك الفتاة أنا وصديقي، وقالت: "شُوفْ نْتَ، رَاهْ كُلْ وَاحَدْ و(le comportement) دْيَالُو"، فضحكنا على كيفية كلامها أولاً، وسخرنا من أنفسنا لأننا لم نعرف معنى تلك الكلمة الفرنسية ثانياً.
في هذه السّنة بالضبط، دخل المحظوظون اجتماعياً من زملاء قسمنا في حالةٍ من الهلع والهيستريا الجماعية، وكلّ هواجسهم تدور حول مستقبلهم الدراسي في المرحلة الثانوية، وما يتبعها من تعليم عالٍ، وما يترتب عليها من آفاق في سوق الشغل؛ لم نكن نفهم حينها هذا القلق المبالغ فيه، ولم نفكر مرّة في ما ينتظرنا نحن أبناء "المزاليط" في الأيام المقبلة، وما عزاؤنا إلا السّماء والثّقة في بارئها، ولسان حالنا يردد: "لِي فَلْمُكتابْ يَوّصْلَكْ".
صراحةً، لم أفكر لحدود تلك اللحظة في شيءٍ اسمه حلم متابعة الدراسة، واختيار طبيعة المهنة التي سأكون عليها لاحقاً، كما لم يكن لدى أسرتي أدنى فكرة عن ذلك، عدا أني أدرس كما يدرس الكثير من أبناء زُقاقي، وأذكر في هذا الموسم قصتي مع مدرسة مادة الرياضيات، والتي كثيراً ما كانت تحوّل درسها من درس في الجبر والهندسة إلى حديث عن ابنتها المدلّلة، وإنجازاتها "البطولية" في عالم القراءة والتحصيل المعرفي، حين سألتني رفقة صديقي "أيوب الرحماني" عن طبيعة المسلك الذي نودّ أن نتابع فيه دراستنا في المرحلة الثانوية، ولمّا أجبناها بصوتٍ خافتٍ خجولٍ ينّم عن عدم الثّقة في النّفس ورغبة في درء شرّها، قلنا: مسلك الآداب، ثمّ نصحتنا للتّو بأن نتوجه إلى "التكوين المهني" لأن الدراسة لا تليق بنّا، لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل بادرت إلى الإمساك بوجنة صديقي، وقرص لحمه، بطريقة سادية مقيتة، قائلة:"يَخْ"، ثم انصرفت تسأل بقية المتعلّمين.
من ذلك اليوم، كره رفيق طفولتي "أيوب" والملقّب ب"شيطانة" أستاذة المادة وإعدادية القدس، وسقط لأول مرّة في حياته، ثمّ تعاقب "رسوبه" إلى أن اضطر إلى تطليق الدراسة طلاقاً مُبيناً، أما عنّي فتدحرجت في بقية أسلاك التعليم إلى أن صرت مُدرّساً، وعلمت بعد احتكاكي أنّ عددا من رجالاته مجرّد "أرقام تأجيرية" ممسوخة، وظفتهم الدولة في قطاعها الإيديولوجي لممارسة العنف الرمزي، وإعادة إنتاج نفس النسق الاجتماعي، بل والمحافظة عليه، أما عن عقدتي من مادة الرياضيات ومدرسيها، ففُكّت حين احتككت بعديد منهم، ووجدت خيطاً ناظماً متمثلاً في كون أكثرهم مجرد "كائنات تمارينية" بارعة في حلّ المسائل المعقدة، لكن جوائح في ما يخص شؤون العمران، بالإضافة إلى دَيْدَنِهم في مراكمة المال عبر "ساعات الدعم" الخصوصية.

(13):
لم نشعر ولو مرّةً أن المدرسة مؤسسةٌ تنتمي إلينا، أو جهازٌ يهدف إلى تعليمنا، بقدر ما كنّا نكنّ لها العداء المبطّن، ولا نترك أي فرصة تتيح لنا الكيل بمكيالين إلا ونبادر إليها، فتخريب مرافقها في أيّام الدراسة، أو رشق نوافذها في العطل الصيفية، كانت إحدى هوايات بعض تلاميذ الأحياء الشعبية المفضلة، كانت شراسة بعض هؤلاء تعود أيضاً لطبيعة الهوايات الرياضية التي كانوا يمارسونها، والتي هي في جوهرها ميّالة إلى القوة والعنف؛ إذ لا تسمع من أسماء الرياضات سوى "الكيك-بوكسينغ" ،"الفول-كونتاكت"، "البوكس"، "الكونغ فو"، "تايكواندو"، "الكراطي" وغيرها من فنون قتال الشوارع.
وكثيرة هي الشخصيات الرياضية التي تأثرنا بها منذ الصغر عبر أفلام التلفزة المغربية، أو الأخبار التي كان يزودنا بها أبناء الحارة الكبار حين يذهبون لمشاهدتها في سينما "النصر" أو "الفوكس"...، ومن ضمن هؤلاء الأبطال الذين كنّا نحبّ محاكاة فنونهم القتالية: الصيني البارع "بروس لي" وبعده "جيت لي" و "جاكي شان"، ثم الأمريكي "تشاك نوريس" والبلجيكي "فان دام".
حُلمنا البسيط هذا دفعنا مراراً إلى زيارة بعض قاعات الألعاب الرياضية القريبة من حيّنا الشعبي، وكنّا نندهش بصور هؤلاء الأبطال العالميين وهي معلقة على جدران القاعة، كما كنّا مذهولين بالحزام الأسود الذي يرتديه المدرب، وطبيعة الحركات التي يأمر الصغار الذين هم في نفس أعمارنا باتباعها.
كم كان حقدنا يزداد لهؤلاء المحظوظين الذين استطاعت عائلاتهم أن تلحقهم بالفضاءات الرياضية، كما كنّا أشد الكره لمالكيها حيث كانوا يحرموننا في كثير من المرات متابعة الحصص الرياضية؛ وأذكر قصة طريفة أخرج سيناريو حلقتها شرذمة من صعاليك الحيّ، حيث اتفقوا على الانتقام من تسلّط صاحب قاعة "التكواندو" الواقعة في قبو "مقهى النخيل"، ورموا المفرقعات(لَمْحَارَقْ) في السلالم المؤدية إلى الفضاء، ثم لاذوا بالفرار.
حبّنا لفنون القتال دفع بعضنا إلى تدبير الأزمة المالية التي كانت عائقاً أمام ارتياد مثل هذه الأماكن، والانخراط في قاعاتها الرياضية، وكان الواحد منّا يذهب معية رفيقه المحظوظ لتشجيعه ومساندته خاصة في تلك الحصص التي تجرى فيها المبارزات بين الصغار، هذه العصبية القبلية التي كان يحظى بها أصدقاؤنا في القاعة، انعكست على نفسيتهم وزادت من منسوب الثقة لديهم، لدرجة كانوا شرسين في اللّكم والضرب حين يُشتمّ في مُصارعهم رائحة "ولاد لفشوش".
عشق هذا النوع من الرياضة تماهى وأحلام المعذبين في الأرض، إذ كيف لمن علمتهم الحياة القسوة والحرمان، أن يزاولوا تلك الهوايات الرياضية التي رأوها في أندية حديقة "لالة عائشة" أو أن يحبّوها حتّى، أبصروا من وراء جدران تعلوها شبابيك حديدية طويلةٌ لُعبةً غريبة، تُدعى "كرة المضرب"، وأبصروا عن بُعد رياضة "الفروسية"، كما شاهدوا لأول مرّة مسبحاً مغطّىً.

*****





(14):
لم يكن حال الأغلبية التي حُرمت من الالتحاق بقاعات الرياضة المؤدّى عنها أقلّ مهارة في فنون القتال من رفاقهم الذين ابتسم لهم الحظ، بل كانوا على درجة كبيرة من الشّراسة و القساوة الكبيرتين؛ إذ خبروا فنون الكرّ والفرّ وساحات الوغى من كثرة المعارك التي خاضوها ضد الأحياء الشعبية المجاورة حين كانوا يغيرون عليها، أو في معاركهم مع أزقّة نفس حيهم الشعبي الكبير.
كان الحَجر وسيلتهم في القتال والاقتتال عن بُعد، كما كان نطح الخصم في المبارزات الفردية أهم آلية يستعرض بها المُصارع قدراته الحربية، أما من يستخدم الأسلحة البيضاء في النّزال، فتنزع عنه مباشرة صفة الرجولة، وهكذا نزفت أجسادهم دماء، ووشمت عليها آثار المعارك، فلا تجد موضع شبرٍ إلا وفيه بقايا ضربٍ أو جُرحٍ أو كسرٍ، فلا نامت أعين الجبناء.
ازدادت حدّة المعارك في دربنا الضيّق الطويل يوم انتهي من طلاء أرضيته باللّون الأسود، ووضع أعمدة كهربائية لإنارته، وشهدت الحارة حروباً طاحنة بين الصغار الذين كانوا يطردون أبناء الدروب المجاورة، التي كانت تأتي لتستمتع باللّعب في البساط الجديد، بدخول هذين الضيفين الجديدين تغيّرت أشياء كثيرة في الحيّ، وظهرت مستجدات لم تكن تخطر على بالٍ، فلعبتنا المفضلة كرة القدم، بدأ وقتها يزحف شيئأ فشيئاً نحو اللّيل، وبدأت تعوض بعض الألعاب ك: "غموضة" أو "دينفري" التي كانت تعتمد على ضوء القمر فقط من جهة، كما فسحت المجال للعب أخرى ك: "الكارطة" و"سبع حجيرات" و"ربع قنوت" و"الضامة" من جهة أخرى، أما عن الفتيات فكانت طالع خيرٍ لهن، وأمدت من فترة مكوثهن في الحي، وممارسة هواياتهن المفضلة ك "لباط" و"شريطة" و"لمحاجيات" وغيرها من الألعاب المسالمة.
كان لتزفيت الدّرب عامل قوي في إدامة السّهر باللّيل، ونذير شؤم للمسنين خاصة؛ حيث لم تألف هذه الفئة التي تبرمجت لعقود مع الطبيعة، وضبطت ميقات النوم وفقها، أصبحت تضطر إلى تحمل الحركة وصخب الألعاب ليلاً، ولا وسيلة لها إلا إمطار الصّبية بوابلٍ من اللّعنات وأدعية الشّرّ وصبّ دلاء الماء عليهم.
لقد افتقد "فلاج الفگيگ" منذ تزفيته، وإحداث مجاري الصرف الصحي في باطن أرضه، أهم مَعْلمٍ كان يميزه وهي آثار "ساقية سيدي يحيى"، لدرجة أن اسم الحي اقترن في الذاكرة الجمعية بنقيق ضفادعها ليلاً، ونُعت ب "فلاج لقراقر". كانت هذه القناة المائية المسماة بالساقية، تعبر حينّا صوب "فلاج المقسم" ثم تشق الطريق بعدها إلى جنان المدينة القديمة.
ومن العجائب أن شكل الساقية من حيث العرض والطول أشبه بدربنا الضيّق الطويل، حتّى يخيل للمرء أن بارئ الحي حاكى هذا الممر المائي، وهندسه وفقها وعلى مقاسها، كما شكّلت القناة مصدر بهجة للصغار فصل الصيف، حين اشتداد وهج الشمس وارتفاع قيظ الحرّ، وأجسامهم حينئذ تتنعّم بمياه واحات سيدي يحيى الباردة، معوّضة بذلك شواطئ ومسابح أثرياء المدينة.

*****




(15):
لولا سواقي مياه سيدي يحيى الباردة، ما كانت لحزم البساتين أن تطوق مدينة وجدة، وتغمرها بظلالها الوارفة، وتجعل منها جنة فوق الأرض، كانت الساقية أهم شريان يزود أهل الفلاحة والزراعة بالماء الذي يضخ الحياة في جذور وأغصان الأشجار المثمرة من تينٍ وزيتونٍ ورمّانٍ، محترمة في ذلك نظام سقي عادلٍ تقسّم بموجبه هذه النّعمة إلى عددٍ قارٍ من القسمات تسمى الأرباع.
لهذه الساقية المتدفقة سرٌّ متحته من "بركة" وليّها الصالح "سيدي يحيى بنيونس"، الواقع مكانه شرق المدينة، وعلى قُربٍ من الحدود المغربية-الجزائرية، لكأنّه حارس المدينة واحميها، حظي الولي الصالح بمكانة كبيرة في الذاكرة الجمعية الوجدية، إذ رغم اختلاف السّاكنة في مسألة تحديد هويته الدينية، إلا أنه بقي محط احترامٍ وتبجيلٍ بين كل من اليهود والنصارى والمسلمين.
نُسبت لسيدي يحيى بنويس العديد من الكرامات على شاكلة الكثير من أولياء بلاد المغرب كما ورد في المادة المناقبية، وشكّل مزاره مؤسسة حقيقية تقصدها الساكنة كل يوم خميسٍ وجمعةٍ، حيث أنيطت به وظائف علاجية واجتماعية وحتّى سياحية.
يحمل مرقد "سيدي يحيى" دلالة رمزية على مستواه المجالي، فكونه غير موجود داخل أسوار المدينة القديمة كما هو حال عدد من الأضرحة هناك، معناه اختيار إرادي ل "منفى" مُقامه؛ فالهامشي دائماً هو رمز للتمرد عن المركز والسلطان القائم فيه، ثم يفيد الخلوة والتعبد، بحيث لا يمكن لولي أن ينقطع للعبادة والزهد إلا في أماكن تبعد عن العوام، إضافة إلى قرب لَحْدِهِ من الجبال والتّلال كمرتفعات تؤشر على الرفعة والسمو، طبعاً دون نسيان نسبة عيون المياه المتدفقة لبركته.
رمزيةُ المجال عامةً لا تقلّ رمزيةً عن دلالات معمار الضريح وتصميمه، فكلّ الأماكن الأرضية لا تستمد قداستها إلا بكونها ذات علاقة معينة بالسّماء، هذا "الشاهد المعماري" على وجود المقدس في الأرض، يتبدّى للعين عن بُعدٍ من خلال رؤية قبته الهرمية الخضراء المتّجهة صوب السماء، كما تتدلّى داخلها ثريا كبيرة تزينها أنوار مصابيح خافتة، تزيد الفضاء بهاءً وسكوناً، أما عن التابوت المرتفع عن الأرض والمكسو بالغطاء الأخضر، فيحمل من المعاني ما لها دلالتها في المنظور الإسلامي من حيث ارتباطها بالنّعيم الذي يحظى به أهل الجنة ولباس نازليها، كما رُصّعت جنبات الضريح بآيات قرآنية مكتوبة بخط عربي بديعٍ، على جُدرانٍ مطلية بجبسٍ مغربي- أندلسي أصيلٍ.

****









(16):
وجدة هبة "سيدي يحيى" بامتياز، فلولا الوَجْدُ لما كان على هذا الثّرى ما يستحق الحياة، فضريح وليّها خزّان أرضي للقداسة السّماوية، وسواقيه شريانات تمدّ الحاضرة بماءٍ زُلالٍ يُبقي النّاس على قيد الحياة.
على جنباتِ الوليّ شيّدت الخيام، وإليه شُدّت الرّحال، وعلى ضفاف مجاريه غُزلت الأصواف، وفي بِركه المائية سبح الصّغار، وفي مرقده حُجاجٌ على محياهم حسنُ الطّويّة وصفاء السّريرة.
يوم الجمعة الرامز للطهارة في المدونة الدينية، هو يوم زيارة "سيدي يحيى" المعروف ب"مول القبة الخضرا"، أحد سادة البلاد ورجالاته، تقصده الساكنة بعد صلاة العصر، حاملة معها قراطيس شمعٍ تضعها على جوانب تابوته وهي تطوف سبع دورات كاملةٍ، مع الدّعاء والتبتّل لله، مستوحية طواف مكة، ومنشئة بذلك حجّاً للدراويش.
أحاطت بضريح الولي بعض الأحياء الشعبية التي قست عليها ظروف الحياة في عالم البادية، واضطرت إلى ترك أراضيها اليباب، والنّزوح إلى مدينة بدأت تفقد ملامحها بالتدريج أمام الزّحف الإسمنتي المسلّح، أمام هذا اليُتم المجالي الفارغ من دفء العلاقات الاجتماعية، اختارت هذه الساكنة الاعتصام بحمى الضريح وصاحبه، وشيّدت دُوراً بالقرب منه، متخذة الفضاء وبعده السوق الأسبوعي الموجود بعين المكان ملاذاً للعمل. كان هذا السوق المسمى بسيدي يحيى نسبة إلى الولي الذي لا يبعد عنه كثيرا، أهم سوق أسبوعي بمدينة وجدة، تقصده الساكنة عشية كل خميسٍ وصباح كل جمعة، نظراً لقوة العرض وارتفاع الطلب فيه، هو سوق مزدوج البنية، تقصده النخبة وعلية القوم مساء يوم الخميس، وبقية العوام يوم الجمعة.
تبضّع الخاصة معروف لدى كل طفلٍ من أبناء الحارة سواء ذاك الذي ذهب رفقة أهله بهدف المساعدة وحمل أكياس الخُضرة، أو ذاك الذي اتخذ من الفضاء مكاناً للعمل الأسبوعي، حتّى يدرّ على نفسه بعض الدريهمات. كانت على وجوه علية النّاس سيماء الرّغد والدّعة، وعليها يتمّ التقاتل بين الصغار والكبار حتّى تشترى منهم الأكياس البلاستيكية أو يؤذن لهم بحمل بضائعهم في عربات مهترئة صدئة، أما التّجار فكانوا أشد غبطة يوم الخميس، وهم يستقبلون هذه الفئة التي لا تجيد فنون "الشّطارة"، بينما تسوّق عوام المدينة يبدأ بكور يوم الجمعة، إلى ما بعد صلاة الظهر، طريقة هذه الفئة في الشّراء تختلف عن الأولى من حيث الكم والكيف، فمن خصائصها تمشيط السوق بأكمله، وأخذ صورة بانورامية عن طبيعة الأثمنة والمواد المعروضة للبيع، ثم تأتي بعد ذلك عملية الأخذ والردّ مع أصحاب البضائع. كم كنتُ أكره سوق يوم الجمعة مع الأهل، فإضافة إلى كلل الأيدي من فرط ما تحمله من محمولات ثقيلة، كثرة التجول في فضاءات السوق والبحث عن أبخس الأثمنة، مع قوة اللّجاج أمام التجار.
كانت مرحلة مغادرة هذا الفضاء أجمل فترة يذكرها كلّ صبي من صبيان الحيّ، إذ يتم بعد انتهاء عملية التبضع امتطاء عربات "رباعية الدفع"، المكشوفة السقف، تجرها حيوانات ضامرة، مقابل درهم ونصف للشخص، تجلس النّساء على جنباتها، وهن يستنشقن الهواء العليل، ويطلقن لأبصارهن العنان، وكل حديثهن عن أثمنة منتوجات السوق، وغلاء "معيشة المسكين".

****


(17):
مِهمازُ صاحب العربة وطريقة قيادته للدّابة، تذكرني بعربة حيّنا الأنيقة، التي تجرها بغلة عمي "محند أميمون" المشاكسة، كنّا دائماً ننتظر قدوم صديقنا "هشام المعكوز" من الأسواق الأسبوعية، حتّى نساعده رفقة أبيه في إنزال بعض صناديق الخُضرة وأحزمة التّبن وكل ما يصلح طعاماً للماشية، وبعد أن ينال وجبته من الغذاء، وتستريح بغلته من وعْث الطريق، نبدأ مسلسل السّياحة في الأرض، وجَوب بعض الأماكن البعيدة عن الحارة.
كان التّنافس على أشدّه بين الصّغار حول من يجلس معية "هشام" ويمسك بعِقال الدّابة، لأن فعلاً كهذا يبعث لوحده النّشوة والفرح، كما أن مكان القيادة المرتفع يتيح للسّائق نظرة واسعة تجعله أكثر قدرة على التّحكم وضبط حركات "البغلة"، فرحة القيادة لا تكتمل إلا حين يحفّز السّائق الحيوان على الرّكض والزّيادة في السّرعة، ولا وسيلة له إلاّ الضّرب بالسّياط، خاصة وأن البغلة مشهود لها بالعناد، وما أن تتلقى الضّربات تباعاً حتّى تشمّر عن سواعدها، وتطلق ما في مُكنتها من جُهدٍ وقُدرةٍ على الجري، ونحن حينها نردّد: "أرّى، أرّى،أرّى، إيّا كابايو، إيّا كابايو، إيّا كابايو".
سعادتنا تزداد لمّا يسشيط "هشام" بغلته، و يجلعها ترفس في الهواء الطلق، ظانّةً أنّها تصيب الواحد منّا، ولا حيلة بعدها للمسكينة من شطط هؤلاء الصبية المجرمين إلاّ إغراقهم في وابلٍ من قذائف الضّراط المُنتن.
كانت عربة "المعكوز" تعادل عندنا سيّارات "ولاد الفشوش"، إذ بفضلها تعرّفنا على أحياء "لازاري"، "زنكوط"، "فلاج بوعرفة"، "فلاج بلمراح"، "فلاج المساكين"، "بوقنادل"، "درب السّايح"، وغيرها من أحياء مدينة وجدة القديمة، وعلى متن العربة كنّا نمارس بعض هواياتنا الأثيرة، من قبيل استغلال علوها في امتطاء بعض جدران "الفيلات" الراقية، وسرقة ما لذّ وطاب من أنواع فواكهها المتدلية من عروش الأشجار.
تختزن ذاكرة أبناء الحارة الكثير من القصص عن "فيلات" المنعّمين في الأرض، ورسمت العديد من الصور عن أشكال الأثاث ونوعية الأجهزة وطبيعة العلاقات بين أفراد تلك الأسر، وما كان يزيد الأمر حيرة ودهشة حينها هو شساعة المسكن وقلّة أعضائه، إذ لا يزيد عدد سكّانه على أربعة أو خمسة أفراد على أقصى تقدير، عكس بيوت زُقاقنا الأشبه بلَحْدِ القبور، كانت منازل الحيّ مهترئة على محياها آثار جلد الزّمان وقسوة تقلباته، أما تجاعيد وجهها فهي لا تختلف في شيء عن أصاحبها، الذين من الفاقة المفرطة و ذات اليد الضيقة، حافظوا على ثقافة امتداد الأسرة واحتموا بها.
ما كان لبقائهم أن يستمر في عالم المدينة لولا قيم القناعة والزهد والبركة، وما كان للخير أن يفتح أبوابه لولا قاعدة: "لِي يَاكْلَه وَاحَدْ، يَاكْلُوهْ جُوجْ". هذه القيم شدّت من عُرى العلاقات الاجتماعية، وضخّت في روابطها القوة، وزادت في عروقها الصّلابة والمقاومة.
كان وسطنا رغم فقره "وسطاً تراحميّاً"، ومنازل الجيران أبوابها مفتوحة طوال اليوم، يمكنك ولوجها دون استئذان، أما في حالة عدم وجود الأهل بغرض تلبية حاجة من حاجات العيش وتدبير شؤون المنزل، فما على الصبية إلا الاتجاه إلى المساكن المجاورة، وسدّ رمقِ جوعهم.
هذه الأبواب المفتوحة، وهذا التراحم الموجود في الحارة، لم نكن نراه في أحياء المحظوظين اجتماعيا ممن كانوا يدرسون معنا؛ إذ رغم آيات النّعيم البارزة عليهم، وبحبوحة العيش الظاهرة في تصرفاتهم، كانت منازلهم كأنها "سجن" كبير مُحكم بقوة قضبانه الحديدية، و"كاميرات" مراقبته الحاصية لكل صغيرة وكبيرة، بالإضافة إلى الحرّاس الخاصين.
***


(18):
ما الأفراح والأقراح، وما الولائم والوضائم، إلاّ مُناسبات اجتماعية تظهر فيها قوة الرابط الجمعي، وقيمة التضامن الجماعي، كان الواحد منّا يشعر في مثل هذه الأحداث التي تخلق حالة الطوارئ في الحيّ، أنه جزء من ذلك الحدث؛ فيضحك لفرحهم، وينحب لمُصابهم، أمّا الأبواب فهي غير موصدة، ولا تنتظر تقديم دعوات استضافة حتّى يلبّى الطلب.
كانت مهمة الصّغار في مثل هذه المناسبات هو تقديم العون والمساعدة، إمّا عبر تلبية بعض الحاجات الضرورية من دكاكين الحي القريبة، أو تنظيم طاولات وكراسي الضيوف، أو حتّى حراسة المنزل من تسلّلات بعض الأطفال الغرباء عن زُقاقنا الكبير، لم يكن تقديم هذه الخدمات بالمجان، إذ كان هناك شبه تعاقد مضمر نبرمه مع الكبار، ومع منزل الحدث خاصة، مقابل الظّفر بشيءٍ من اللّحم اللّذيذ، المرفوق بكؤوس المشروبات الغازية، وفي بعض المرّات نكافأ بدريهمات معدودة.
يفتح لنا "المال" آفاقاً كبيرة حين يملأ الجيب، إذ سُرعان ما تتداعى إلى الذّهن خططٌ عديدة، ورؤى كثيرة، يترجمها العقل بعد نسج خيوطها إلى مشاريع واقعية، لم نجد وقتها ألعاباً مُبهرةً شدهت أبصارنا، وخلبت ألبابنا، غير أجهزة عمي"الگلعي" الإلكترونية، كان هذا الرجل الأمازيغي ذو الأصول "الناظورية" أول من دشّن تجربة فتح قاعات لمثل هذه الألعاب التي جلبها من مدينة "مليلية" المحتلة، كان صاحب المشروع يقطن في حيّ جديدٍ ملتصقٍ بجوار زُقاقنا الشعبي العتيق، اتخذ عمي "الگلعي"من "گراج" منزله قاعة للألعاب الإلكترونية، حيث يوجد أمام كل تلفاز صغير أداة عجيبة تسمّى (PlayStation)، شَكْل هذه الآلة عبارة عن قطعة بلاستيكية سميكة، ذات هيئة هندسية مربّعةٍ، يُضغظ على أحد أزرارها، فيفتح باب دائري، وسطه عدسة صغيرة، توضع عليها أقراص مدمجة.
قانون اللّعب عند عمي "الگلعي" صارمٌ جداً، وشبيهٌ بشخصيته العنيفة ووجهه العبوس، فهو لا يسمح بالدخول للقاعة إلاّ للأشخاص الذين يودون اللّعب فعلاً، وفي بعض المرّات يختبر صدق الواحد بطلب إبراز النقود حتّى يؤذن له، أما من يريد المشاهدة من خارج الفضاء، فسرعان ما تناله لعنات صاحب المشروع.
كان لعمي "الگلعي" حسّ تجاري واستثماري عميقين، فهو من القلائل الذين فكّروا آنذاك في هندسة مشروع يستهدف فئة الأطفال، ولا دليل على ذلك إلا عدد الزوار الذين كانوا يأتونه من كلّ حدب وصوب، أمام ندرة هذه الألعاب الإلكترونية في مدينة وجدة، و أثمنة آلاتها الباهضة، استغل "الگلعي" الوضع جيداً و راكم ثروة لا بأس بها.
قانون اللّعبة يبدأ بتحديد المدة الزمنية أولاً، ثمّ حصر عدد اللاّعبين ثانياً؛ فبالنسبة للاختيار الأول مرهون بطبيعة المبلغ المادي الذي ضبط تسعيرته عمي "الگلعي" ضبطاً، أما العامل الثاني فمشروط بالأول؛ بحيث إذا ما كان اللّعب ثنائياً تكون التكلفة المالية أكثر، وهكذا، إذا اختار الواحد اللّعب بمفرده لمدة نصف ساعة، فمن الواجب عليه تأدية ثلاثة دراهم ونصف(سبعين دورو)، وفي حالة اللّعب الثنائي يصير المبلغ أربعة دراهم ونصف(تسعين دورو)، أما إذا كانت المدة الزمنية ساعة من الوقت، فيكون المبلغ سبعة دراهم للفرد، و ثامنية دراهم إذا ما اشترك طرفان.
ضاعف "المال" من حدة الاحتقان اتجاه عمي "الگلعي"، إذ كنّا ندرك أن وسيلته تلك طريقة غير مُباشرة في طرد أبناء الكادحين، ودرئهم في إشباع نزوات ورغبات أنفسهم البسيطة، فذلك المبلغ المؤدى حينها كان يبدو ضخماً، ولا يتيسّر لنا امتلاكه إلا في الأعياد أو المناسبات، لذلك كثيرة هي المحاولات التي كنّا نضطر فيها إلى جمع النقود الفضية منها والصفراء طوال الأسبوع، حتّى نُمتع أنفسنا لمدة نصف ساعة، وأيدينا تمسك ذراع التحكم لتوجه حركات لاعبي كرة القدم الإلكترونية.

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر


.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته




.. بشرى من مهرجان مالمو للسينما العربية بعد تكريم خيري بشارة: ع


.. عوام في بحر الكلام | الشاعر جمال بخيت - الإثنين 22 أبريل 202




.. عوام في بحر الكلام - لقاء مع ليالي ابنة الشاعر الغنائي محمد