الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التعليم عن بعد وسؤال التفعلات الأسرية والمدرسية

عادل امليلح

2020 / 9 / 5
التربية والتعليم والبحث العلمي


من السذاجة الاعتقاد بأن التعليم عن بعد جاء كحتمية فرضتها الضرورة إثر الظرف الاستثنائي الذي يعيشه العالم، وإنما يشكل هذا النمط من التعليم خيارا استراتيجيا فرضه التقدم التكنولوجي والمعلوماتي الذي نشهده اليوم في ربوع الكوكب، وإنه يتماشى مع رؤية وفرضية ما يسمى بمجتمع بدون مدرسة أو مجتمع ما بعد المدرسة، وإن كان المشروع برمته يلقى تهويلا اليوم باعتباره خيارا بديلا في ظل الظروف الحالية، فإن مالا يناقش حقيقة هو المحيط الذي يمارس فيه التعليم عن بعد، لقد دأب الديداكتيكيين تشبيه نظام تفاعلات العملية التعليمية-التعلمية بمربع في أربعة محاور: تحدد نظام التفاعلات بين فعل التعليم وفعل التعلم هي: المتعلم والمدرس والمعرفة المدرسية والتكنولوجيا، ولكن ذلك يبقى بدون معنى، من دون إدراج المحيط الذي يوجد فيه المتعلم، والذي لا يتم الحديث عنه إلا عرضا، على الرغم من أن هذا المحيط هو المعمل الذي يحدد مضمون الفعل التعليمي والتربوي في نظرنا.
لقد فرضت جائحة كورونا خطابا يعبر عن نفسه من خلال مدلولات جديدة، تنطلق من عملية إعادة ترتيب العلاقات الاجتماعية لضمان الأمن الصحي للأفراد والمجتمعات، ويصاحب ذلك بروز أنماط جديدة من العلاقات الاجتماعية التي يتم التعبير عنها بمفاهيم خاصة مثل التباعد الإجتماعي ومسافة الأمان والتدابير الصحية الوقائية وغيرها، وباعتبار المدرسة توجد في قلب المجتمع وتعبر عن نفسها في علاقات اجتماعية، فقد فرض عليها هي الأخرى أن تكرس هذه الأنماط، لتعبر عن نفسها من خلال التعليم عن بعد والتعليم الذاتي والتعليم المنضبط.. فالوضع سار يشبه إلى حد ما التدابير المعمول بها في الخدمة العسكرية، إن المدرسة لا تعتبر مجرد فضاء لتفاعلات خاصة وحسب، ولكنها أيضا فضاء ((حرياتي)) تمارس فيه الحرية المطبوعة بالتواصل والقرب، فهكذا تعمل الجائحة على تحويل المدرسة إلى فضاء أفراد وليس فضاء مجتمع، بأن تفرض جملة من الإجراءات التي تصادر هذه الحرية، لصالح الأسرة التي هي مؤسسة سلطة، وعندما نتحدث عن التعليم عن بعد فإننا نكون قد راهنا على نمط جديد من العلاقات، فمعلوم أن الأسرة هي مؤسسة التنشئة الاجتماعية الأولى، التي يتلقى فيها الطفل المبادئ الحياتية الأولى، غير أن الأسرة تخضع في فعلها للعادة والعفوية، وتعيد إنتاج خطابها اللاعقلاني بحيث تنحصر مهمتعا في تنمية الحس العاطفي والوجداني تجاه أفراد الأسرة الواحدة وقيمهم وأنماطهم، ومع هذه الجائحة تخضع العديد من الأسر لتوترات ناجمة عن الشروط الجديدة السريعة وغير المتوقعة مثل انحدار القدرة الشرائية للعديد من الأسر، بفعل فقدان مناصب الشغل وغيرعا، فهذه التوترات الأسرية تجد الطفل أرضية سهلة لما ينتج عنها من صراعات وتخاقنات داخلية، وذلك كفيل بسلبية التعلمات التي لا يمكن إلا أن تساهم في تفاقم تلك التوترات، وتكريسها لدى المتعلم، بينما تمثل المدرسة مؤسسة "العقلنة" فهي تعمل على تعقيل الفعل التربوي الأسري بأن تخضعه للتخطيط والمقارنة والانتقاء وغيرها من الآليات المتبصر فيها مع مراعاة الحاجيات المنتظرة، وعلى الرغم من أهمية الأسرة أو العائلة فإن دور المدرسة حيوي، لذا فإن من يناصر فكرة مجتمع بدون مدوسة إنما يناصر اللاعقل، مجتمع الأنماط الجامدة، ومن هنا تتكون الحقيقة الأولى، في اعتبار التعليم عن بعد مهما كانت فضلئله فهو لا يمكنه تعويض التعليم الحضوري، لماذا؟
إن جودة التعلمات لا تتوقف فقط عند إنتاج المضامين وتصويرها وتقديمها، وإنما تنضبط أساسا للمحيط التربوي الذي تتفاعل فيه ذات المتعلم مع محيطه وفضائه، فتلك التفاعلات هي ما يحدد جودة التعلمات، وعليه فإن تقديم جملة من المضامين والموضوعات لفائدة متعلمين موجودين في فضاء أسري، خاضع لتوترات معينة ولأنماط عفوية.. وكذا وجود علاقات معقدة لا تتيح أدنى امكامية للحرية عند المتعلم فإنه يفقده الدافعية، ويحد من امكانية إعادة إدماج تلك التعلمات في السياق العام، وذلك راجع لسببين:
-السبب الأول أن الأسرة لا يمكن أن تعوض الدور البيداغوجي للأستاذ، وتفتفد إلى مهنيته وفعل المهننة، لأن ذلك يرتبط بمسار تكويني طويل جدا يراكم من خلاله المدرس الكثير من الموارد التي توجه ممارسته..
وثانيا أنها لا تستطيع خلق التفاعلات السوسيواجتماعية مع المتعلم كما يحدث في مجموعة القسم، فالطفل يميل إلى الحضور مع الأقران إن في القسم أو الشارع، فتسود علاقات أفقية قوامها المشاركة عكس العلاقات الأسرية العمودية التي قوامها الآمرية، ولذلك نكون قد تراجعنا عن المدخل بالكفايات الذي يشكل أساس المناهج الحديثة، وخرجنا عن بنود ورافعات الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015-2030، وإذ يؤكد هذا على مسألة بالغة الأهمية وهي غياب الحرية، لأن استقلال المتعلم إزاء الأسرة مسألة غير ممكنة، ولهذا فالتعليم عن بعد يكرس الجمود بأن تصبح مهمة المضامين إعادة "عرفنة" القيم الأسرية واضفاء المشروعية عليها في غياب الأستاذ، الذي لا تعود له أي رمزية في ظل هذا التعلم..
ولا يمكن حتما السقوط في السذاجة التي تعتبر أن وجود نسبة نجاح مرتفعة دليل على نجاح هذا التوجه، لأنه لا يتم تقيبم سوى الجوانب المعرفية، في غياب الجوانب الوجدانية والسوسيوعاطفية، والمنهجية، وإن نتيجة التعليم عن بعد هي إنتاج أفراد فردانيين مجهولين عن بعضهم البعض، أفرادا غرباء عن مجتمعهم، بالدفع نحو تكريس مجتمعات أسرية مما سينجم عنه تعميق التفكك الاجتماعي..
لذلك فالمسار يجب أن يدفع نحو تعزيز التعليم الحضوري وليس ابعاده، فذلك ولا ريب سينتج عنه تضيق دائرة الفاعلين التربويبن، إذ يمكن لأستاذ وربما لفاعل واحد أن يقدم مضامين لفائدة الملايين من المتعلمين، وهذا يتعارض مع الفعل التربوي ذاته الذي يقوم على الحرية والتنويع.. أو أننا سنصبح أمام فعل نيو-تربوي جديد يقوم على انتاج آلات بشرية تخدم مصالح الرأسمال.
وإن كان المشروع برمته يلقى تهويلا اليوم باعتباره خيارا بديلا في ظل الظروف الحالية، فإن الواقع هو غير ذلك وإنما الجائحة ليست بذلك التآثير الذي يحاول البعض اضفاءه على العالم، وإنما هي سرعت الديناميات الأصلية، لقد تعددت النداءات منذ سنوات حول التعليم الذاتي، الذي يناصره غالبا النخبة النيوليبرالية، والتي بلغت حد ربط المدرسة بالفشل، فالنجاح المالي كان معيار الحكم وأساسه، وتم اهتزال كل مكنون المجتمع والتاريه في مضمون المقاولة الربحية، والتي حققت الازدهار الاقتصادي لمن مع ضريبة ضخمة، كان من ابعادها الخطيرة تهميش المدرسة والمرفق العام، بالإضافة إلى تمريس ديمقراطية شكلانية خاوية من أي مضمون اجتماعي وسياسي، وعليه فإن التعليم عن بعد يعكس في حقيقة الأمر الصراع بين المدرسة والنيوليبرالية، التي تسعى لتدمير المدرسة وتعويضها بنمط جديد خاضع نهائيا لسلطة الرأسمال وعلاقات السوق، وجاءت تكنولوجيا المعلومات كبديل لإضفاء الشرعية على هذا الاختيار، الذي يسعى إلى تفكيك المدرسة، وانتاج جيل من الأفراد، إنه دفاع عن الفردية التي لن تتعزز إلا من خلال تفكيك المدرسة كوحدة إنتاج اجتماعي..
ولهذا فالتعليم عن بعد يجب أن يكون مكملا واختياريا في المستقبل، ومراعاة للأبعاد الاستراتيجية لهذه المؤسسة فإنه من الأفضل أن يتم ذلك في التعليم ما بعد المدرسي أي الجامعي والأعلى، كأساس مكمل للتعليم الحضوري، ويجب على الفاعلين الاعتراف بأن التقليص المتواصل في مزانية القطاعات الإجتماعية لن يؤدي إلى أي نتيجة ايجابية وانما ستكون الضريبة باهضة، ومسار الخصخصة ليس له سوى نتيجة واحدة وهي تفكيك المجتمع وإنتاج أفراد منسلخين عن واقعهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمطار غزيرة تضرب منطقة الخليج وتغرق الإمارات والبحرين وعمان


.. حمم ملتهبة وصواعق برق اخترقت سحبا سوداء.. شاهد لحظة ثوران بر




.. لبنان يشير إلى تورط الموساد في قتل محمد سرور المعاقب أميركيا


.. تركيا تعلن موافقة حماس على حل جناحها العسكري حال إقامة دولة




.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس