الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيلاروسيا حلقة جديدة في الصراع الغربي ضد روسيا

جورج حداد

2020 / 9 / 9
السياسة والعلاقات الدولية


إعداد: جورج حداد*


برز في الاشهر الاخيرة في وسائل الاعلام اسم بيلاروسيا (او بيلوروسيا) كحلقة جديدة من حلقات الصراع الاميركي والغربي ضد روسيا. وبيلاروسيا هي بلد متوسط الحجم في شرقي اوروبا، كان عضوا في الاتحاد السوفياتي السابق، تبلغ مساحته حوالى 210 الاف كلم2، وعدد سكانه اقل من 9.5 ملايين نسمة.
وتكتسب بيلاروسيا اهمية جيوستراتيجية هامة، انها تقع بين روسيا في الشرق، وبولونيا في الغرب، واوكرانيا في الجنوب، وليتوانيا ولاتفيا في الشمال والشمال الغربي. اي انها تشكل دولة او منطقة عازلة بين روسيا وبين دول حلف الناتو الشمالية (بولونيا، ودول البلطيق: ليتوانيا ولاتفيا واستونيا) ودولة اوكرانيا الموالية لحلف الناتو والمعادية (الى الان) لروسيا. وباعتبار انها تدخل في حلف امني ـ عسكري مع روسيا، فهي تعتبر خط الدفاع الاول في مواجهة حلف الناتو، في الحدود الشمالية الغربية لروسيا.
كما انها تكتسب اهمية جيوسياسية خاصة، وهي انها بعد انهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي السابقين، ألغت نظام حكم الحزب الواحد (الشيوعي)، ولكنها لم تنزلق، كغيرها من دول اوروبا الشرقية، نحو "اقتصاد السوق"، ولم تفتح الابواب على مصاريعها للرساميل الاجنبية الغربية واليهودية كي تسيطر على امهات الاقتصاد الوطني البيلاروسي، ولم تدر ظهرها لروسيا وتعادها وتسر في ركاب اميركا والحلف الاطلسي (الناتو). وقد اباحت بيلاروسيا الملكية الخاصة وقطاع الانتاج الخاص، ولكنها حافظت على الملكية العامة (ملكية الدولة) لقطاعات الاقتصاد الرئيسية (المناجم، والصناعات الرئيسية، والكهرباء، والبنية التحتية) وعلى انظمة الضمانات الاجتماعية، والصحة، والتعليم. ومنعت تماما تملك الرساميل الاجنبية للثروات المنجمية والوطنية العامة والمؤسسات الصناعية العامة والبنوك. وحافظت على العلاقات الاقتصادية والتجارية الوثيقة مع روسيا، التي تعتبر اليوم الشريك التجاري الاول لبيلاروسيا، وتأتي بعدها مجموعة دول الاتحاد الاوروبي. وتطرح النخبة القيادية في بيلاروسيا فكرة "اشتراكية السوق"، وتحاول تطبيقها.
وهذا النهج السياسي ـ العسكري ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الوطني لبيلاروسيا لم يكن نهجا خاصا لحزب معين، او تكتل حزبي معين احرز السلطة، بل هو نتاج ثقافة ايديولوجية ـ دينية ـ سياسية ـ اجتماعية جماهيرية عامة، تتبناها وتدين بها الغالبية الساحقة من الجماهير الشعبية البيلاروسية، بصرف النظر عن الاصطفافات والانتماءات الحزبية، الموالية والمعارضة والمحايدة حيال السلطة القائمة. وقد تكونت هذه الثقافة الوطنية ـ الاجتماعية للشعب البيلاروسي، عبر تاريخه القديم والحديث.
فالارض البيلاروسية تقع في الطرف الشمالي الغربي لروسيا، وتفصل بينها وبين بولونيا ودول البلطيق في الغرب الشمالي. وقد عاشت في بيلاروسيا على مر القرون، وتداخلت، وتحاربت، وتصالحت، وتعايشت، وتعاونت، وتدامجت، القبائل السلافية والقبائل البلطيقية القديمة. وقد تغلبت فيها الثقافة والانتماء للرابطة الثقافية السلافية واللغة الروسية وللكنيسة الاورثوذوكسية الشرقية. وطور البيلاروسيون لغة وطنية خاصة، هي اللغة البيلاروسية، القريبة جدا من اللغة الروسية، والتي تعتبر واحدة من عائلة اللغات السلافية. والجدير بالذكر ان 75% من السكان هم بيلاروسيون، و23% هم روس، والبقية هم بولونيون واوكرانيون وقوميات واتنيات اخرى. ولكن 70% من السكان يستخدمون اللغة الروسية و23% يستخدمون اللغة البيلاروسية، وتعتمد اللغتان البيلاروسية والروسية دستوريا كلغتين رسميتين للبلاد.
وطوال القرون الوسطى وحتى الحرب العالمية الاولى كان يتم تقاسم الاراضي البيلاروسية بين دولة ليتوانيا البلطيقية، وبولونيا، وروسيا القيصرية. ولم تستقل بيلاروسيا الا في 1918، في اعقاب الثورة الاشتراكية الروسية في 1917. وفي 1919 تحولت الى جمهورية بولشيفيكية، وانضمت الى الاتحاد السوفياتي في 1922.
وفي 1941، ونظرا لموقعهما الجغرافي، كانت بيلاروسيا واوكرانيا اول من تلقى الصدمة الاولى للعدوان النازي الهتلري الصاعق ضد الاتحاد السوفياتي. وقاتلت بيلاروسيا ببسالة منقطعة النظير ضد النازيين، الذين ابادوا ابادة كاملة ثلث الشعب البيلاروسي، ودمروا تماما 209 من اصل 290 مدينة بيلاروسية، ومليون بناية سكنية، و85% من المنشآت الصناعية.
ولكن بعد الانتصار على النازية عادت بيلاروسيا ونهضت بقوة، ونشأت فيها صناعة متطورة ذات قدرة تنافسية عالمية. وحتى عام الازمة العالمية سنة 2008 كان معدل النمو الاقتصادي فيها حوالى 8% سنويا.
وفي 1991 انفصلت بيلاروسيا عن الاتحاد السوفياتي، ولكنها حافظت على علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية وثيقة مع روسيا.
وفي 1994 انتخب سياسي مغمور هو الكسندر لوكاشينكو، رئيسا للجمهورية البيلاروسية. وقد تمسك لوكاشينكو بالنهج الوطني الخاص لبيلاروسيا، ووقف بحزم ضد موجة الانزلاق نحو التبعية للغرب، وفتح الابواب للرساميل الكبرى الغربية واليهودية لنهب ثروات البلاد باسم "الحريات الدمقراطية" و"حقوق الانسان" وغيرها من الشعارات الديماغوجية الغربية التي تتبناها وتستخدمها المخابرات الاميركية والغربية والاسرائيلية، لتغطية نشاطاتها الهدامة والاجرامية. ولكن بعد تبوّئه مركز الرئاسة عمد لوكاشينكو الى تعديل الدستور بما يعطي رئاسة الجمهورية صلاحيات واسعة، ويسمح باعادة انتخاب الرئيس لمرات غير محدودة. وبذلك تحول النظام البيلاروسي الى نظام شبه رئاسي دستوريا، والى نظام حكم فردي شبه دكتاتوري عمليا. وبموجب هذه التعديلات امكن اعادة انتخاب لوكاشينكو منذ 1994 حتى الان. وقد اتاح ذلك تشكل شريحة بيروقراطية، تتحكم بالقاعدة الشعبية، وتستفيد بشكل طفيلي من السلطة، وتستمد قوتها واستمراريتها من تملق السلطة الفوقية القائمة. وقد اسس ذلك لنشوء معارضة شعبية واسعة للحكم الفردي للوكاشينكو، تشمل العمال والطلاب والمثقفين والجماهير عامة، بصرف النظر عن الانتماءات او الاستقلالية الحزبية.
وفي 9 اب الماضي جرت دورة انتخابات رئاسية جديدة، ترشح فيها الرئيس لوكاشينكو من جديد. وحسب الاحصاءات الرسمية فاز لوكاشينكو باكثر من 80% من اصوات الناخبين. بينما نالت المرشحة الرئيسية للمعارضة سفيتلانا تيخانوفسكا 9% من الاصوات. وقد اتهمت المعارضة السلطة بتزوير الانتخابات، واعلنت ان تيخانوفسكا هي الفائزة. ولكن تيخانوفسكا ذاتها غادرت البلاد ولجأت الى ليتوانيا المجاورة، بحجة الخوف من القمع. وقد خرجت على الاثر مظاهرة شعبية عارمة شارك فيها، حسب معطيات وسائل الاعلام، اكثر من 200 الف شخص في مدينة مينسك ـ العاصمة، بالاضافة الى عشرات الالوف في المدن البيلاروسية الاخرى. والان تجري يوميا مظاهرات احتجاجية صغيرة امام مقر رئاسة الجمهورية، الا انه في ايام الاحاد يبلغ عدد المتظاهرين عشرات الالوف. وتمنع قوات الامن المتظاهرين من اقتحام مقر الرئاسة وغيره من المقرات الحكومية. وقد حدثت اصطدامات وقع فيها حتى الان، حسب معطيات وسائل الاعلام، 3 قتلى وعشرات الجرحى، وتم اعتقال اكثر من 7000 شخص.
ان الشعارات الرئيسية في المظاهرات هي موجهة ضد الحكم الفردي للوكاشينكو وضد البيروقراطية. ولكن بعض فئات من المتظاهرين رفعت شعارات مشبوهة ضد اعتماد اللغة الروسية كلغة رسمية ثانية في الدولة. كما رفعت فئات اخرى علم قديم لبيلاروسيا (قبل المرحلة السوفياتية)، وهو علم كان يرفعه الخونة ـ المتعاونون مع النازية خلال الاحتلال النازي لبيلاروسيا في الحرب العالمية الثانية.
وتتهم السلطات البيلاروسية الدوائر الغربية بتمويل بعض ما يسمى منظمات المجتمع المدني غير الحكومية، بهدف تنظيم "سيناريو انقلابي" جديد على الطريقة الاوكرانية في بيلاروسيا، تحت شعار رئيسي هو معاداة روسيا. وقد اتهم لوكاشينكو شخصيا اوكرانيا بتدريب 200 اوكراني ـ بيلاروسي تدريبا عسكريا خاصا واعادتهم الى بيلاروسيا للقيام باعمال ارهابية وتخريبية لاثارة الشغب وايقاع الاشتباكات بين المتظاهرين وقوى الامن، على طريق تحقيق سيناريو "انقلاب اوكراني". وحذر لوكاشينكو انه اذا حدث انقلاب "غربي" في بيلاروسيا فإن ذلك سيؤدي الى مجزرة والى نشوب حرب اهلية.
هذا وعبرت روسيا عن تعاطفها التام مع بيلاروسيا. وأبدت الاستعداد للتوسط بين ممثلي السلطة والمعارضة فيها. وحذر الرئيس بوتين الكتلة الغربية من مغبة التدخل في الشؤون الداخلية لبيلاروسيا والتلاعب بمصائر الشعب البيلاروسي، ومن محاولة موضعة قوات الناتو على الحدود مع روسيا، وقال ان اي "سيناريو اوكراني" لن يمر في بيلاروسيا، وان روسيا مستعدة للتدخل العسكري بطلب من الحكومة الشرعية، ولكن الى الان لا يوجد ضرورة لذلك. كما قام رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميسوتشين بزيارة مينسك، على رأس وفد حكومي روسي كبير، للبحث في تطوير وتوسيع كافة العلاقات الاخوية بين روسيا وبيلاروسيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء