الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإسلام في مكة ج 1 _ من سلسلة تاريخ محمد الصحيح

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 9 / 11
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الإسلام في مكة
بعد ما يقارب من الأربع سنين مضت على البعث السري صار لزاما ووفقا للظروف التي خطط لها النبي محمد من ضرورات حفظ الأمر أن يجهر بالدعوة ويصدع بها علنا، الأسباب التي جعلت من أمر الجهر هي ذات الأسباب التي كانت عليها الدعوة السرية، ويمكن إجمالها بالنقاط التالية:.
1. الأعتقاد النفسي والتهيؤ لمرحلة النشر من خلال وجود قاعدة من المؤمنين بالرسالة يمكنهم ومن خلال عمل منظم أن يتوسعوا في الدعوة بين الناس، الدين الذي بدأ بواحد ثم أثنان ثم ثلاثة أصبح الآن خلية تعدادها يفوق الأربعين شخصا ممن لهم القدرة على التواصل والعمل المشترك، هذا العامل شكل مفاجأة لقريش التي أصبحت والمسلمون فئة مميزة من بين أبنائها ومن بيوتات وأحياء مختلفة، مما يصعب عليها ممارسة الأغتيال السياسي لهؤلاء أما خشية من قبائلهم وأحيائهم أو لضخامة العدد، هنا أوقع النبي محمد وخلال الفترة الماضية زعماء قريش في وضع الإحجام من القدوم على ما لا يحمد عقباه في أي تصرف ضده وضد أنصاره، فليس من السهل أن يكون عليهم مواجهة تنوع وتعدد كان يحسب على أنه نزوة أو ربما تركوا الأمر للزمن حين لا يجد محمدا من يصدقه، وعلى هذا بنيت كل أحتمالاتهم الأولى.
2. تسرب أنباء وشكوك لدى زعماء القوم من أهل مكة بأن هناك نشاطا لمحمد بين أفراد القبائل وضيوف مكة وزوارها والحجيج القادم إليها من خارجها، مما يستلزم إعلان ذلك صراحة دون أن يمنع هذا من أن توجه أي ضربة أو تصرف يمكن أن يؤثر على وضع مكة الأقتصادي، خاصة وأن معاملة الحجيج والتجار بالحسنى هي التي تجلب لمكة مزيدا من الأموال والسلطة الدينية، فاستغلال النبي لهذا الواقع كان لا بد أن يجهر به للناس ليلفت نظر الكثير ممن كان لا يرى في عبادة الأصنام قضية عقلانية، والمشاهد التي سجلها التأريخ في بداية الدعوة أشارت إلى حالات كثيرة كان لهؤلاء دورا مهما في توسيع الدعوة ومناصرة مسلمي مكة الجدد1 .
3. الجَهر والإعلان كان ضرورة ألزمتها تطورات الواقع وسيَمنح القضية بُعدًا إعلاميًّا أكبر وسيكون له صدى خاصة في مجال القيم التي تؤمن بها القبائل العربية، فكان من المعيب لديهم أن تكسر قبيلة بأحد أفرادها في قضية لا تتعلق مثلا بالشرف الأخلاقي أو مقابل دم أو غدرة أو مما يعاب عليه، خاصة وأن الذي سيواجهونه من أشراف قريش ومن ساداتها وهذا ما يشكل نكسة أخلاقية لهم مقابل ما جاء بالدعوة للدين الجديد من فضائل ومكارم الأخلاق، والإعلام وسيلة مهمة جدًّا في عالم السياسة كما هو معروف وفي قضايا أجتماعية ترتبط بقيم المجتمع وأخلاقياته، فعلى الرغم من وجود أخبارٍ تتسرَّب عن الإسلام هنا وهناك لكنها لم تأخذ ذلك البعد خاصة وفي وجود تكتكم وتخفي ظاهرا قد يمنع من نشر المبادئ والأفكار الجديدة، ولكن الاصطِدام مع قريش له بُعدٌ سياسيٌّ وإعلامي خاصٌّ، سيكون لصداه أفق أوسع بكثير، وسيَصِلُ الخَبرُ سريعًا لأبعد أصقاع الأرض نتيجة مرور القوافل أو أثناء أيام الحج والأسواق الموسمية والسنوية، وهذا ما حدث فعلا فأي تصرف يتخذ ضد محمد وأتباعه نقل سريعا بين القبائل وتداولت قصصه مما شجع البعض للمجيء لمكة للتعرف عن قرب عن الحقيقة ومصدرها، ممَّا وفر سيُوفِّر مادة غنية للنقاش بين الأفراد والقبائل والأمم في أرجاء الأرض وهو الإسلام، وسيُثير الموضوع الفضول لدى الناس لمعرفة المزيد عن هذا المَنهجِ الجَديد.
في بداية السنة الخامسة للبعثة أصبحت قضية محمد والصراع مع قريش قضية رأي عام وعرت المجتمع أمام عيوبه ونظامه الأجتماعي، فتحول الصراع من إطاره الديني الأجتماعي إلى صراع قيم واخلاقيات أضر كثيرا بقريش وعزز من وجود الدعوة بين الناس، هذا الأمر أستشعرت قريش به وحاولت ممايلة أصحاب الدعوة بالمغريات المادية وحتى وصل الأمر إلى منح المزايا السلطوية له كي يترك الدعوة والعودة للاندماج مع مجتمع مكة، وكلنا بالتأكيد يتذكر المحاورة التي نقلها سيد بني هاشم وأحد أهم زعماء مكة عمه أبو طالب عن لسان سادات قريش حين عرض عليه ما أقترحت، فرفض النبي ما جاء بالعرض قائلا (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي .... الخ)، هذا الرفض الذي قرأته قريش على أعتباره تمردا قويا على سلطتها وقدرتها على التحكم في مكة ومجتمعها فصار الأمر إلى الخيار الثاني وهو أجباره وأنصاره بالقوة على ترك الأمر والذهاب بعيدا به، خاصة مع أمتداد الدعوة وأخبارها بشكل ملفت للنظر وقد يخرج عن السيطرة مما يعد مسا بواقع مكة ودينها وتجارتها ومنزلتها بين القبائل.
كان الأنتقال في أسلوب المواجهة بين قريش وفتاها الذي أعلن عن دينه الجديد من حالة المهادنة والترغيب إلى المواجهة العلنية الشرسة، شكلا من أشكال الحرب النفسية التي مورست من أجل وقف الدعوة في حدودها ثم الأنتقال إلى عملية الأحتواء والتحجيم، الحرب النفسية أيضا أستهدفت ثلاث مجالات مؤثرة في قوة الدعوة وهي، أولا الإدعاء بالجنون والسحر والكذب لإسقاط الرمزية في شخصية النبي في أعين الناس وعقولهم، ثانيا محاولة التشكيك في ما جاء به من خلال إدعاء أنها من أساطير الأولين وأنها تتلى عليه من مصادر معروفة، وهذا بدوره يشكل نوعا من التشكيك بصلة الدين الجديد ومصدريته مما يعني إضعاف لموقف الدين من المبادئ التي جاء بها، وأخيرا محاولة زرع اليأس والقنوط بين المسلمين الجدد وهم في بداية حراكهم ونشاطهم مما يشكل سببا مقنعا للإرتداد ومن ثم التصريح بأن النبي قد خدع البعض ولما أكتشفوا خداعه عادوا إلى دين قومهم.
لا أحد ينكر أن هذه الأساليب من الحرب النفسية لم تنجح ولكن بالتأكيد كانت مؤثرة إلى درجة ما لكنها لم تقطع كل مبرراتها ولم تستطيع الصمود أمام إصرار الدعوة وصاحبها، هنا تحول الأمر مرة أخرى للأساليب العنفية والقهرية وجابهت مكة المشركة مكة المسلمة، وصار الإنقسام واضحا حتى بين زعمائها فضلا عن بقية أفراد المجتمع المكي، هذا التأزم الأجتماعي كان المطلوب معالجته بشكل حاد وأخماد صوت محمد بأي وسيلة بعد أن تحولت قصص مكة مع الدين الجديد إلى العمود الأول في الأخبار المتناقلة بين القبائل والمناطق في الجزيرة، هذا تحد جديد لم تحسب مكة المشركة تبعاته على مستقبلها ووجودها.
لم يكن أمام زعماء قريش إلا المضي في سياسة القوة والضرب في النقاط الضعيفة في الخاصرة الرخوة للدين الجديد، وهم الضعفاء من المسلمين وخاصة أولئك الذين لا ناصر لهم ولا قبيلة تدافع عنهم فقد أوغلوا بتعذيبهم ومحاولة الضغط عليهم للتبرؤ من الدين الجديد، هذا التصرف الأحمق أرتد عكسيا من الناحية المعنوية عندما تحل شكل الصراع الديني وجوهره الأقتصادي التسلطي، إلى نوع من أنواع الصراع الطبقي، الأغنياء والسادة وأصحاب السلطة والمال والتجارة والعبيد في مواجهة أضعف الناس والأقل قدرة على حماية أنفسهم، هذا الأمر شكل خللا في تطبيق القيم الأخلاقية التي أرسيت أيام حلف الفضول والوثائق التي تشكلت بموجبها قيم مكة ما قبل الإسلام.
عند ذاك وأستشعارا للحرج تحول الضغط من ممارسته ضد الضعفاء والفقراء والطبقة المسحوقة من المسلمين إلى مواجهة بني هاشم تحديدا وزعيمهم أبي طالب، فقد أثبتت تجارب قريش المشركة أن الأساليب التي أتبعتها سابقا لم تجني المأمول منها خاصة مع إزدياد أعدا المسلمين الجدد، لذا كان القرار هو الضغط على بني هاشم بكل الأساليب في خيارات منها أن يكف محمد عن دعوته وإلا ستواجه الهاشميين المزيد من أساليب العزل والحرمان وقد توحدت إرادة غالبية زعماء قريش على ذلك، فما حل محرم من العام السابع للبعثة وإلا كان بنو هاشم محاصرين ومخرجين من وسط مكة في شعب أبي طالب.
هذه المقاطعة الكاملة والمتفق عليها من قمة المجتمع المكي واحد من أهم أسباب الظن الذي كان يمتلك مجتمع مكة على أنها سوف تتخلص من محمد ودعوته، وليس أمامهم غير خيارات تسليم محمد للمشركين والعودة للوضع الطبيعي لهم، أو هلاك كل بني هاشم أو على الأقل إضعاف قوتهم ومكانتهم في المجتمع مما يسهل عليهم قتل محمد والتخلص منه، أو يبقى محمدا بعيد عن الأتصال بالناس والدعوة لدينه الجديد حتى تهدأ الوتيرة التي كان عليها خلال السنتين الماضيتين من الدعوة، وهنا يمكن لقريش أن تدعي أن رب محمد لم ينصره ولم يقف لجانبه وتركه وحيدا، وهذا سلاح معنوي ونفسي خطير كان يمكن أن ينهي الدعوة في مهدها.
النتائج التي حصدتها قريش وبعد ما يقارب الثلاث سنوات من الحصار والعزل وتشديد كل أسباب المقاطعة، أنها واجهت حقيقة مرة من أن رب محمد لم يتركه وحيدا وأن الحصار والعزل قوت من قدرة ومقاومة المسلمين وقبولهم التضحية في مقابل الثبات على المبدأ، وهكذا أنتهت فترة العزل والمقاطعة وعاد بنو هاشم ومحمد لمكة أقوى وأشد شكيمة مما مضى متسلحين بنصر لم يتوقعه أحد من زعماء وعامة من كان في قريش ومكة من مسلميها ومشركيها وكفارها، إنه التحدي الأكبر الذي على مكة هذه المرة مواجهته بكل قوة، فلم يعد محمدا ضعيفا ولا خالي من أسباب النصر والتوسع وقد بانت لهم حقيقة أن التغيير يأكل من جرفهم ويعمر في جرف المسلمين.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. عَمرو بن عبسة السلمي فقد أسلم وأمَرَه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو في قومه، فهو يقول: "كنتُ - وأنا في الجاهلية - أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يَعبُدون الأوثان، فسمعتُ برجل بمكَّة يُخبِر أخبارًا، فقعدتُ على راحِلتي فقدمتُ عليه، فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفيًا، جُرآءُ عليه قومه، فتلطَّفتُ حتى دخلتُ عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: ((أنا نبيّ)) فقلت: وما نبي؟ قال: ((أرسلني الله))، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: ((أرسلَني بصِلة الأرحام، وكَسرِ الأوثانِ، وأن يوحَّد اللهُ لا يُشرَكُ به شيء)) قلت له: فمَن معك على هذا؟ قال: ((حرٌّ وعبدٌ)) (قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممَّن آمن به) فقلتُ: إني مُتَّبعُك، قال: ((إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكنِ ارجع إلى أهلك، فإذا سمعتَ بي قد ظهرتُ فأتني)). صحيح مسلم -كتاب صلاة المسافرين وقَصرِها، باب إسلام عمرو بن عبسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سرية الدعوة
ايدن حسين ( 2020 / 9 / 11 - 14:14 )
استاذ عباس
ارجو ان لا تنزعج من تعليقاتي
لأسألك .. متى تكون الدعوة سرية
اولا .. اذا كان المجتمع شرسا .. و لا يقبل الاختلاف الفكري او العقائدي
ثانيا .. اذا كان الداعي هو الشرس و يضمر في نفسه خططا للاطاحة بالنظام السائد و الافكار السائدة
ايهما صحيح في حالة محمد
لقد كان الناس قبل بعثة محمد احرار في العبادة .. كل شخص يعبد الذي يرتاح له .. بل كان هناك حتى المسيحيون و اليهود و الموحدون الاحناف .. و لم يكن احد يتعرض لهم من المشركين
محمد هو الذي بدأ بالتعرض لمعتقدات الاخرين .. لهذا السبب بدأ بدعوته بالسرية
لو كان مسالما .. لو كانت نيته غير سيئة .. لو لم يكن ينوي حقيقة ان يصبح ملكا او اميرا على الناس .. لماذا بدأ دعوته بصورة سرية
و اكرر .. ارجو ان لا تكون منزعجا من تعليقاتي
و تقبل احترامي الفائق عزيزي
..


2 - رد
عباس علي العلي ( 2020 / 9 / 11 - 19:18 )
مساء الخير صديقي
أولا أنا غير منزعج ولا أنزعج من الحقيقة مهما كانت مرة إلا إذا كان الكلام باللا منطق أو يشم منه رائحة الباطل.
ثانيا ليس شرطا أن يكون الداعي بسرية شرسا مقابل شراسة المجتمع وتطرفه بل بالعكس من ذلك فسيرة محمد مع مجتمعه تؤكد أن ما قام به من سرية الهدف منها تكوين قاعدة من المؤمنين به وبدعوته دون أن يصيبهم أذى اهل مكة، ثم السؤال الثاني الذي طرحته والذي يتعلق بهدف محمد أصلا من دعوته لو كان كما تقول أن يكون زعيما أو مبكا فقد عرضت عليه زعامة مكة وقريش سلما مقابل ترك الدعوة، لماذا رفض ولماذا لم يسلم ويختصر الطريق، يا سيدي مجنمع مكة في ما قبل الإسلام لم يكن إنسانيا ولا حتى يمتلك شيء من العدالة الأجتماعية وحتى العقلانية في العبادة عندما يعبد الإنسان صنما أو وثنا صنعه بيده، قد تقول هذه حرية ولكن الحرية تنتهي عندما يتحول الإنسان إلى وحش لا يفهم من الحياة غير الخضوع والذل والإذلال وكما قال القرآن الكريم في سورة يوسف، أربابا متعددون أم الواحد القهار، أنت تتكلم الآن وبعد مضي أربعة عشر قرنا لتتكلم عن حرية الدين والأديان وترفض حرية محمد في أن ليدعو لعبادة رب واحد على أسس من الحق والعدل..

اخر الافلام

.. اضطرابات في الإمارات لليوم الثالث بسبب سوء الأحوال الجوية


.. -الرد على الرد-.. ماذا تجهز إسرائيل لطهران؟| #الظهيرة




.. بوتين..هل يراقب أم يساهم في صياغة مسارات التصعيد بين إسرائيل


.. سرايا القدس: رشقات صاروخية استهدفت المدن المحتلة ومستوطنات غ




.. أصوات من غزة| ظروف مأساوية يعيشها النازحون في العراء بقطاع غ