الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إبراهيم الخياط كمثقف عضوي

عقيل الناصري

2020 / 9 / 4
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عاشت الانتلجينسيا العراقية منذ أن خطت سنوات فتوتها، بخاصة بعد تأسيس الدولة العراقية في العام 1921، في صراع مستديم مع واقعها ومحيطها الاجتماعي من جهة ؛ ومع ذاتها الطامحة إلى تغير ذلك الواقع من جهة ثانية. تجسد في صراع حول الافق لشكل الدولة السياسي ونظامها الاقتصادي، تجسدت مادياً في جملة من الصراعات الاجتصادية والسياسية والفكرية والاثنية. إذ ترتب على هذا الصراع عواقب جمة صاغت من الكثير منهم ما يمكن أن نطلق عليهم (مثقفيين عضويين)، ربطوا بين مهماتهم الحياتية السياسية والفكرية وغائية التغيير التي نظروا إليها كصيرورة اجتماعية سياسية، وبالتالي وسموا الثقافة العامة بطابعها الاجتماعي ذو المنحى اليساري وبنزعته التقدمية، تبلورت بكل ابعادها في تجليات الوعي الاجتماعي: الجمالية والحقوقية والفلسفية والسياسية والدينية. هذا النزوع يمكن رصده في مختلف مراحل التطور التاريخي لسيرورة الظاهرة العراقية المعاصرة.
ويمكننا رصد قرينة أخرى ارتبطت بهذه الصيرورة، مفادها أن كل عقد زمني قد أفرز مجموعة انجزت بعض من مهامها، وربما الكثير منها ما أمكن، وبعضها الآخر كان ذا منزع استعجالي يحاول مصارعة الواقع بأدوات تغييرية غير متلائمة مع ذات المهام، كما لو أنهم يصارعون السماء بأيديهم العارية، ويحفزهم إلى ذلك ايمانهم بعدالة غائية التغيير وضروراته لواقع دينامكية التطور المرغوب وأهميته. وثالثة القرائن التي يمكن رصدها هنا.. أن الكثير من هؤلاء دعاة التغيير الاجتماعي قد نذروا أنفسهم لهذه الغائية التي هي بمعاييرالاخلاق فكرة سامية، وبالجمال ايثار سيمفوني وبالسياسة غائية نبيلة، وبالتطور ضرورة موضوعية.
ومن السمات التي تميز الجيل الاول من سياسي المعارضة الوطنية بفصائلها الثلاث: الوطني الديمقراطي التقدمي بشقيه: اليساري ( الحركة الشيوعية) ؛ والمعتدل (كالحزب الوطني الديمقراطي وجماعة الرابطة- عبد الفتاح إبراهيم وصحبه) ؛ والتيار القومي.. حيث اغلب قادته الأرأسيون دخلوا العمل السياسي من خلال الصحافة والنشاطات الفكرية.. لان المنبت والتنشئة الاجتماعية ومستوى التعليم العام .. سوف لا تضعهم كذات في مصاف عوائل القوى التقليدية والثرية. هذه الظروف دفعت بابناء الطبقة الوسطى النامية الى الارتقاء الاجتماعي من خلال الفكر وليس الانتماء الاجتماعي والطبقي، ما عدا قلة قليلة، حيث تلعب كل من البيئة الاجتماعية دورا كبيرا في صياغة الفرد ؛ وكذلك الصحبة ونظام القربى دورا ارأسياً في الوعي الاجتماعي ؛ كما يلعب الموروث السيسيولوجي والمتغيرات في العائلة من حيث الطبقة الاجتماعية وتأثيرات البيئة الحضرية والتواصل الاجتماعي والتنشئة السياسية وغيرها من العوامل بخاصة الجانب السيكولوجي للذات البشرية. لذا أفرز الواقع الاجتماعي افرداً يخرجون للحياة الاجتماسياسية وهم يحملون همهوم طبقتهم وبيئتهم ويحاولون العمل على اجتثاث المسببات المعرقة لتطورها والإرتقاء بها .. وبالتالي فهم ايجابيون وانبساطيون، وبالعكس هناك من يحاول احتقار هذه البيئة رغم انه خرج للحياة الاجتماعية من رحمها وكان من نتاجها .. ويسير في ذاته الانانية الى ابعد حد. وهؤلاء سلبيون ذوو طبيعة من سماتها الانطوائية.
ولج فقيدنا الراحل الفعل العضوي منذ شبابه.. لأنه مؤمن بعدالة غائيته ولهذا دخل السجن في زمن الدكتاتورية المقيتة ، واعتاد الدخول والخروج منه كما لو أنها ضريبة النضال والوعي .. ومن هذا الحراك السجني تعلم صلابة العود وتحمل المصاعب، وفهم حراكية الحياة وروابطها الفلسفية وحل لغز محركات الصراع الطبقي واسترشد بها ليس حسب كمفهوم مجرد بل كوسيلة تحقيق لغائية التغيير.. وفعل العمل الواعي .وأنتبه إلى المفردة وتأثيرها.. فأسترشد بها وبمنظومة المفاهيم الجديدة التي تسربت إلى روحه بتناغم هرموني رغم استعصائها عليه في البدء.. لفهم الفكرة ومن ثم التعبير عن المكنون، سواء الذاتي أو/و الاجتماعي، فكانت مرحلة التهيأ إلى الانطلاق للحياة الإنسانية والشعرية.
يقول صديقه الدائم أحمد السيد علي ويصفه بالقول: "...قرأنا الكتب وعشقنا الادب ودرّسنا الشهيد الشاعر خليل المعاضيدي اللغة الانكليزية والادب العربي ايضا.. أتذكر صاحبي حين كنت أتحدث عن حرية المرأة ، يقولون لي انك ليس لك أخت، فتأتي أنت وتقول أنا لي ثلاث أخوات وأتفق مع صاحبي برأيه... الى اين ذهبت تلك السنوات الراحلة يا صاحبي ابراهيم، انه اللهاث المحموم وراء الينابيع العذبة، والبحث عن ألق الخيارات الأولى في حواش الليالي الذائبة في عنفوان الصخب المنسي...عملنا معا في الحزب ،وكنت تأتي الى دارنا وتسأل من هنا من الاولاد في الدار فالكل أصدقاءك ورفاقك.. جمال وأنا ومحمد.. كنا ندرس في فلكة الروضة مساءَ ومرِّعابرا احد جلاوزة النظام المباد وضحكنا معه، فأتهمنا بشتم رئيس النظام ونحن على اعتاب امتحانات البكلوريا، وأخذونا جميعا الى الامن جمال وإبراهيم ويوسف وانا ووضعونا في التوقيف، وكان أهلنا يبعثون لنا الكباب ملفوف بجريدة طريق الشعب. أنت توسمني صاحب حجة وعنيد، وأنا أوسمك بالذاكرة الوقادة والذكاء الحاد...وفعلها صاحبي ذو العقل البهي يوم الامتحان، نجح بتقدير فوق ما توقعت وأخذ شهادة البكلوريا وهو في سواتر القتال الاولى...**".
فقيدنا الشاعر والأديب كمثقف عضوي يتداخل في ذاته البعدين السياسي والفكري ولأنه، كما ارى، جاء من المعرفة الفكرية الى الفعل السياسي بتأثيرات البيئة والتواصل الاجتماعي والنفسي مع القرأءات الفكرية والفلسفية .. ولما بلغ مستوى القيادة الوسطى ابتلعته السياسة واشكالياتها بكل شموليته واصبح الإبداع الشعري، بخاصة ما بعد الاحتلال الثالث( 9 /4/2003- 31/12/ 2011)، غير مهتماً به مقتصرا على العمل في إدارة اتحاد الادباء والكتاب، واحينا يكتب هذه القصيدة أو تلك في المحافل الأدبية ، بمعنى اصبح الفعل الشعري تابعا للفعل الإداري والحزبي والسياسي العام.

ينتمي رفيق الدرب والكلمة، إبراهيم الخياط، إلى هذه الفئة من الانتلجنسيا العضوية.. حيث ربط مهامة الثقافية ضمن سيسيولوحية وصيرورة التغيير الغائي المرغوب والمعبر عنه جمعياً واجتماعياً.. إذ ساهم بقوة روحية وزخم فيزيائي، ليس في تهيئة تربة التغيير فحسب، بل كان مساهما مدركاً، حسب الممكن والمتاح، في فعل البناء والنغيير.. وبهذا كان واعيا لإاستحداث تاريخ جديد لذاته ولحركته السياسية وانتماءه، بالمفهوم الواسع، الطبقي والوطني .. فدخل عالم الابداع ونحت الأفكار وتنامت مكونات تركيبته المعرفية وتصلبت أبعادها النفسية وتعمقت مطالعاته فكان الخبر الصحفي منطلقه ومن ثم العمود الصحفي المكثف ملجأه، لمعالجة نواحي الحياة المختلفة.. فخلقت منه مَعلَماً ثقافياً / اجتماعياً ذو نظرة جدلية متجذرة.هذه العوالم الابداعية وولوجه المبكر للحياة السياسية والتثقيف الذاتي والمسؤولية الحزبية.. قد فتحت له بابا واسعة في عالم الشعر وخاضها بجدارة وثقة وابدع فيها.
كان إبراهيم الخياط يتمتع بصفة جسدات ذاتها، بين الأمنية المحببة إلى ذاته، لاننا كيسار عراقي غلبتنا الأمنية منذ عام التأسيس في منتصف الثلاثينيات، وزرعنا الأمل في النفوس المنتفضة المحبة للتغير، واردنا تجاوز هذا الواقع المرير دون معرفة قوانينه وسنن تطوره، فكانت عدم القدرة على التحليل الصائب.. وعندما تصدعت الحياة السياسية عند هجوم الجراد على طلع النخيل عام 1979 وإلى سقوطه المشين في 9 نيسان 2003، تفرقنا في منافي الغربة.. لكنه بقى مؤمناً بذاته الجمعية وحركته السياسية.
وهنا نتسائل واياكم هل اصاب أبا حيدر في اختيارالطريق الصعب.. طريق الانتماء إلى ذات العالمة والمدركة؟ هل ارتكب الخطأ واين مكمنه وما طبيعته ؟ ضمن حراكه كذات، فردية أو جمعية أو حركته السياسية ضمن لحركة اليسارية الذي أخلص له بتفاني ؟هل تغيرت نظراته إلى الحياة بعد ما شهد العالم المادي اعمق التغيرات في التوجهات الفكرية والسياسية ؟ وهل أصاب ووصل المبتغى وحقق حلم حياته السياسية ؟ وهل سرى اليأس إلى قلبه وضميره المعرفي قبل السياسي نتيجة هذا التغيير الذي أطال العالم؟ وأين موقعه في هذا العالم المتغيير في اركان حركته اليسارية؟؟.
سلام عليك يوم ولدت واستشهادك
سلام عليك وما أخضر عود في الشجر
سلام عليك في يومك الموعد
وسلام عليك المفعم بتلك الروح.


ستوكهولم / السويد

**أحمد السيد علي، في دراسته : إبراهيم الخياط في ملكوت السكينة.. وانا في مملكة الضجيج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على