الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التطور بين التنظير والتدليل من وحي التطور الأحيائي (10)

جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)

2020 / 9 / 7
التربية والتعليم والبحث العلمي


لأنني أنا الموعودُ؛ بالأمس، وبمنتهى الصلف والغرور الممزوجان بالسماجة؛ قال لي أحد الأساتذة المساعدين بكلية الطب من المنتمين للتيارات السلفية: تؤمنون بنظرية "التطور" وهي مجرد نظرية لا تزال غير مثبتة!

فقلت له باختصار: لو سمحت لي؛ واضح من كلام سعادتك أنك لا تفهم الفرق بين "النظرية" و"الحقيقة"؟ فأنا في الواقع أشك في ذلك. وقلت له؛ لما أجاب بالنفي (بعد جدال شاق): فمَنْ أنتَ إذن؛ حتى تتصدى لإثبات أو دحض نظرية علمية؛ إذا كنتَ لا تعرف حتى معنى أو مفهوم "النظرية"؟!

ثم أوضحتُ له قائلاً:
بالنسبة للعامة، يمكن أن تعني النظرية رأياً أو حدساً أو تخميناً أو فرضيةً(فكرة لم يتم إثباتها بعد؛ لعدم كفاية الأدلة)، أي "إنها مجرد وجهة نظر" في أدمغتهم، لكنها لدى العلماء ذات دلالة أقوى بكثير عن "التفسير المدعوم جيدًا" للحقائق. ففي العلم، النظرية (باختصارٍ شديد) هي: "الطريقة التي نُفسِرُ بها الحقائق". أو هي (بتوضيحٍ آخر) عبارة عن "بيان أو تفسير" تم اختباره بدقة للمبادئ العامة التي تشرح الجوانب الملحوظة والمسجلة للعالم من حولنا، وتشرح وتصف العلاقات بين الظواهر أو الأشياء.
بمعنى آخر أكثر وضوحا: "النظرية العلمية هي: تفسير مدعوم جيداً؛ لبعض جوانب العالم الطبيعي، استناداً إلى مجموعة من الحقائق، التي تم تأكيدها مرارًا وتكرارًا؛ من خلال الملاحظة والتجربة. هذه النظريات المدعومة بالحقائق ليست "مجرد تخمينات" ولكن "حسابات موثوقة/وموثقة" عن الواقع من حولنا. وعليه؛ تصف أي نظرية وتختبر مستويات أعلى من كثير من الأفهام أو العقول العادية. هذا المستوى يربط "الحقائق" ببعضها البعض. و"الحقيقة" في العلم هي: "المشاهدة أو الملاحظة" الواقعية، "والنظرية" في العلم هي تفسير مثل تلك المشاهدات المُحاطة بمجموعة من البديهيات.
فمثلاً؛ أنت لا ترى الجاذبية؛ إلا من خلال سقوط الأشياء على الأرض. وفي كل مرة نرى فيها "عملية سقوط"؛ نرصد لها "مشاهدة" للجاذبية. ومثل هذه المشاهدات يمكن قياسها وتسجيلها؛ وذلك بوزنِها؛ فعملية "الوزن" هنا هي بمثابة الدليل القطعي على حقيقة وجود "الجاذبية" والتي وصفها العلم بـ "الحقيقة" التي فسرتها "النظرية". ولذا؛ دائماً ما يُشار – في المجتمع العلمي- إلى الجاذبية على أنها "حقيقة" و"نظرية" في الوقت عينه. ما يعني بأن "النظرية" ليست مجرد "وجهة نظر" كما يوحي به لفظها، من الوهلة الأولى، لأفهام العامة.
فقط ما يُعَقِد نظرية التطور على بعض العقول غير القادرة على استيعابها؛ هو احتواء مخططاتها على الكثير من المعلومات المتسلسلة في تكراراتها؛ فيما يعرف علمياً بـ "الإيفوجرامز Evograms" التي تعرض على سبيل المثال؛ لتطور وانحدار الزواحف، من نوع معين الأسماك البحرية؛ أو كما في الرسم التوضيحي المرفق بالرابط أدناه؛ والمتعلق بأصل الفقاريات الأرضية.
https://evolution.berkeley.edu/evolibrary/article/evograms_02
وهذا الرسم يوضح عملية إعادة بناء مجموعة من الفقاريات المنقرضة، بدءً من "إيوستنيترون Eusthenopteron" إلى "توليبيرتون Tulerpeton". والتي وجدت في المراحل الانتقالية بين الماء والأرض في العصر الديفوني، منذ حوالي 380 مليون سنة. تشير الأشرطة الزرقاء إلى النطاق الزمني الجيولوجي الذي تم من خلاله العثور على أحافير محددة. ويتم تحديد هذه الفترات الزمنية بمقياس زمني أعلى الصفحة. يوجد على الجانب الأيمن من الصورة تطور أطراف بعض تلك الكائنات الحية. وتشير الألوان المختلفة فيه إلى أن العظام المتجانسة لها استمرارية من خلال المقاييس الزمنية التطورية، وأنها تغيرت في الشكل والعدد بمرور الوقت. وإلى يسار الرسومات الملونة توجد مجموعة من الخطوط المتفرعة التي ترسم شجرة تطورية، تظهر العلاقات شديد التعقيد بين هذه الحيوانات.
والتي يتضح منها أن أياً من هذه الحيوانات ليس سلفاً مباشرة للآخر. إنهم مجرد "أقرب الأقرباء" الذين اكتشفناهم حتى الآن في السجل الأحفوري. وهذا يشبه إلى حد ما مقارنتك، وأخيك، بابن عمك الأول، وابن عمك الثاني: لا أحد منهم يكون قريبًا لك أو للآخرين مباشرةً، لكنهم على التوالي أقل ارتباطًا بك. فأنت أكثر ارتباطًا بأخيك لأنه لا يلزمك سوى العودة لجيل واحد للعثور على سلف مشترك بينكما (وهو أبيكما)، في حين يتعين عليك العودة إلى جيلين للعثور على سلف مشترك يربطك بابن عمك (وهو جدكما) وهلُم جرا.
وتبقى النظرية العلمية صحيحة حتى يثبت خطأها. وقد صمدت نظرية التطور الداروينية أمام اختبار الزمن وآلاف التجارب العلمية، وأيدتها أطنان الأدلة التي جمعت ورصدت في المختبرات والميدان. ومن أوسعها انتشاراً؛ ذلك السجل الأحفوري الموسع بشكل كبير منذ زمن داروين، والذي يصفه العلماء بـ "تراكم جبل الأدلة"، وفهم التحلل الإشعاعي، وملاحظات "الانتقاء الطبيعي" في البرية وفي المختبرات، ليبقى أقوى الأدلة على التطور من سلف مشترك؛ متمثلاً في تسلسل الحمض النووي والنسخ الجيني المتشابه بجينومات العديد من الكائنات المختلفة، بما في ذلك البشر، وقد عززت جميعها صحة نظرية التطور.
مع العلم بأن "الحمض النووي (DNA) يجعل الحمض النووي الريبي (RNA) يصنع البروتين(Ribosome)؛ بالإضافة لوظيفته الأساسية بقراءة وفك شفيرة جميع المعلومات الوراثية الموجودة في الحمض النووي، أو نسخ أجزاء الشفيرة الوراثية، ونقلها إلى "الريبوسومات" التي تُعرف بالمصانع الخلوية المنتجة للبروتينات من تلك الشفيرات الوراثية المنسوخة. كل هذا في كيس من المواد الكيميائية المغلفة بالدهون". تلك البروتينات تشكل جزيئات تؤدي مجموعة من المهام الأساسية؛ والتي بدونها لا يمكنك هضم طعامك، وسيتوقف قلبك، ولا يمكنك التنفس. كل ذلك بفضل حمضك النووي الذي يخبر خلاياك بكيفية صنع تلك "البروتينات" من الأساس. مثل هذه المعلومات البسيطة؛ هي جزء من "كلٍ معقد"؛ تضطلع بها علوم ((جليلة)) كالوراثة والكيمياء الحيوية والكيمياء العضوية (التي يخلط بينهما أحيانا حتى طلاب الكيمياء!)
هذه، فقط، مجرد إطلالة على جزء من شجرة العلاقات الموثوق بها، في نظرية التطور. فما بالكم لو أضفنا لها رسم التغيرات التطورية في الهياكل والوظائف والسلوكيات وعلم وظائف الأعضاء والموائل، أو التوزيع الجغرافي والعديد من الأنواع الأخرى بميزاتها وعيوبها؟!
وحتى الآن؛ لم يظهر شيء علمي يدحض نظرية التطور، منذ أن اقترحها داروين لأول مرة منذ أكثر من 150 عاماً. والواقع أن العديد من التطورات العلمية، في مجموعة من التخصصات العلمية بما في ذلك الفيزياء والجيولوجيا والكيمياء والبيولوجيا الجزيئية، قد دعمت وصقلت ووسعت النظرية التطورية بما يتجاوز أي شيء يمكن أن يتخيله حتى داروين نفسه. لدرجة أن العلماء مجمعون اليوم على أن داروين لم يكن يعرف 99 % مما نعرفه نحن الآن؛ بعد الانفجار الكبير والمذهل، الذي أحدثته "الاكتشافات والثورات العلمية" الأكثر عمقاً واتساعاً.
واسمح لي بالقول: أنا لا ائتمن أي طبيب لا يؤمن بالتطور على "صحتي العامة". فقال: لماذا؟ فأجبته: لأن معنى ذلك أنه غير مُلم بأساسيات البيولوجيا الجزيئية؛ ما يعني بداهةً أنه غير ماهرٍ/حاذقٍ في مهنته. وأيضاً؛ ضع نفسك مكاني؛ فهل ترضى – على أقل تقدير- بأن يفحصني طبيب أكونٌ أنا (غير المتخصص) أكثر إلماماً واقتناعاً منه بأساسيات البيولوجيا التطورية والجزيئية؟!
ولما وجد نفسه في موقف عاري شديد الحرج؛ راح يكيل لي من عبارات المدح بشكلٍ هستيري ترتخي له أي أذان. لكن لم ترتخي لها أُذناي؛ من شدة قرفي. وأنهى "مهاتراته" معي بقوله: "بس اسمع سعادة الدكتور: أنا دخلت مرة على الدكتور محمد غنيم لما كان ماسك مركز الكلى؛ وقلت له بالحرف الواحد: انتم الجيل اللي ضيَّع القُدس. واحنا الجيل اللي ها نرجعه بإذن الله تعالى"
فأدركتُ عندها بأنه، لامحالة، إما أن يكون "باي بولار" أو يكون في "الباي باي"!
وقلتُ في نفسي: "كم من أستاذيةٍ بلا أستاذ". وكم لنا نحن -كأمة- في الجهل والجنون شأوٌ وشئونُ!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توقيف مساعد نائب ألماني بالبرلمان الأوروبي بشبهة التجسس لصال


.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تهز عددا متزايدا من الجامعات




.. مسلحون يستهدفون قواعد أميركية من داخل العراق وبغداد تصفهم با


.. الجيش الإسرائيلي يعلن حشد لواءين احتياطيين -للقيام بمهام دفا




.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال