الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأستاذ محمد الأفصع(*)

ضيا اسكندر

2020 / 9 / 8
كتابات ساخرة


في عام 1961 لم أكن قد بلغتُ الخامسة من عمري عندما سمعتُ والدي يقول لأمّي: «سوف نسجّل ابننا عند شيخ الكتّاب محمد الأفصع. يتعلّم القراءة والكتابة لاسيّما الحساب والقرآن الكريم. فيدخل السنة القادمة إلى المدرسة مؤهّلاً وهو يجيد هذه العلوم، فيتفوّق على أقرانه».
لم أكد أسمع ما قاله والدي حتى هبط قلبي إلى أمعائي وشعرتُ بدنوِّ العذاب. فـ «محمد الأفصع» معروف في الحيّ بقسوته الشديدة وعقوباته الفظيعة من (فلق) وضرب الأيدي بالعصا الغليظة التي لا تفارقه، ومن حبس الطالب المذنب في المرحاض.. علاوةً على سيل الإهانات والشتائم المقذعة التي يقذفها على الطالعة والنازلة بحق مريديه. لكن ما يُشفع له أنه معلّمٌ ناجحٌ. ونتائج طلابه في المرحلة الابتدائية خير مثالٍ.
ولمّا كان والدي لا يقلُّ قسوةً عن شيخ الكتّاب في عبوسه الدائم وفي سطوته على أبنائه؛ فالحديث النادر معه وإن حصل، فإنه ينبغي علينا ألّا ننظر إلى وجهه، فذلك برأيه قلّة احترام. لم أتجرّأ على الاعتراض بحضوره وأنا أغلي من القهر والاغتياظ.
لدى ذهاب والدي إلى الدكان لشراء مستلزمات الدراسة عند الشيخ – والذي بالمناسبة لا يصلّي - والمتمثلة بلوح خشبي وقلم وإسفنجة صغيرة للمحو وقرآن جزء عمّ. هرعتُ إلى أمّي محتجّاً والدموع تطفر من عينيّ وقلتُ لها مستعطفاً في ضراعةٍ ورعب:
- يامو أرجوك لا أريد التعلّم عند الشيخ فهو رجلٌ جَلِفٌ كريه يضرب الأطفال بلا رحمة. وإذا كانت الغاية المرجوّة هي تفوّقي الدراسي، أعدك بأنني سأكون عند حسن ظنك السنة القادمة.. من دون الاستعانة بـمحمد الأفصع النحس. أبوس يديك يامو اقنعي أبي بالعدول عن فكرته!
ضمّتني أمّي بحنانها المعهود وهي تبتسم بحزن على ما انتابني من مشاعر الخوف والتوجّس وقالت برقّة:
- لا تقلق يا بنيّ! لن أدع الشيخ يمدّ يده إليك بسوء أبداً. سأوصيه بك وأحذّره من أن أيّة شكوى منك عليه، فسوف أسحبك من عنده فوراً.
حاولتُ جاهداً إقناع أمّي دونما جدوى. فهي أيضاً مسلوبة الإرادة كأبنائها أمام جبروت وطغيان والدي الذي لا يمكن أن يتراجع عن قراره إلّا إذا حصل أمرٌ جلل.
نهار اليوم التالي استيقظتُ مبكراً لأستقبل أخطر يوم في حياتي وكأنني ذاهبٌ إلى الإعدام. فقد سُدَّت في وجهي السبل، فأذعنتُ مطوَّقاً باليأس وتوجّهتُ بصحبة أمّي إلى مقرّ الشيخ الكائن قرب الغابة الصنوبرية في حي الرمل الشمالي، وقد حملتُ معي عدّة الدراسة في حقيبة قماشية خاطتها أمّي على عجل. وكان الوقت في نهاية الصيف.
لدى تجاوزنا أجمة شجر الصبّار الضخمة وبلوغنا مشارف مقرّ الشيخ، تناهى إلى أسماعنا أصوات الأطفال يردّدون وراء الشيخ بصوتٍ جماعي كالكورس آيةً من القرآن. لدى اقترابنا أكثر لمحتُهم يجلسون في فسحةٍ مظلّلةٍ بالأشجار أمام بيت الشيخ. منهم من يفترش الأرض على حُصُرٍ وبُسُطٍ مهترئةٍ، ومنهم من يجلس على كرسي قشّ صغير أحضره من بيته. وعلى حين غرّة يقع بصري على طفلٍ معاقَبٍ واقفٍ على رجلٍ واحدة قرب السبّورة ويرفع الأخرى. وذراعاه إلى الأعلى وقد أدار ظهره لرفاقه. هالني ما رأيت. وبدأتُ أزدرد لعابي الذي كاد أن يجفَّ تماماً. مسكت بفستان أمّي مضطرباً راجياً بهلع العودة من حيث أتينا. لكنها هدّأت من روعي هامسةً وهي تذكّرني بوعدها لي من أنها لن تسمح لأحدٍ بأن يمسّني بسوء.
عند وصولنا إلى حوش بيت الشيخ، وقفنا قريبين من الفسحة التي يتواجد بها الطلاب. فأشار الشيخ للأولاد بعصاه أن يصمتوا. واقترب منا وهو يعرج بقامته الضخمة السمراء وثيابه المهلهلة إلى أن صار على بعد خطوتين منا. وسدّد صوبي نظرة متفحّصة صارمة من رأسي إلى قدمي انخلع قلبي على إثرها. وقال متوجهاً بحديثه إلى أمّي:
- أهلاً وسهلاً. يمكنك المغادرة والعودة بعد ساعتين عند انتهاء الدوام لاصطحابه إلى البيت. هل تريدين أن يجلس ابنك على الأرض طيلة فترة تعلّمه، أم تحضرين معك غداً كرسي قشّ أسوة ببعض زملائه؟
أجابته أمي بتودّد والبسمة لا تفارق محيّاها:
- الحقيقة لم نتخذ القرار بعد. على أيّ حال سيجرّب الولد اليوم الدراسة عند حضرتك وسوف نقرر على ضوء انطباعه ما إذا كان سيُكمل تعليمه أم لا.. فهو خائف منك كثيراً يا أستاذ. لذلك أرجوك أن تتلطّف برعايته فتجعله يحبّ المجيء. ولن أكرّر رجائي عليك بالتعامل معه بالحسنى، فهو ابني الوحيد ولم يسبق له أن تعرّض لأيّ تعنيف جسدي أو نفسي.. وإذا عاد مبسوطاً إلى البيت، سأُحضِره غداً ومعي القسط الشهري.
مسّد شاربيه الكثّين وافترّت عنه ابتسامة قسر نفسه على صنعها، وداعب شعري بأصابع يده مطمْئناً وقال بسرعة وتوكيد:
- لا داعي للخوف يا أختي. وثقي تماماً بأنه سيلقى الرعاية والاهتمام وكأنه من صُلْبي.
والتفت صوبي بحماس ممازحاً وهو يحكُّ غابة الشعر في صدره:
- شو يا بطل، سنرى مدى شطارتك اعتباراً من اليوم. هيّا اجلس مع زملائك قرب تلك الشجرة. واسمع جيداً الدرس الذي سألقيه بعد لحظات عن مادة الحساب.. يالله لشوف!
تطلّعتُ بأمّي مستنجداً فأومأت برأسها باسمةً أن أنفّذ ما اؤتمرتُ به. أذعنتُ على مضض وجلست في المكان الذي أشار إليه الشيخ وأنا أنظر إلى أمي مستجدياً والدموع تترقرق في عينيّ.
غادرت أمّي وهي تتلفّت صوبي مشجِّعةً، وعيناي لا تتحوّلان عنها إلى أن غابت خلف السور.
شعرتُ بالغربة الفظيعة في هذا المكان الذي لطالما سمعتُ عنه الكثير من الحكايا المرعبة. وبدأتُ بقضم أظافري متوتراً. التفت صوبي جميع الأولاد والذين هم بعمري تقريباً؛ منهم المبتسم ومنهم المتأمل. وفجأةً لوّح لي بيده أحدهم مبتسماً وكأنه يعرفني. ما جعل الطمأنينة تتسرّب إلى أعماقي تدريجياً.
وقف الشيخ أمام السبّورة وهتف بصوتٍ خطابيّ:
- والآن درس الحساب. لدينا بعض الطلاب الجدد الذين فاتهم الدرس الماضي لذلك سوف نعيده مرةً أخرى اليوم. والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يأتي غداً غير حافظٍ للدرس. (والتفت باتجاه الطفل المعاقب وصاح بصوتٍ حادّ) أنت يا سرحان الزفت! ولك تْفووه عليك، انقلعْ إلى محلّك ولاه. وإيّاك ثمّ إيّاك تنسى كتابة وظيفتك من الآن فصاعداً. (وتابع ممعناً في تهديده) أُقسم بالله المرة القادمة سأُجلِسُكَ على لوح الصبر يا عكروت.
أنزل سرحان قدمه إلى جانب شقيقتها متنهّداً وطأطأ رأسه وهو يمرّ بين الأولاد بوجهٍ طافحٍ بالغيظ، وجلس إلى جانبي يجترُّ غمّه صامتاً متكدّراً.
وبدأ الشيخ درسه وهو يسجّل على السبّورة الأرقام (من 1 إلى 10) مردّداً لدى تسجيله كل رقم بصوتٍ جهوري ونحن نردّد وراءه كالببّغاوات.
وفجأةً التفت نحوي مُنذراً بسبّابته وقد ضمَّ حاجبيه المتصلين الشائكين وصاح بخشونة:
- أنت يا ولد، يا فصعون، احفظْ ما سمعته الآن، سأسمِّع لك الدرس غداً، ويا ويل ويلك تأتي غير حافظ، أُقسم بربّ العباد سأربّي بك الكبير والصغير والمقمّط بالسرير. مفهوم؟
انتبهتُ إليه كمن يستجيب للسعة سوط، تسمّرتُ في المكان وخارت قواي فجأةً مبلّلاً كلسوني. وبصوتٍ متهدّجٍ مذعور نطقتُ متلعثماُ:
- مفهوم أستاذ!
- والآن فرصة استراحة والعودة بعد خمس دقائق. إيّاكم والتأخّر هه!
نهض الأولاد جميعهم. وبدؤوا التجوّل قرب "مدرسة" الأستاذ لئلّا يتأخروا عن الموعد الذي ضربه لهم. لبدتُ في المكان بعد قيامي واستندتُ إلى جزع الشجرة أتفقّد بنطالي الذي لم تظهر عليه لحسن الحظّ قطرات البول بعد. وإذ بالطفل الذي سبق ولوّح لي بيده يقترب مني سائلاً:
- هل عرفتني؟
- لا.. من أنت؟
- أنا ابن أبو نديم اللحام، جاركم بالحارة. أنا أعرفك ودائماً أراك تقود إطاراً «دولاب بسكليت» وتركض به في أزقّة الحي.
- نعم، إنها لعبتي المفضّلة.
- وأنا أيضاً لديّ إطار. إذا أردت اللعب معي يمكننا أن نتسابق عصر اليوم. ما رأيك؟
- أي..
لا ريب من أن حديثه أدخل الأمان إلى قلبي نسبياً. فسارعتُ لسؤاله برغبة محمومة:
- هل سبق وعاقبك عمّو الشيخ؟
- أوه.. كثيراً. مع أنني حديث العهد. إذ لم يمضِ على التحاقي به سوى أسبوعين.
- هل صحيح أنه يحبس الولد الكسول في المرحاض لتعضّه الفئران؟
- أي والله! ويضربنا ويسبّنا.. ويعاقبنا بفرك شحمة الأذن بالحصى. والضرب بالعصا على رؤوس الأصابع وهي مضمومة، وعلى قفا اليد.. افففف، البارحة كان سيقيم فلقة لأحد الأولاد، قام الولد شتمه وفرَّ هارباً.
بلعتُ ريقي مرتعداً وأنا أقول له:
- هذا يومي الأول والأخير.
لحظات وينادي العرّيف بصوتٍ حادّ «يالله، خلصت الفرصة، عالدرس يا أولاد».
وبسرعة البرق التأم شمل الأولاد وجلس كلٌّ في محلّه.
عند انتهاء الدرس كانت أمّي بانتظاري. لدى رؤيتي لها هرعتُ باتجاهها مهرولاً والهلع يتطاير من جسدي. تعلّقتُ بذراعها وأنا أرجوها باستغاثة أن تقنع أبي بعدم مجيئي إلى هنا ثانيةً. رمقتني بنظرة قلقة مستطلعة وسألتني بلهفة:
- هل حصل لك شيء؟ هل ضربك الأستاذ؟
- لا.. لكنه هدّدني. يامو أنا سأموت إذا جئتً إلى هنا مرة ثانية!
- بعيد الشر عنك يا حبيبي.. هيّا إلى البيت.
مشينا معاً صامِتَين وهي تمسك بيدي. وأنا أرنو إليها بين الفينة والأخرى فيتبدّى لي في عينيها حزن العالم كله. لكنها كانت تمشي بخطى ثابتة وقد استعادت صلابتها وغريزتها الدفاعية كأمّ.
لدى وصولنا إلى البيت كان أبي مضطجعاً يسمع باهتمام نشرة الأخبار من راديو الإذاعة البريطانية. خفّض صوت الراديو وسأل أمي بفتور:
- شو؟ كيف كان الولد مع الشيخ؟
شلحت إيشاربها وشحّاطتها بعصبية ووقفت متحدّيةً وكأنها على وشك المبارزة. وأطلقت زفيراً ليفهم أنها في ذروة غضبها. وأنها اتّخذت قراراً لا رجعة عنه. فأجابت بلهجة مؤثّرة حاولت أن تصبَّ فيها كل ما تملكه من حجّة الإقناع:
- حرام عليك يا رجل تعذيب هذا الولد! والله سنخسره ونندم عليه إلى الأبد إذا ما استمرّ بالتردّد على هذا الشيخ. إن حرارته مرتفعة ومُصاب بإسهال شديد من كثرة الخوف. انظرْ إليه! إنه يكاد يهوي على الأرض من شدّة إعيائه. هذا الشيخ العفريت لا يرحم؛ صحيح أنه لم يضربه، لكنه هدّده بأقسى العقوبات. ثم إن الولد وعَدَ أن يكون من المتفوّقين في المدرسة السنة القادمة. فلْندعْه يقضي ما تبقّى له باللعب والتسالي كأغلب أولاد الحارة. ولْنجنّبْه فظاعة هذه التجربة التي يمكن الاستغناء عنها.
لأوّل مرة في حياتي أشهد أمّي بهذه القوة، ما جعل ومضات الشجاعة تتسلّل إلى قلبي بالعدوى، لأتمتّع أنا الآخر بذات القوة. كنت أستمع إليها بإعجابٍ وسعادة كمن يسمع صوت المطر وأنا أختلس النظرات إلى أبي، الذي تطلّع صوبي باستياء وزمَّ شفتيه وهو يهزُّ رأسه يمنةً ويسرةً وكأنه يُضمر اقتناعاً بما قالته أمّي. غمغم بشيء لم نفهمه. ثم رفع صوت الراديو مجدداً لمتابعة أخبار انفصال سورية عن مصر، وتفكّك الجمهورية العربية المتحدة.
-----------------
الأفصع(*): كلمة عامّية سورية تعني الأعرج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق