الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قف، هنا المخيم..

مهند طلال الاخرس

2020 / 9 / 6
سيرة ذاتية


قف، هنا المخيم...
في سيرة المخيم شريط لا يكاد ينتهي من الذكريات، وهذه الذكريات اودعت كأمانة في خزائن من الكتمان، وهذا الكتمان كان امينا بحفظ ذلك المخزون من الذكريات.

اما لماذا هذا التكتم المتواصل على هذه الذكريات فلذلك اسبابه المتعددة وجغرافيته الصعبة...وقد يكون بعض تلك الاسباب له ما يبرره، لا سيما اذا علمنا علم اليقين ان كثير من هذه الذكريات موجع ومؤلم ...

لكن الغريب في الامر اكثر وما يثير الحنق ويستدعي الاستهجان ان ذلك الطي والكتمان قد طال كثير من الذكريات والمواقف المنشئة للفرح، وليس هذا وحسب، بل ان كثير من هذا الفرح يثير الفخر والاعتزاز والسمو بالمخيم وسيرته العطره، حتى ان كثير من هذه الذكريات تصلح للتغني والتفاخر بماضي المخيم وابنائه وحتى انها قد تصيبنا بالزهو، لكن هذا الفخر والاعتزاز بهذه الذكريات كان دائما بعيدا عن الرصد والتداول خشية الوقوع في شرك المبغضين والمغرضين والكارهين لانفسهم وهم نفسهم السارقين لاحلامنا، وهم كذلك يتحملوا الوزر الاكبر من نكبتنا...

تلك الذكريات بقيت حبيسة الصدور، لم تجد متسعا لها على الاوراق، وكادت كلماتها ان تختفي حتى عن الالسن لولا ان هناك حكمة ازلية ترفض دوما ان تختفي تلك الحكايا تحت وجع الايام.

بعض هذه الذكريات تواطأ عليها الانسان والنسيان، وعتراها كثير من التزوير والتخريف والتحريف في مسعى بدا جاهدا لتغييب تلك الصورة الناصعة من سيرة المخيم بهدف محوها وتغييبها، ولم تقف الامور عند هذا الحد، بل سارت الامور نحو الدرك الاسفل من النار حين اصبحت تستهدف الوعي بكيه واستيلابه نحو امور محرفة ومصطنعة بغية تخريب المدخلات وانتاج مخرجات مشوهة لا تمت للمخيم وتاريخه بِصلة.

في تاريخ فلسطين ونضاله، كان الشعب يكتب حكايته كلمة كلمة وينسج حكايته غرزة غرزة ويبني اسطورته لبنة لبنة، وعلى الجبهة الاخرى كان الاعداء واعوانهم من الخونة والعملاء يتربصون ويتناوبون على هدم هذا التاريخ وسرقة المستقبل، وكانوا دائما يتحينون الفرصة للقضاء علينا ان استطاعوا وبالتالي شطبنا من سطور التاريخ وحقائق الجغرافيا...

ورغم كل الليالي العابثات بنا ورغم التشريد وقسوة الزمن كان شعبنا دائما عصيا على التطويع والنسيان، وكان دائما يؤكد حقيقته الاسطورية بأنه طائر الفينيق الذي وان غاب لبرهة من الزمن فإنه سرعان ما يستفيق وينهض من تحت الركام والرماد، فهذا الشعب اصبح ومنذ امد بعيد جزء من حقائق التاريخ والوجود، فهو كالشمس تغيب لكنها ما تلبث ان تشرق من جديد، وهو شعب كسائر الشعوب قد يمرض وقد يستكين ولكنه حتما لا ينهزم ولا يموت.

في سيرة المخيم محطات ومواقف بقيت حبيسة الصدور، لا يُباح بها لغريب او بعيد..

في سيرة المخيم ذكريات زاخرة بالقصص والحكايا الحافلة بالانفة والعِزة والمجد والفخار، في تلك الذكريات ان قُدر لك ان تطلع على بعضها او تسمع شيئا منها حتما ستخفض رأسك خوفا من ان تصيبك بعض الرصاصات الطائشة!!

في سيرة المخيم ايام وسنين مجبولة بالعرق والدم وبالكثير من التضحيات..
في سيرة المخيم كثير من الذكريات تستحق ان تبقى محفوظة في متحف الذاكرة...
في سيرة المخيم ولغربة الزمن ووقاحة الايام؛ مناضلون اشاوس، يتناولون الذكريات مع انفسهم فقط؛ فهم مازالوا يعون قسوة الزمن وتزاحم الايام على كسرهم تارة ونفيهم تارة اخرى لابل وشطبهم ان كان بالامكان فعل ذلك دون اثر .

بالمحصلة كان المخيم ولازال رهن الجغرافيا السياسية والتي كانت دائما في صف الآخرين...

"يا اخي، هناك ما سأبوح به لك وحدك ولك حرية التصرف به والكتابة عنه كيفما تشاء، وهناك ما سيبقى دفينا في الصدور حتى نغادر هذه الدنيا الى القبور، وهناك مالا استطيع البوح به إلاّ لنفسي عندما احن الى تلك الايام او عندما اجد نفسي راغبة عن كل شيء إلاّ البكاء..." هذا ما قاله لي احد ابناء المخيم (ع،ش) عند محاولة توثيق شهادته عن سيرة المخيم.

بينما اختار آخر(س،ص) وهو صاحب تاريخ حافل وطويل ان يحدثني عن فترة الانطلاقة والعمل الثوري لفتح منذ 1965، فسعدت جدا، لكنه اغاظني حينما قال لي: بأنه يفضل ان نقتصر الحديث عن فترة العمل الثوري والكفاح المسلح في مخيمات اريحا وحتى معركة الكرامة 1968فقط؟!

واختار آخر ان يكون فضائحيا (خ،ط) ويحدثني عن السقطات والانحرافات والاختراقات، فحدثني عن كثير من المشاكل والاحقاد وصولا لسبر اغوار بعض حوادث القتل ومحاولة فك اسرار بعض حوادث التصفية والاغتيالات ...

احدهم كان وطنيا رائعا ومخلصا لفكرته وسيرته ومسيرته حتى النخاع (م،م) اخبرني بكل ما لديه، لم يجمل المواقف، سمى الاسماء بمسمياتها، صحح لدي الكثير من المواقف، واضاف لجعبتي كثيرا من الذكريات، لكن الاجمل كان تلك الدموع التي تساقطت من وجنتيه عند الحديث عن الشهداء...
ذلك الشخص وامثاله كنت وما زلت مدينا له وللمخيم بالكثير...

كُثر طلبت منهم شهادات مكتوبة عن سيرة المخيم ومازلت انتظر الجواب؛ بعضهم كتب واجاد وبعضهم كتب هباء، وآخرون كتبوا هراء في هراء، وبعضهم وان كبر جسمه وعلا اسمه اجتهد مرارا وتكرارا لكنه لم يجد في حياته ما يمكن ان يُكتب ويبقى، كان كل ما يكتبه تفوح منه رائحة الخراء.

بعضهم كان يدعي كثير من البطولات، استكتبته بهذا الخصوص، كان يكتب كما يتكلم، يتلعثم ويتأتئ ويرطن ويبرطم، وان حدقت في عيونه تغير لونها ووجدتها منخزية ومنكسرة...وعند مراجعته بكثير من المواقف والحقائق مارس الطرم، ذلك الاطرم كان يدرك اني لن ارفع صوتي اكثر من اللازم، فتلك المواقف والحقائق اخاف عليها من أُذن الجيران وحتى من آذان الجدران.

بعضهم اشاح بوجهه عني، والبعض تجنبني، وآخرون لم اعد اراهم في الطرقات، حتى انهم تناسوا تلك الذكريات، بل ان بعضهم انكرها، وبعضهم كان له دور البطل في تلك الذكريات فلم يستطع انكارها، لقد عزت عليه نفسه كيف كانت حينها وكيف اصبحت، لكنه ابتسم وكانت روحه قد استعدت للبكاء، فأخفى دمعاته عني، واستدار ثم رحل...

بعضهم جاد وافاض (ج،ش) وكتب من خضم التجربة بكل تجرد وصدق، واختار ان يكتب ويوثق ما ينصف مجايليه، كتب عن الفدائي ومعسكرات الاشبال والعمليات الفدائية والشهداء، كتب عن الخيمة وكرت التموين كتب عن المواجهات مع الامن والمخابرات وعن اكبر المظاهرات، كتب عن ذلك المعسكر الواقع على طرف المخيم والتابع لحركة فتح -كتب عن فضل المعسكر على الجميع رغم انه من تنظيم آخر- هذا المناضل عندما قرأت ما كتب بكيت، هاتفته لنتشارك الدمعات، قال لي: "هذه هي الثورة" .

بعضهم اعطاني اوراق وكتب ومجلات ووثائق ومحفوظات ومخطوطات (ه،ج)، وبعضهم زودني بكثير من البيانات والمنشورات (ا،ح)و(ب،ع) وآخرون زودوني بصور على ظهرها شرح مقتضب وتواريخ متعددة، كانت تلك الصور لشهداء من المخيم استشهدوا بعيدا عن الحدود وبعيدا عن ارض الوطن!!.

بعضهم (ع،ب) وهو احد قيادات الثورة، راسلني من فرنسا بعد متابعته لحلقاتي المنشورة عن سيرة المخيم واستغربت علاقته بالامر، فأجئني واخبرني عن علاقته بالمخيم، ادخلني في دوامة عندما اخبرني بكثير من القصص والعمليات التي كان منشأها المخيم، لم استفق من هول المعلومات وسرعة تدفق الذكريات لديه، لم استفق إلا عندما اخبرني بأنه نام ايام عديدة في مخيمنا، كان معه (ص،ح) و(ص،ت) والاثنين يعود لهما الفضل في تأسيس فكرة الاشبال والزهرات ورعايتها، حدثني عن ابو عمار وابو اياد وابو اللطف وعن قصصهم مع معسكر الاشبال في البقعة وعن كثير من المواقع والقواعد في المصطبة وجبل الرز وسيل جرش وفي الرميمين وام جوزة وشفا بدران وطاب كراع والسلط وبدر(الحمر)...

كانت المفاجاة المدوية حين علمت ان كثير من المجموعات الفدائية مرت على مخيمنا واقامت فيه، وكان لِسِعة منزلنا دور مهم في هذه الحكاية ....

وحدها حكاية مجموعة ابو هاني (مصباح الجلمة) وفاخر النحال وقصتها مع قاعدة الطفيلة الفدائية وتنسيقها مع الصاعقة المصرية بقيادة ابراهيم الرفاعي، وابراهيم الدخاخني، عبد الله الشرقاوي، علي عثمان بلتك،...) لضرب مصنع البوتاس الاسرائيلي في منطقة البحر الميت وكثير من العمليات لضرب العمق الاسرائيلي انطلاقا من وادي عربة بالاضافة للعديد من العمليات النوعية كعملية بيسان وام قيس، لكن تبقى العملية الاهم والاجمل "ايلات"؛ تلك العملية المدوية وذات الصدى العابر للزمان والمقاومة لكل انواع النسيان والتي تم تصغير الدور الفلسطيني الكبير فيها لاسباب عدة بعضها مغرض وبعضها الاخر لا يعرف للوفاء طريقا، لكن تلك الايام وان حاول الاخرون والمارقون محوها وشطبها من الذاكرة، لا تلبث ان تبعثها سطور التاريخ من جديد، فالحقيقة المؤكدة عبر التاريخ ان التاريخ دائما ينتصر لاصحابه وينصفهم ولو بعد حين.

هذه الحكاية وصورة منزلنا في تلك الليلة بما فيه من تمتمات خشنة ووجوه كثيرة ذات لهجات متداخلة قريبة وبعيدة فتحت لي الافاق لأعرف ان تحت سقف معظم بيوت المخيم -ان لم يكن كلها- حكاية تستحق ان تروى وان تبقى.

عند هذه الحكاية المدوية بالذات عرفت ما سر تلك الصورة التي تزين البوم صور والدي والمكتوب عليها "عظيم انت يا شعبي"، حينها اكتملت خيوط المشهد العام لدي حول هذه الحكاية...

لم استطع النوم طيلة ثلاث ليال طوال، كان وقع تلك الحكاية مذهلا لابعد الحدود، كانت حكاية تقترب تفاصيلها من حد الجنون، لم يوقف هذا الجنون إلا زيارة أتت على غير ميعاد من (ج،ب) (م،ن) (ر،ح)، ارتابوا عندما شاهدوني على هذا الحال، ادخلتهم المنزل واخبرتهم بكل تفاصيل الحكاية...

لوهلة بدى ان اثار الجنون وتفاصيل تلك الحكاية قد خفتت لدي.

دب صمت مريع على الزائرين، فتحينت الفرصة لاجهز الارجيلة..
في دقائق معدودة اصبحت الارجيلة جاهزة وكذلك جمراتها المشتعلة..
فجأة ظهر الجنون من جديد، لكن هذه المرة بدا وكأنه انهى مهمته لدي وانتقل للضيوف الزائرين..

بدأت الاسئلة تتزاحم على السنة الزائرين واخذت تتدفق وتسأل عن تفاصيل التفاصيل، بدأت اجاباتي تتوه وتسرح وتمرح وتذهب وتجيء، لكن حسنا فعل الزائرون بالامساك بناصية الحديث والقبض على تفاصيله بكل الوانها واشكالها...

حين اكتملت لديهم تفاصيل الصورة واحكموا قبضتهم عليها اتسعت وجوههم وتوسعت حدقات عيونهم، وبدا لي ان هناك بعض من دموع الفخر في اعين الضيوف، حينها وقف (ج،ب) منتصبا دون ان يسمح لي بإسدال الستار على حكايتي، اعتقدت من وقفته بأنه يستعجل الرحيل، طلبت منه التمهل حتى انهي الموضوع، رد علي بزهو: قف، قف..

كنت اضع بعضا من الجمرات على راس الارجيلة حين طلب مني الوقوف.
تركت امر ترتيب الجمرات، وامتثلت لطلبه فوقفت.
ذكرني بقصة ذلك الشعار الذي خُط على جدران المخيم اثناء الحملة الانتخابية لاحد نواب المخيم (ع،ج) والذي يقول:" قف، هنا المخيم".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي