الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عذرا ولكن الإلحاد ليس مجرد شبهات

محمد ياسين

2020 / 9 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


دائما ما تصف بروباغندا الدعاة وأصحاب الإعجاز العلمي وفرق الدفاع اللاهوتي الإلحاد بأنه مجرد شبهات في شبهات، هذا الوصف القدحي ليس إلا "تكوين عكسي" أو حيلة دفاع نفسي تعكس خوفهم الكبير من موجة الإلحاد التي يشهدها العالم اليوم خصوصا في صفوف المثقفين .
فالشبهة من الاشتباه، أي أن الإلحاد يعتمد في إثبات ذاته على الحجج التي هي في صورتها تشبه الحجج السليمة لكنها فاسدة في حقيقتها أو مختلفة في موضوعها، من هنا جاء أصل التسمية أي من التشابه، علاوة على ذلك، فإن الإلحاد يستغل هذا التشابه بين الحجج التي يقدمها والحجج السليمة التي يوظفها في مصالحه عن طريق التدليس والخداع، وبالتالي فالشبهة لا تقتصر فقط على الفساد العقلي فقط بل تشمل أيضا الفساد الأخلاقي المتمثل في الخداع والتدليس . فوصف الإلحاد بأنه شبهات هو بالضرورة سلب لأية قيمة موجودة فيه .
نعم يمكنك أن تقول عن الإلحاد بأنه مذهب خاطئ أو أنه غير صحيح أو أنه مضر بالمجتمع في بعض الجوانب، والأفراد في جوانب أخرى، ثم تقدم الأدلة على ذلك، لكن لا يمكنك أبدا وبأي حال من الأحوال أن تقول عنه بأنه شبهة!! أو أن تنفي عنه كل قيمة فيه حتى مع افتراض أنه غير موفق في موقفه من الإله أو الأديان أو الوجود بصفة عامة .
ويكفي هنا التذكير بقيمة الإلحاد الكامنة في الطريقة التي يعمل بها، حيث يرفض الأجوبة المنجزة والقاطعة ويشكك في كثير من التصورات التي قدمتها بعض الأديان عن الطيبعة والكون، وهكذا يكتشف الإنسان حقائق علمية حديثة فيضطر المؤمن حينها بدوره إلى افتراض تأويلات جديدة، ولولا تشكيك الملحد أو بتعبير أدق لولولا تشكيك المنهج الإلحادي والأشخاص الذين يعملون به حتى إن لم يكونوا ملحدين لما اكتشفت تلك الحقائق ولما حسن المتدين من تأويلاته وفهمه للدين، ولما صحح تصوراته عن الوجود من حوله .
الإلحاد أجبر المتدين أيضا على الانخراط في رحلة الاكتشاف العلمى للكون وبناء المعرفة؛ بحيث أن النظريات التي يصوغها الملحد أو الشخص الذي يرفض الأجوبة الميتافزيقية أو يعتبرها رمزية -وتحديدا النظريات التي تتعارض مع تصورات المؤمن الدينية- غالبا ما يمارس عليها المؤمن النقد وبضراوة، وهكذا تظهر عيوبها ثم يقوم بعد ذلك المقتنعون بها بإصلاحها وإعادة هيكلتها لنحصل في النهاية على حقائق علمية ثابتة .
حقائق علمية و كونية يتنفع بها الجنس البشري بسائره دون تميز بين ملحد أو مؤمن، فالإلحاد أفاد البشرية سواء بطريقة أو بأخرى، بل إنه مهم ومفيد للأديان أيضا، سواء من جهة الكليات إذ يدفع الأديان للتطور ، أو حتى من جهة الجزئيات حيث يلعب الإلحاد دور قنطرة العبور من ديانة إلى ديانة أخرى .
وبخصوص التساؤلات التي يطرحها الإلحاد فليست كذلك تساؤلات تافهة أو من غير قيمة وصبيانية كما تروج البروباغندا، لأنها ليست تساؤلات ساذجة وسخيفة بل بسيطة، ليست تساؤلات عميقة بل واضحة، فما حاجة الناظر إلى قعر البحر بوضوح وجلاء للغوص عميقا ؟
أسئلة الإلحاد واضحة وبسيطة ليس لأنها أسئلة صبيانية أوتافهة ومن غير قيمة؛ ولكن لأنها بديهية وغير مؤدلجة .
أسئلة لا تنبثق من العقل الذي هو خاصية بشرية فقط، بل تنبثق أيضا من الجسد حيث الحواس، الجسد الذي تشترك فيه كل الكائنات وبه تدرك الحقائق التي لا تستلزم الكثير من التفكير والإطناب الفلسفي والكلامي .
وطبعا هذا لا يعني أنها تساؤلات تثبت صحة الإلحاد أو تبطل الأديان، ولكنها قطعا تساؤلات منطقية وتستحق التفاعل والرد العلمي والفلسفي، وليس مجرد التخطيئ بالشتم والحط !
ومن هنا يكمن الفرق الكبير والشاسع في طريقة التعاطي مع الالحاد بين الفلاسفة والمفكرين والفقهاء المؤمنين الذين يجادلون بالمنطق العقلي والأسلوب العلمي، وبين هؤلاء الدعاة والإعجازيين المسفسطين وكذلك التافهين من أصحاب القنوات في اليوتيوب الذين يطلقون على أنفسهم "مكافحي الشبهات" !
من سيصدق اليوم أن الإلحاد هو مجرد شبهات ؟ من سيصدق اليوم أن عالما كبيرا مثل "هوكينغ" أو فيلسوف عظيم كماركس يعاني من شبهات بينما شخص تافه أنشأ قناة على اليوتيوب لرد الشبهات هو شخص سليم لا بل معالج لهذه الشبهات التي يعانيها هؤلاء الذين قدموا للبشرية الكثير ؟!
فعلا، في وقت ليس بالبعيد كان أي شخص تخطر على باله تساؤلات وجودية أو يخالجه الشك في قضية من قضايا الدين التي يعتبرها المجتمع مسلمة دينية حتى وإن لم تكن كذلك، كان يعتبر شخصا يعاني من شبهات فإن إنتهى فبها ونعمت وإن لا فإن تلك الشبهات يحولها المجتمع إلى ضلالات وهلوسات وأمراض نفسية، فيؤخذ الملحد للأطباء النفسانين -الذين درسوا ويعملون بنظريات فرويد الملحد- لتوصف له عقاقير الوسواس القهري !!
حتى هو كان يعتبر نفسه بأنه مريض نفسي لأنه كان يخرج إلى الشارع ويتسائل: لماذا كل هؤلاء الناس لا يتسائلون مثلي؟ حتما أنا مريض! ولكن بعد ظهور مواقع التواصل الإجتماعي تغير الوضع وما عاد بإمكان البروباغاندا أن تمضي في ادعاءاتها .
أفواج كبيرة من الناس ومن خلفيات مختلفة دينيا واجتماعيا وفكريا يستقطبها الإلحاد دون مطمع أو مطعم، دون مبدأ الثواب والعقاب، دون الجنة و دون النار، بل دون أن يقدم لها حتى العزاء الوجودي من خلال أجوبة قاطعة يوقف بها نزيف أسئلتهم الوجودية الفتاكة، كل هذا لأن المجتمعات لم تتعامل مع الإلحاد بطريقة جدية واكتفت بادعاءات من قبيل أنه مجرد شبهات وأمراض نفسية أو حالة شكوك عرضية تطرأ على المراهقين وقليلي العلم والعقل، ولم تسمح أيضا بحرية التعبير وكانت تزدري الملحدين وتهدد سلامتهم، فاضطرر الإلحاد حينها إلى أسلوب التخفي وأخذ ينمو ويكبر، وهاهو اليوم كبر حتى صار حجمه لا يسمح له بالتخفي ولم يعد قابلا للسيطرة والاخضاع بالقمع والعنف فاستعاضوا عن ذلك بالسباب والشتم وكيل التهم .
ليبقى الحل الوحيد الحل الأمثل هو الرقي بالحوار ولا شيئ غير الحوار والذي به ستزدهر الحضارة ويبدع الجميع حتى إن لم يفضي إلى صيغة نهائية للجواب على السؤال الجوهري في هذا السجال الأبدي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حقيقه
على سالم ( 2020 / 9 / 13 - 17:38 )
لاشك ان شيوخ الاسلام والازهر والسلفيه يخافوا بل ويرتعبوا من كشف المستور وظهور الحقيقه

اخر الافلام

.. التهديد بالنووي.. إيران تلوح بمراجعة فتوى خامنئي وإسرائيل تح


.. مباشر من المسجد النبوى.. اللهم حقق امانينا في هذه الساعة




.. عادل نعمان:الأسئلة الدينية بالعصر الحالي محرجة وثاقبة ويجب ا


.. كل يوم - الكاتب عادل نعمان: مش عاوزين إجابة تليفزيونية على س




.. كل يوم - د. أحمد كريمة: انتحال صفة الإفتاء من قبل السلفيين و