الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]3

إبراهيم جركس

2020 / 9 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ديباجة زرادشت
[3] عندما دخل زرادشت أول مدينة واقعة على طرف الغابة وَجَدَ شَعباً كثيراً متجمّعاً هناك في ساحة السوق، وكان قد أُعلِن بينهم عن قدوم بَهلوانيّ إلى هناك. وهكذا تكلّم زرادشت مخاطباً ذلك الشعب:
((إنني أعلّمُكُم الإنسان الأعلى. الإنسان شيء لابُدَّ من تجاوُزه. فما الذي فعلتم كي تتجاوزوه؟
كلّ الكائنات ظلّت حتى الساعة تُبدِعُ أشياء فوق منزلتها، وأنتم، أتريدون أن تكونوا حركة الجَزر في هذا الدَّفق العظيم فتُفَضّلوا العودة إلى منزلة الحيوان على مُجاوزة الإنسان؟
ما القرد بالنسبة للإنسان؟ أُضحوكَةٌ، أو موضوع خَجَلٍ أليم. كذا يجب أن يكون الإنسان بالنسبة للإنسان الأعلى: أضحوكةً أو موضوعَ خجلٍ أليمٍ.
لقد سَلَكتُم الطريق الطويلة من الدودة إلى الإنسان لكنّكم مازلتم تحملون الكثير من الدودة في داخلكم. كُنتُم قِرَدَةً ذات يومٍ، وإلى الآن مايزال الإنسان أكثر قردية من أي قرد.
والأكثر حِكمةً من بينكم لايعدو كونَه خِلقةً خِلطاً ومزيجاً من نباتٍ ومن شَبَح. لكن هل دعوتم لأن تصيروا نباتات وأشباحاً؟
انظروا، إنني أعلّمكم الإنسان الأعلى!
الإنسان الأعلى كَنَهُ الأرض. فلتُعلِنَ إرادتكم: ليَكُن الإنسان الأعلى هو معنى الأرض.!
أناشدكم أن تَظَلّوا أوفياء للأرض يا إخوتي، وألا تصدّقوا أولئك الذين يحدّثونكم عن آمال فوقأرضية! مُعِدّو سموم أولئك، سَواءٌ أكانوا يَعلمون ذلك أو لا يَعلَمون. مُستَخفّون بالحياة هُمْ، مُحتضرون ومُتسمّمون بدورهم، مَلَّتهُم الحياة: فَليَرحَلوا إذاً!
لقد مضى زَمَنٌ كان فيه الإثم تجاه الله أكبر الآثام، لكنّ الله مات، وبهذا مات أيضاً كل أولئك الآثمين.
أن يأثَمَ امرُؤ في حَقّ الأرض ويَمنَحَ أحشاء ما لايُدركُهُ عقلٌ ولا نَظَرُ تقديراً أكثر من المعنى الذي في الأرض، فذلك هو أفظع آيات الكُفر الآن!
في زمنٍ ما كانت الروح تنظر إلى الجسد باحتقارٍ، وكان ذلك الاحتقار أكثَرَ الأمور سُمُوّاً فيما مضى _كانت تريده هزيلاً، بشعاً، جائعاً. وكانت تعتقد أنها هكذا تستطيع أن تُفلِتَ منه ومن الأرض.
لَكَم كانت تلك الروح هزيلةً هي نفسها، بَشِعَةً وجائعة: وكانت الفظاعة شَهوة تلك الروح!
لكن، قولوا لي أنتم أيضاً يا إخوَتي: ما الذي يُنبئ به جسدكم عن روحكم؟ أليست روحكم فاقة وقذارة وطَمَأنينة بائسة؟
الحَقُّ أقولُ لكم إنّ الإنسان نهرٌ قذر. ولابُدَّ أن يكون المَرءُ بَحراً لكي يَتَقَبَّل نهراً قذراً دون أن يغدو مُتَّسِخاً.
انظروا، ها أنني أعلّمكم الإنسان الأعلى: إنه ذلك البحر الذي سيُغرِق فيه احتقاركم الأكبر.
ما هي أكثر الساعات سُمُوّاً ممّا يمكنكم أن تعيشوا؟ إنها ساعة الاحتقار الأعظم، الساعة التي تغدو فيها سعادَتَكم ذاتها قَرَفاً في أعينكم وكذلك عقلكم وفضيلتكم.
الساعة التي تقولون فيها: ((ما أهمية سعادتي! إنها فاقة وقذارة وطمأنينة بائسة. لكنّ
سعادتي هي التي تبرّر وجودي ذاته))
ساعة تقولون: ((ما أهمية عقلي! هل يتلهّف للمعرفة كما الأسد يتلهّفُ لغذائه؟ إنه فاقة وقذارة وطمأنينة بائسة!))
ساعة تقولون: ((ما أهمية فضيلتي! إنها لم تحوّلني بَعدُ إلى مَسعور. لَكَمْ سَئِمتُ خيري وشَرّيّ! إذ فاقةً وقذارةً وطمأنينةً بائسةً كل هذا!))
ساعة تقولون: ((ما أهمية عدالتي! وأنا لا أرى أنني أتحوّل جَمراً ولَهيباً. لكنّ العادِلَ جَمرٌ ولَهيب!))
ساعة تقولون: ((ما أهمية شَفَقَتي! أليست الشفقةُ الصليبَ الذي عُلِّقَ عليه ذلك الذي كان مُحِبَّاً للبشر؟ لكنّ شفقتي ليست صَلباً))
هل تكلّمتُم مَرّةً هكذا؟ هل صرختُم مرّةً هكذا؟ آه، لَكَم وددتُ لو أنني سمعتكم تصرخون هكذا!))
ليست خطيئتُكم – بل رضاكُم هو الذي يصرخ في وجه السماء، شُحَّكُم ذاته الذي في خطيئتكم هو الذي يصرخ في وجه السماء! أينَ الصاعقة التي تَلعَقُكُم بلسانها؟ أين الجنون الذي كان عليكم أن تُلَقَّحوا به؟
انظروا، ها أنني أعلّمكم الإنسان الأعلى: إنه تلك الصاعقة، إنه ذلك الجنون!))
ولمّا فَرِغَ زرادشت من هذا الكلام صَرَخَ واحدٌ من الشعب: ((كفانا كلاماً عن هذا البهلوانيّ، ودَعونا الآن نراه)). وإذ الشعب كلُّهُ يضحك ساخراً من زرادشت، والبهلوانيّ الذي ظَنَّ أنّ ذلك الكلام كان فِعلاً يعنيه، يُشرِعُ الآن في أداء عَمَله.

يصل زرادشت إلى أول مدينة في طريقة على طرف الغابة. اجتَمع حشدٌ من الناس في السوق من أجل التفرّج على بهلوانيّ هكذا جاء في الترجمة، أمّا حرفياً كما أورده نيتشه فقد كان راقصاً على الحبل. (رجل يمشي على حبل مشدود، إلا أنّ صورة الرقص هنا مهمّة للغاية). إنّ السوق هنا يشير إلى مركز البلدة أو القرية، إضافةً إلى جوهرها كصورة للحياة الاجتماعية فيها. والسوق هو المكان الذي ألقى فيه سقراط معظم حكمه، الفرق بين نجاح سقراط النسبي وفشل زرادشت في السوق يخبرنا الكثير عن رأي نيتشه بالأول.
يخاطب زرادشت الجمع، لكنه يفشل بالكامل، مرةً أخرى، من محاولته الأولى هذه للتعلم، تعلّم شيئاً مهماً، وتغيّرت أراؤه (الدباجة، القسم9). الخطبة التي تَلي الديباجة، القسم الثالث بمثابة أول مثال مُستَدام لدينا عن الأسلوب الذي سيُكتَب به جزء كبير من الكتاب. لغة خيالية للغاية، من خلال سلسلة من الآيات القصيرة نسبياً أو الأمثال. يتمّ إنشاء مخزون من الصور التي سيتمّ استخدامها مراراً وتَكراراً في مختلف أنحاء الكتاب، مع معنى يعتمد جزئياً على السياق ومع تطوّر تدريجي للمحتوى الفلسفي.
الخطاب هنا في القسم الثالث هو الجزء الأول من الدرس المكوّن من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول، هنا، يتعلّق "بالإنسان الأعلى" و"الاحتقار الكبير". الجزء الثاني (القسم التالي، أو الرابع) يتعلّق بأولئك الذين هم بطريقةٍ ما "في طريقهم" إلى، أو يجهّزون الطريق من أجل الإنسان الأعلى. أمّا الجزء الثالث (القسم الخامس) فيتعلّق بأولئك البشر المتخلّفين الذين تأخّروا عن الرَّكب.
"أنني أعلّمكم الإنسان الأعلى" (Übermensch). وقد تمّت ترجمة هذا المصطلح في الأصل إلى اللغة الإنكليزية Superman، وهي ليست ترجمة سيئة في حدّ ذاتها، إذ هكذا دخل مفهوم السوبرمان أو الرجل الخارق إلى اللغة، على الرغم من أنّه كان بعيداً كل البعد عن عن دلالات نيتشه ومقاصده الأصلية. وقد استفاض الأستاذ علي مصباح، مترجم كتاب زرادشت، في شرح سبب ترجمته لمصطلح نيتشه "الإنسان الأعلى" واختياره وتفضله إياه من بين عدّة ترجمات أخرى سابقة كالإنسان المتفوّق أو الإنسان الأرقى ويمكن للقارئ الرجوع إلى الكتاب وقراءة الملاحظة الهامشية المتعلّقة بهذا الموضوع. لكن نحن نفضّل هذه الترجمة أيضاً إذ أنها تحمل دلالة الُعلُوّ التي تعكس نمط الصعور/الانهيار اللغوي، وأيضاً لأنه من الممكن تماماً أن يكون نيتشه قد استوحى من قرائته لمقالات إيمرسون، التي تتضمّن عبارة "الروح العليا The Over-Soul". وشير الأستاذ علي مصباح في نفس ملاحظته الهامشية بأنه ((قياساً على العبارة الفرويدية "الأنا الأعلى" التي توافق العبارة الألمانية Über-Ich _وبما أنّ كلاً من فرويد ونيتشه قد استخدما نفس الصيغة التركيبية في اجتراجهما لمفهوميهما_ فقط فكّرتُ [يعني المترجم] إذاً في عبارة "الإنسان الأعلى" قياساً على "الأنا الأعلى")) صـ44
علاوة على ذلك، يُفَضّلأ مُصطلح "إنسان" باللغة العربية أو human- باللغة الإنكليزية. أولاً، وقبل كل شيئ، لأنّه على عكس اللغتين العربية والإنكليزية، لايوجد في اللغة الألمانية شيء يشير إلى جنس، وثانياً، لأنّ زرادشت لايتحدّث هنا بشكل أساسي عن فرد أو مجموعة من الأفراد، بل عن تحوّل في نمط وجود الجنس البشري.
وتشير اللغة البيولوجية/التطوّرية المُستخدمة هنا إلى أنّ "الإنسان الأعلى" يمثّل إمكانية حقيقية لتطوّر الأنواع. ومع ذلك، يتحدّث نيتشه في نهاية هذا القسم عن الإنسان الأعلى واصفاً إياه أنّه كالبحر أو كالصاعقة أو الجنون بحدّ ذاته الذي يغيّر الإنسان بطريقةٍ ما. ويشير ذلك إلى أنّ الإنسان الأعلى ليس نوعاً بيولوجياً معيناً يمكن بلوغه، أكثر من كونه نموذجاً لتجاوز الأنواع والعبور فوق هضاب الأنواع التطورية الثابتة لصالح عملية "التجاوز المستمر". إنّه ليس مجرّد تغيّر تطوّري، إذن، بل إنّه تغيّر في عملية التطور ذاتها _تغيّر في الطريقة التي يعمل بها التطور على مستوى الفرد والجماعة (أنظر الكتاب الأول، الفصل 1: 22 "من النوع إلى النوع الأرقى").
يقدّم لنا نيتشه الكثير من الأفكار الرئيسية والهامة في هذا القسم، بدءاً من التناقض بين "الإنسان الأعلى" باعتباره "وفاءً للأرض" وأولئك البشر الذين يبشّرون ويتحدّثون عن "آمال فوقأرضية!". إنّ فلسفة نيتشه هي فلسفة التأصّل أو الذاتية أو الجوهر. فإذا كان هناك معنى أو قيمة، فيجب البحث عنهما في مجال الأشياء الموجودة وإدراكهما، فهما غير موجودتان لا في إلهٍ مُتَعالٍ ومُفارِق (كما في المسيحية بشكل خاص، والأديان الأخرى بشكل عام) ولا في فكرة الخير أو العَدل الموجودان كَمُثُل مُفارقة مُستقلّة عن عالم الأشياء الموجودة (كما في الفلسفة الأفلاطونية)، وكِلا الفكرين (المسيحي/اللاهوتي والأفلاطوني) يخلقان قيماً من الرفض المبدئي أو نوع من التحويل/التحريف لقيمةٍ ما، أو رفض بعض جوانب الوجود.
إنّ احتقار الأرض هو احتقار للحياة _إذ أنّ كلاً من الأفلاطونية والمسيحية تحتفيان بالموت وتتوقان إليه. ومع ذلك، ما الإنسان سوى "خِلقَةً خِلطاً" أو "هجيناً" بين "النبات" و"الشبح".، بين أدنى أشكال الحياة وأكثرها مادية ودنيوية وانحطاطاً، وبين أكثر الظواهر الروحية سُمُوّاً ورِفعَةً. بسأل زرادشت بصورة بلاغية: ((هل دَعَوتُكُم لأن تصيروا نباتاً وأشباحاً؟))، كلُّ طَرفٍ منهما يستلزم القضاء على الآخر وتنحيته. والجواب الضمني هو: كلا، لكنّ زرادشت يطلب منّا تحويل هذه "الخِلقَة الخِلط" إلى شيءٍ مُنتِج. إنّ أعظم ما يمكنكم اختباره والمرور به هو "الاحتقار الأكبر"0والمُخاطَب هنا هو "أنتم" أي الإنسان الموجود ضمن القطيع، ولكن بشرط أن يخضع لنوعٍ من عمليات التحوّل).
هذا "الاحتقار الكبير" لن يتمثّل في رفع قيمة ما على حساب قيمةٍ أخرى، أو من خلال احتقارها (كما أنّ الفوقأرضية تعني فوق الأرض)، بل من خلال إدراك أنّ الأرض ليس مجرّد قيمة بشرية أخرى إطلاقاً، بل ليست أكثر من مجرّد "فاقة وقذارة وطمأنينة بائسة". بل إنها احتقارٌ كبير لكل ما هو بشري بقَدر ما بنطوي الإنسان على مثل هذا الرفض التعسّفي والتنشئة المُصطَنَعَة. يطالب زرادشت القطيع الذي يخاطبه بالسؤال: ((ما أهمية سعادتي؟)). إنّها قيمة مبنيّة على رفض شيء ما، الابتعاد والتنحّي عن جانبٍ معيّن من جوانب الوجود لصالح جانبٍ آخر (من أجل شيء ما يقع خارج نطاق الوجود)، أم هل هذه السعادة "تبرّر وجودي ذاته؟". من شأن "ساعة الاحتقار الكبير" أن تبشّر بقدون "الإنسان الأعلى" كالصاعقة، أو الجنون الضارب _هذه الفكرة الأخيرة هي نوع من التجارب أو اللحظات الفارقة والحاسمة حسب المعايير التقليدية_ ولكنّها تحضّر المرء لتحمّل لحظات جنون قادمة أكثر جذريةً وأكثر تدميراً. وهذا الجنون القادم يشتمل على فكرة إرادة القوّة وبخاصّةً فكرة العَود الأبدي كما سنرى في الكتاب الثالث.
تعكس فكرة الجنون أيضاً صورة المجنون الذي يحمل فانوساً في وَضَح النهار والذي سبق وذكرناه من قبل. وقبل الانتقال إلى القسم التالي، علنا أن نلاحظ ورود بعض الأفكار الإضافية أو الصور النمطية التي جاءت خلال هذا القسم والتي سيتمّ تكرارها والتطرّق إليها وتطويرها بشكل أفضل وأوضح قريباً، ومنها: فكرة الخطيئة، والشفقة، والإثم، والكفر، والأسد، والبؤس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمطار غزيرة تضرب منطقة الخليج وتغرق الإمارات والبحرين وعمان


.. حمم ملتهبة وصواعق برق اخترقت سحبا سوداء.. شاهد لحظة ثوران بر




.. لبنان يشير إلى تورط الموساد في قتل محمد سرور المعاقب أميركيا


.. تركيا تعلن موافقة حماس على حل جناحها العسكري حال إقامة دولة




.. مندوب إسرائيل بمجلس الأمن: بحث عضوية فلسطين الكاملة بالمجلس