الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في إعترافات -جان جاك روسو-

هيثم بن محمد شطورو

2020 / 9 / 9
الادب والفن


كل من يقرأ اعترافات المفكر والفيلسوف والأديب الثوري "جان جاك روسو"، الذي لم يُعلن نفسه ثوريا، بل بالعكس فقد كان حريصا على الاعتدال واحترام القوانين والدين، ينتابه إحساس الذهول لمدى كشفه لخطاياه ومدى تعريته لمجمل عواطفه ومشاعره وارتباكاته، إلى درجة أن يقول مثلا: " لكم ألعن غبائي الذي يفوق التصور، والذي كثيرا ما جعلني أبدو خبـيثا، آثما، في حين أنني لم أكن أكثر من أحمق، سريع الإرتباك..ولقد كانت حماقـتي من ذاك النوع الذي يؤخذ على أنه عذر زائف، من رجل عُرف أنه ذكي..".
واعترافات "روسو" بتـفاصيلها الغنية بتصوير القرن الثامن عشر في أوربا، في حياتها الثـقافية العامة وفي مجمل الأخلاق العامة التي كانت سائدة حينها، والتي نقرأ فيها نهايات مرحلة وفجر مرحلة جديدة على كل المستويات، واليوم يمكننا فهم هذا الأمر بحكم تـقـدمنا الزمني واطلاعنا على التجاوز التاريخي الذي حدث فعليا، ولكن حين تـقف في مستوى زمنية اعترافات روسو وزمنية القرن الثامن عشر في أوربا، فإن لذة الانغماس هناك بافتراض الوضع في حدوده الزمنية يجعلك في مواجهة مع ذاتك في الوقت الذي تواجهك روح شفافة إلى أبعد الغايات وسط محيط يتصف بالنفاق مثلما أوضح روسو ذلك. هذا النفاق ليس في الطبقات الشعبية بل عند المثـقـفين والنبلاء. لكن ما يدلل على انتـقالية المرحلة التاريخية هو وجود روح أخلاقية جديدة عامة تتجه نحو تـقـديس البراءة والإيثار والفكر الحر والإبداع الجديد. فأعمال روسو بداية من مقاله حول أصل الامساواة وأعمال الأوبرا التي ألفها مسرحيا وموسيقيا فقد كان "روسو" موسيقي كذلك، إلى رواية جولي ومختلف أعماله، كانت تثير ضجة كبرى في فرنسا وفي أوربا بأسرها. روح جديدة وأفكار جديدة وخيال خصب، وفي النهاية عصر جديد بأكمله بين سطور ما خطه قلمه.
هذه الروح، نجد أنها بالفعل صاغت نفسها كعمل تأسيسي لعصر جديد، وأهم ما يميز "روسو" هو حرصه الشديد على حريته واستـقلاليته، وقد رفض عدة عروض باغرائاتها المالية ليكون مستـقلا وحرا، حتى انقـلب الوضع به ليصبح أكثر شخصية مطاردة في أوربا ومهددة بالسجن، فكان ينتـقل من منفى إلى منفى. وهو في ذلك كان تجـسيدا حيا لمعطى رسالي بوعي كامل لمكانته ككاتب، وهو يقول في ذلك: " لقد كنت أشعر دائما أن مكانة المؤلف لا يمكن أن تصبح مرموقة و محترمة، إلا إذا كان التأليف بعيدا عن أن يكون حرفة.. إذ أنه من الصعب، كل الصعب، أن يفكر الإنسان تـفكيرا نبيلا ساميا، إذا كان مضطرا إلى أن يفكر طلبا للرزق.. ولكي يكون الكاتب قادرا، ولكي يجسر على أن ينطلق بالحقائق الجليلة، ينبغي أن لا يعول على النجاح ويركن إليه. ولقد دفعت بكتبي إلى الناس بضمير مطمئن إلى أنني إنما تكلمت من أجل الصالح العام، غير حافل بأي شيء آخر. فإذا رُفض الكتاب، فيا تعسا لأولئك الذين لم يشاؤا أن يفيدوا منه. أما أنا، فما كنت بحاجة إلى رضاهم وقبولهم لكي أعيش، فإن مهنتي كانت كفيلة بأن تعولني، إذا لم تلق كتبي مشتريا.. وهذا بالذات هو الذي جعلها تُباع وتُروج...". ومن يحدد لنفسه الشروط للتفكير النبيل والسامي فإن كتابته تعانق السماء في سموها وتغزو القلب في مدى نبلها. ذاك التطابق بين الكينونة والذات هو الذي يحدد عمق التعبير الثوري بما هو مصداقية عظمى إلى درجة الشفافية. وبالتالي فالثورية ليست موضة وادعاء أجوف بل هي فعل السمو الذاتي والكينوني دون غاية الثورية في ذاتها وإنما بغاية الخير الأسمى الكلي. إنها إذن الشفافية مع الذات والآخر.
وكتاب الاعترافات هو في غاية الشفافية الممكنة لإنسان، وهو استـثـناء وحيد وفريد، بمثل ما كان الروح للثورة الفرنسية، ثورة الحرية وانبثاق عصر جديد. اعترافات "روسو" هي من الشفافية التي لن تجدها حتى عند الأنبياء. وهو واعي بذلك ومدرك له، وقد قال في الفقرة الأولى من كتاب اعترافاته: " أجرؤ على الاعتـقاد بأنني لم أُخلق على غرار أحد في الوجود.. ولن يتسنى البت فيما إذا كانت الطبيعة قد أصابت أو أخطأت إذ أتـلفت القالب الذي صاغتـني فيه إلا بعد قراءة هذه الاعترافت"..
جان جاك روسو، يبدو بوضوح متمتعا بنفسه، راضيا عنها، بل ممتلئا باقـتـناعه بنفسه وبما أنجز، وهو بالفعل ظاهرة مدهشة. فبقدر ما كان خارج السرب في أفكاره وكتاباته، بقدر ما كان يقول ما يفكر فيه هو بكل استـقلالية، ولكن لا تتوقف المسألة هنا. بقدر تلك الشفافية في الغوص في ذاته والتعبير عن أفكاره التي خلقها باستـقلالية تامة وحرية قصوى عن جميع ما قرأه وعن كل التيارات في عصره، فإن كل كتاباته حقـقت رواجا سريعا ومدويا منذ صدورها. فهذا التطابق بين سموه ونبالته وجماليته الذاتية والواقع الموضوعي من حيث التجاوب السريع مع نبضات روحه هو عجيب. ولكن حين نفكر في المسألة قليلا، فإننا حين نجد روسو يفكر باستقلالية في الواقع ومحاولته الحثيثة في فهمه بعيدا عن كل التحديدات المسبقة، إضافة إلى تموقعه في قلب اللحظة التاريخية المتجهة نحو تاريخ جديد بأخلاق جديدة هي أخلاق الحرية الإنسانية والسمو الذاتي لكل فرد، فإننا نحيط بشكل عام مدار تعقل هذا العبقري الفذ "جان جاك روسو"، هذه الدائرة التي تعني روح أوربية عامة نشيطة ومتيقظة من سباتها وتتجه نحو الإبداع والسمو والتغيير حتى وان كان الواقع بحكم المصالح والعادات يتحرك ببطء مما جعل روسو يصف عصره بعصر النفاق. هو النفاق الذي يدلل على التناقض بين العقل والواقع، بين تحفز الوعي لعالم جديد والواقع المتحرك ببطء، وكان "روسو" هو لحظة ضرب هذا النفاق وبالتالي ضرب الاستكانة للواقع والتعلق بالذات وعقلها وفكرها. وبعد سنوات من موته بالفعل قامت الثورة الفرنسية معلنة "روسو" فيلسوفها ونبـيها..
لقد أراد وفق التعبير الهيغلي أن يكون معترفا به من قبل الآخر وجودا من أجل ذاته خالصا. وهذا الاعتراف به من قبل أوربا بعد موته خاصة، هو الذي ساهم مساهمة كبرى بخلق أوربا جديدة ومن خلالها عالما إنسانيا جديدا...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي


.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و




.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من


.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا




.. كل يوم - -الجول بمليون دولار- .. تفاصيل وقف القيد بالزمالك .