الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة19

محمود شقير

2020 / 9 / 6
الادب والفن


تستدعي شبابيكها بعض التأملات، وتستثير في النفس رؤى وأفكاراً وانطباعات، وهي تنطوي على حقائق ومفارقات، لا يمكن أن تحدث إلا في مدينة مثل القدس، التي ما زالت تعاني من التراكمات السلبية للاحتلال الإسرائيلي، ومن وطأته على أهل المدينة وعلى العمران فيها سواء بسواء.
وأنا أتجول في البلدة القديمة من القدس، وفي بعض أحيائها الواقعة خارج السور، يحدث أن أتوقف عند شبابيك المدينة، أتأملها. وأتذكر ما كان يفعله كاتب أمريكي أظنه جون شتاينبك، الذي قال ذات مرة، إن لديه شغفاً باستراق النظر عبر الشبابيك التي يمر بها وهو يمشي في شارع أو زقاق. رغبة شتاينبك هذه تعبر عن فضول الكائن البشري لسبر أغوار الحيز الذي قد تفصح عنه وقد لا تفصح عنه الشبابيك.
في حالة القدس القديمة، يقل وجود الشبابيك القريبة من متناول أي فضولي راغب في النظر عبر هذه الشبابيك، حيث تكثر في الطوابق الأرضية للبنايات، الحوانيت والمخازن والأفران والورش والمطاعم والمقاهي وما شابه ذلك، وتتعين الشقق السكنية في الطوابق التي تلي ذلك، ما يجعل الشبابيك أعلى من رغبات الفضوليين. ثم إن المجازفة باستراق النظر عبر الشبابيك في مدينة مثل القدس، قد يجر وراءه إشكالات لا يقدم عليها إلا متهور أو مجنون.
وأتذكر أيضاً، شبابيك الحارة القاهرية كما صورتها بعض أفلام السينما المصرية، أو كما وصفها نجيب محفوظ في بعض رواياته. حيث الشبابيك متنفس للفتيات المراهقات اللواتي يتلهفن على رؤية الشباب، الذين تسوقهم الأقدار أو الرغبات المقصودة، للوقوف على مقربة من الشبابيك، التي تطل منها على نحو موارب أو صريح، فتيات راغبات في الحب. وحيث الشبابيك فضاء ملائم لنساء محشورات في البيوت، يمكنهن من خلاله، أن يسترقن النظر أو يقفن علانية لمراقبة حركة الناس في الأسواق، أو لتبادل الأخبار والإشاعات، وتسعير النميمة مع الجارات اللواتي لا يعرفن كيف يقضين أوقاتهن. كان هذا كما هو معروف، هو الحال في قاهرة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ولا أعتقد أنه ما زال يجري على الوتيرة نفسها هذه الأيام.
في القدس القديمة، لم تعد الحال هي الحال نفسها كذلك. صحيح أن المزاج المحافظ عاد إلى التغلغل في ثنايا المدينة على نحو ما؛ غير أن تحت سطح المحافظة تكمن رغبات وممارسات، نابعة من الطبيعة البشرية التي تتمرد على السائد على هذا النحو أو ذاك، وهي نابعة كذلك من طبيعة المرحلة التي تجتازها القدس بغض النظر عن كل الضغوط والملابسات. فثمة تجليات للحداثة بأشكالها السلبية والإيجابية سواء بسواء، بحيث تصعب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بنجاعة تامة، وتصعب محاصرة هذه التجليات وضبط تأثيراتها، وبخاصة على جيل الشباب والشابات.
لم تعد الشبابيك هي الفضاء الذي يجري من خلاله تناقل الأخبار أو تسريب الإشاعات. فقد أصبحت ممارسة هذه الرغبة ممكنة عبر الهواتف البيتية أو الهواتف النقالة التي تقتنيها النساء، ويمارسن من خلالها ما طاب لهن من ثرثرة وكلام. وأصبحت ممارسة هذه الهواية ممكنة في اللقاءات المباشرة بين النساء، حيث لم يعد من الصعب على المرأة، حتى وإن كانت تنتمي لعائلة محافظة، الخروج من بيتها، لملاقاة غيرها من النساء، في سوق الخضار أو في محلات النوفوتيه أو في الوظيفة، أو في الشارع حيث يتمشى الرجال والنساء في الأماسي العادية، حينما لا تكون المدينة واقعة تحت منع التجوال أو مغلقة بسبب إضراب.
وأما الفتيات المتعطشات إلى علاقة مبكرة قد تنتهي بالزواج وقد لا تنتهي بالزواج، فلم يعد صعباً عليهن استخدام الهاتف النقال، وإرسال الرسائل عبر هذا الهاتف. لم يعد صعباً عليهن الخروج من البيت لأي سبب. يخرجن إلى المدرسة أو إلى الجامعة، أو إلى سوق العمل أو إلى الوظيفة، أو إلى الكوافيرة أو إلى محلات النوفوتيه وباعة الأحذية، وغير ذلك من أمكنة. ذلك أن المزاج المحافظ لم يعد قادراً على ممارسة الشروط القمعية نفسها التي كانت تمارس على النساء في سنوات سابقة، لأن الزمان تغير.
هذه الطفرة الطبيعية في العلاقات وفي تفاصيل الحياة اليومية، نزعت عن الشبابيك طابع الرومانسية التي قرأنا عنها في الروايات، أو التي كنا نشاهدها في الشبابيك المطلة على تلك الحارة أو على ذلك الزقاق. انكفأت الشبابيك على نفسها، وأصبحت مجرد فضاءات لأداء وظائف أولية صممت الشبابيك أصلاً من أجلها، مثل تمرير الهواء إلى داخل البيت وكذلك أشعة الشمس، أو تمرير شحنة من نور حينما لا تكون الشبابيك واقعة في مدى أشعة الشمس، بسبب اكتظاظ العمران في القدس القديمة، ووجود حيطان مغمورة فيها شبابيك مقموعة لا ترى الشمس.
مع ذلك، يظل المزاج المحافظ وطلب الستر ودفع الفضيحة قدر الإمكان ورفضها والتطير من وقوعها، يسم شبابيك المدينة بميسمه، حيث الستائر السميكة التي تجلل الشبابيك من الداخل في أغلب الأوقات، وحيث السكون الذي يهيمن على الشبابيك، فلا تظهر أية حركة في فضائها ولا أي حضور بشري، كما لو أنها لا تفضي إلا إلى عالم من فراغ.
ولمزيد من الحيطة والحذر، تبدو الشبابيك مزنرة بحمايات من الحديد الصلب الذي يتخذ شكل رماح عمودية متوازية في أغلب الحالات، ويتخذ شكل زخارف وأشكال هندسية بديعة في القليل من الحالات. هذه الحمايات مكرسة لحماية البيت من اللصوص، وهي تعبير عن عدم الثقة في الشبابيك، حتى وإن كانت في أحيان غير قليلة، واقعة في الطوابق العليا التي لا يمكن أن يصل إليها اللصوص.
ولعل المزاج المحافظ هو المسؤول عن قلة أصص الورد والأزهار في فضاء الشبابيك. لأن ذلك يستدعي قيام ربة البيت أو بناتها بفتح الشبابيك وبالعناية بالورد وتعهده بالسقاية وغير ذلك من أسباب العناية والانتباه، ما يعني انكشاف نساء البيت على شبابيك أخرى لجيران آخرين، أو على أشخاص فالتين يتحركون في الأزقة والحارات (يحفل الغناء العربي بأغاني الغزل التي تتحدث عن الورد وعن الشبابيك، ما يجعل للأمر ظلالاً غير مريحة في نفوس المحافظين).
ولمزيد من الحرص والحذر، وللتأكيد على المزاج المحافظ، ولكي يكتسب البيت مظهراً متجهماً لا يغري اللصوص أو العابثين بأي اقتراب منه، تبدو أباجورات الشبابيك مغلقة في أغلب الأوقات. قد يجري فتحها ساعة أو ساعتين في النهار، ثم تغلق بعد ذلك، ربما لمنع الشمس من تخريب لون الستائر والكنبات وغيرها من أثاث، وربما لمنع الغبار من اقتحام البيت، وربما بسبب الرغبة في تحصين البيت ولو في شكل غير واع لذلك.
وفي كل الأحوال، تلعب الستائر الداخلية ما هو منوط بها من أدوار. وهي تتكون في العادة من طبقتين: طبقة من التول الأبيض الخفيف للزينة ولأداء وظائف معينة في قلب الدار، وطبقة من الستائر الثقيلة التي تدعم الأباجورات في تناغم ضمني معها، لحماية البيت من الشرور والمفاجآت.
كم أحب التأمل في شبابيك البيوت!
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض


.. تعاون مثمر بين نقابة الصحفيين و الممثلين بشأن تنظيم العزاءا




.. الفنان أيمن عزب : مشكلتنا مع دخلات مهنة الصحافة ونحارب مجه