الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصيدة التحرر في ديوان زغاريد السجون رائد صلاح

رائد الحواري

2020 / 9 / 4
أوراق كتبت في وعن السجن


الواقع يفرض ذاته على الشاعر/الكاتب، مهما حاول (التحرر/نسيانه/تجاهله)، وبما أن الشاعر "رائد صلاح" كتب الديوان في السجن، فبالتأكيد سنجد أثر السجن عليه، وهذا ظاهر في عنوان الديوان "زغاريد السجون" والذي يوحي إلى حالة تناقض، فهل للسجون زغاريد؟.
الشاعر الأسير يحتاج إلى شيء يخرجه من واقع الاسر، لهذا يلجأ إلى استخدام أفكار تحررية، وهذا الامر وجدناه عند العديد من الشاعر الذين تعرضوا للاعتقال، فعلى سبيل المثل، قصيدة "يا ظلام السجن خيم" للشاعر نجيب الريس، أحدى القصائد التي تشير أن الشعراء، لم يكن ليقف السجن حائلا أمام قصائدهم التحررية، والشاعر "رائد صلاح" أصبح السجن (مكانة) شبة الدائم، فما أن يخرج من السجن حتى يُعاد إليه، فالديوان يعد شاهد آخر على استمرار تحدي الشعراء للسجان وللسجن.
واللافت في الديوان حضور الأسرة بصورة جلية، وهذا مؤشر على أن القصائد كتبت بمشاعر صادقة، ولم تكتب من باب (التوجيه) العقائدي/الأيديولوجي، وهذا الصدق والحميمة التي تجمع الشاعر بالقصيدة نجدها في البياض المقرون بذكر الأسرة، يقول في قصيدة "إلى أمي وإلى أم كل سجين":
"ما زلت كطفل في المهد اشتاق لعطفك يا أمي
أشتاق لعطفك يا روحي يا نور حياتي يا دمي
يا نبض فؤادي، يا عيني يا دفئا يسري في عظمي
أشتاق لخبزك فواحا وشهي الصورة والطعم
والكعكة طابون نقشت بالقزحة في أبهى رسم
ولزيت الزيتون الجاري من بين يديكم في فمي
ولصحن الزعتر يجمعنا في لحظة أكل كالحلم" ص51.
الجميل في هذا المقطع التماثل بين فكرة العاطفة والألفاظ البيضاء، فالمقطع مطلق البياض، خال من الألفاظ السوداء، إذا ما استثنينا: "دمي، عظمي" وهذا يؤكد على أن القصيدة لا يكتبها الشاعر بل هي التي تُكتبه، وهذا يأخذنا إلى العقل الباطن، إلى الحالة التي كُتب بها القصيدة، فهناك عقلية الطفل والتي نجدها في "طفلا، أشتاق (مكررة ثلاث مرات)، يا/روحي/نور/نبض/دفئا/عيني" فالحميمة التي تجمعه بأمه، منحته هذا الدفء في الألفاظ.
وإذا ما توقفنا عند صيغة النداء "يا" والتي اقرنت بألفاظ بيضاء: "أمي، روحي، نور، نبض، عيني، دفئا" سنجد أن عقلية الطفل هي من استحضرت ما سمعته من الأم، واستحضرت الحالة التي كان (الطفل) يرددها على مسامعها، فألفاظ الحب المتبادلة بينهما، مؤشر على تنامي وازدهار الحب وبقاؤه حاضرا في وجدان الشاعر.
وتأكيدا على أن القصيدة كتبت من خلال ذهنية (الطفل) وجود ألفاظ قاسية "دمي، عظمي"، بمعنى أن عقلية (الطفل) البسيطة لم تمنح/تجعله (يفكر/يتوقف) مدققا بالألفاظ التي يستخدمها، فجاءت "دمي، عظمي" (الشاذين) ضمن سياق ناعم وهادئ.
ومن المؤشرات على ذهنية (الطفل) حضور فترة الفطور في الصباح "خبزك، الطابون، والكعكة، لزيت الزيتون، الزعتر" فالطفل يرى أن هذا الطعام ـ رغم بساطته ـ يعد (وليمة) وأشهى من أي طعام آخر، ليس لأنه بسيط، بل لأن أمه من اعدته من ألفه إلى ياءه.
وبما أنه تم اعداده بواسطة الأم، وفي وقت الصباح/بداية يوم جيد، فهذا يعني أن هناك ألفة أسرة، والأم تبث حنانها على الجميع، وتعد طعاما شهيا، وفي وقت جميل، وبهذا تكتمل/تجتمع النواحي المادية/الطعام مع الحالة الأسرية/الاجتماعية، وفي وقت هادي/الصباح، وفي مكان حميم/البيت، كل هذا يأخذنا إلى أن القصيدة كتبت من خلال (عقلية) الطفل، وليس من خلال عقلية الشباب/النضوج، وهذا يأخذنا إلى أن "رائد صلاح" تحرر من السجن والسجان، واستعاد أجمل مراحل العمر "الطفولة، فكتب هذه القصيدة، بهذه الألفاظ الناعمة السهلة.
الأيمان، العقيدة، الأيديولوجيا كلها تؤثر على الشاعر، وبما أن الشاعر "رائد صلاح" يحمل فكرا دينيا، فأن هذا الفكر حاضرا في الديوان، إن كان من خلال القصائد (مباشرة) كما هو الحال في قصيدة "يا رب...يا الله" التي يفتتحها:
"إذا ضاقت بك الدنيا فناد حسبي الله
إذا قيدت في السجن، إذا عانيت بلواه
إذا حوصرت محزونا وليل الحزن تحياه
إذا طوردت وجمر الظلم تصلاه
إذا شردت مكلوما، فنادي ربي الله" ص71.
فاتحة القصيدة جاءت بصورة توجيه وارشاد تدعو إلى ضرورة أن يتوجه الإنسان إلى الله ذا ما ضاقت عليه الدنيا، ورغم هذه (المباشرة)، إلا أن العقل الباطن للشاعر جعله يستخدم "الهاء" الموجودة في لفظ الجلالة "الله" في بقية المقطع، فكان "بلواه، تحياه، تصلاه" وكأن هاء الله استمرت حاضره في المقطع وفاعلة ولم تتوقف، وهذا ينسجم مع الفكرة، سرمدية حضور الله.
وهناك تكامل بين اللجوء إلى الله كفكرة/كحالة (طبيعية) للإنسان الذي يقع في شدة/أزمة، وبين اللجوء إلى الله من خلال ألفاظ القصيدة، فالشدة التي نجدها في: "ضاقت، قيدت، السجن، عانيت، حوصرت، محزونا، الحزن، طوردت، جمر، الظلم" تطهرت أيضا من خلال الفاظ "الله (مكررة)، بلواه، تحياه، تصلاه" فالهاء التي تلفظ "آه" الألم، تنسجم مع فكرة/حالة الألم التي تكمن في الألفاظ، وبهذا تصل فكرة اللجوء إلى الله والاستعانة به من خلال التوجيه (المباشر)، ومن خلال معنى الألفاظ المستخدمة، ومن خلال القافية "هاء" الألم.
لكن الشاعر في قصيدة "مولاي ربي" يأخذنا إل حالة صوفية، حيث يتجه بكله إلى الله، حتى بدا وكأنه يتوحد مع الله:
"مولاي ربي، يا إلهي مولاي ربي قم بجاهي
مولاي فرج كل طربي فأنا غريق في الدواهي
مولاي يسر كل عسري أنت المليك وأنت ناهي
مولاي أحفظ سير قلبي لله لا عبد الملاهي
مولاي انصر ضعف حال أنت القوي وحالي واهي" ص39.
في هذا المقطع نجد التكامل بين المعنى/الفكرة المطروحة، وبين الألفاظ المجردة ـ حتى إذا ما (تجاهلنا) فكرة القصيدة، وانتقلنا إلى الألفاظ سنجدها توصلنا إلى الفكرة أيضا،ـ بادية الأبيات تبدأ " ب"مولاي" والتي تظهر فيها ياء المتكلم، وأيضا تعني ياء (التملك)، بمعنى أن الله هو مولاي/ملكي أنا، خاص بي دون غيري، وهذا اللفظ "مولاي" يشير إلى التوحد والتماهي بين الشاعر والله.
وإذا ما ذهبنا إلى القافية سنجدها كالتالي: "بجاهي، الدواهي، ناهي، الملاهي، واهي"، فحرف الهاء وهو آخر حرف في لفظ الجلالة "الله" وهذا يعني أن هذه الألفاظ تحمل/تشير إلى تقرب الشاعر من الله والالتجاء إليه وتواصله معه، وبما أنه أقرن هاء الله بياء المتكلم، فأن هذا يوصلنا إلى فكرة الرغبة بالتوحد بالله والحلول فيه، فالألفاظ المجردة تشير إلى الفكرة/المعنى، ويمكن للمتلقي أن يصل إليها من خلال إيقاع الألفاظ فقط.
من هنا أقول : أن الديوان يبدو للوهلة الأولى أنه (مباشر)، متأثرا بحالة الأسر والسجن وبما فيها من جداران وسجانين، لكن خروج الشاعر بهذه القصائد، والتي تتوحد فيها الفكرة مع الألفاظ ومع الحرف، تؤكد على أن "رائد صلاح" تحرر من السجن، وتجاوز الجداران، فقدم هذا الديوان الذي يحمل في جوفه أهم وأعمق مما يظهر على سطحه.
إذا ما توقفنا عن حالة كتابة القصائد، متأملين/متفكرين فيها وفي الألفاظ ، سنجد أن الشاعر لا يكتب القصائد، بل هي التي تكتبه، بمعنى أنه تحرر كليا من مكان الاعتقال، وهو الآن في عالم/مكان طبيعي وجميل، لهذا نتج هذه الباقة من الورود.
الديوان من منشورات مؤسسة الأسوار، عكا، طبعة 2006.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قيس سعيّد يرفض التدخلات الخارجية ومحاولات توطين المهاجرين في


.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة – برنامج الأغذية العالمي يحذر من مجا




.. نشرة إيجاز – برنامج الأغذية العالمي يحذر من مجاعة محتومة في


.. العراق يرجئ مشروع قانون يفرض عقوبة الإعدام أو المؤبد على الع




.. رئيسة -أطباء السودان لحقوق الإنسان-: 80% من مشافي السودان دم