الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل السادس/ 2

دلور ميقري

2020 / 9 / 14
الادب والفن


الشمس، بزغت على القرية، المستلقية في حضن وادي بردى، ليستقبلها صياحُ الديوك وزقزقة العصافير. الأشجارُ المثمرة، المشهور بها الوادي وبالأخص التفاح والدراق والكمثرى، شاءَ عبقها أيضاً تحيّةَ أم الطبيعة في لحظة إشراقها. في أعلى المشهد، لاحت الجبالُ العصية وكأنها تُبدد آخرَ السحب بأسنّة قممها. إلى الأسفل، عند أقدام السفح، كانت البيوت الطينية ما تفتأ نائمة، تتلاعب في جنباتها أحلامُ ساكنيها. في المقابل، كان مخفر الدرك يقظاً؛ أو من المفترض أن يكون بعضُ عناصره كذلك. لكنه ضابط الصف، ديبو، مَن تواجد وحده هناك بعدما سبقَ أن صرفَ الخفير المناوب. كان يتنفسُ العبيرَ المُسِكر، المتدفق من جهة البساتين الغنّاء، وهوَ في موقفه على عتبة مدخل المخفر، فيخفف ذلك من هواجسه وقلقه.
الشابُ الفارع القوام، البالغ من العُمر ثمانية عشرة عاماً، لم يكن قد مضى على فرزه إلى هذا المخفر سوى ثلاثة أشهر. في السنين العشر التالية، سيتعيّن عليه التنقل بين مخافر قرى وبلدات بر الشام، جنوباً وشمالاً، بسبب شكاوى رؤسائه من سوء مسلكه في الخدمة. بيد أنه الآنَ، في هذا الصباح الصيفيّ الصادح بأصوات آلاف الطيور، كان خاليَ الذهن مما يخبئه له المستقبل. ولولا عبء المهمة الملقاة على عاتقه، لأمكن الظن بأن الطبيعة تحييه أيضاً. ولِمَ لا، طالما أنه موعودٌ بعروسٍ فاتنة.. وخدمته في هذه القرية المزدهرة، تبيح له الاستفادة من رشاوى وهدايا سكانها الأغنياء؛ وهيَ القرية، القريبة من بلدة جدته لأبيه، الزبداني. إذاً، ما سبب قلقه وهواجسه، المُحالة إلى المهمة الموسومة؟

***
في يوم أسبق، وكان قد عاد إلى الحارة في إجازة قصيرة، مرّ مساءً على قهوة " قوّاص "، المنزوية في الركن الشرقيّ من الساحة، المُتبرّكة بإطلالة مسجد سعيد باشا. مساءً ( وبغض الطرف عن البركة! )، كان المقهى يتحول إلى خمّارة، تصدح فيها الأغاني والأنغام، المنبعثة من جهاز الحاكي. إلى الأمس القريب، كان عم ديبو الأصغر، مستو، هوَ رفيقه في سهراته سواءً في هذا المقهى أو في الملاهي الليلية بمركز المدينة. خسرَ العمُ حياته بسبب تهوّر أحد نواطير بساتين الحارة، الذي ظنّ أنه لصٌ. ولقد سارع ابنُ الأخ، الذي لم يكن أقل تهوّراً، بأخذ ثأر الشاب القتيل، المماثل له في العُمر. البساتين، كان الكثير منها ملكاً لبعض وجهاء الحي وبعضها من أملاك الصوالحة، سكان الحي المجاور. أملاك هؤلاء الأخيرين، كانت غالباً هيَ هدفُ لصوص الحارة، وأحياناً بالتواطؤ مع النواطير أنفسهم. إلى وقت سيطرة الفرنسيين، كانت العصاباتُ تسرح وتمرح في الشام، خصوصاً في غوطتها وبرّها. الثورة السورية الكبرى، امتصت شرورَ الكثير من هذه العصابات، بتوجيه بنادق أفرادها إلى الفرنسيين وقواتهم الرديفة، المشكّلة من السنغال والمغاربة.
" سنداهم القرية في وقت مبكر من الصباح، وما عليكَ سوى صرف عناصرك قبل وصولنا كيلا نصطدم معهم ونضطر إلى سفك الدماء "، قال لديبو أحدُ أفراد العصابات وكان ابنُ عم صاحب المقهى. نائب الضابط، والحالة كذلك، عليه كان أن يلعبَ دورَ المتواطئ للعصابة المحلية. ولم يكن هذا من الأمور المستغربة، أو غير المألوفة. فعدا عما ذكرناه بشأن النواطير، فإن بعضَ رجال الدين في الحارة كانوا يعودون من منازل أغنياء الأحياء المجاورة ـ التي استُقدموا إليها لقراءة القرآن الكريم على أرواح أمواتهم ـ ليعلموا أفراد العصابات عما شاهدوه هناك من بذخ علاوة على تفاصيل تتعلق بالغرف والمداخل ونحوها. أولئك الرهط من المتواطئين، كانوا بالطبع يحصلون على مقابل ماديّ عقبَ العملية. بيد أن ديبو كان عزيز النفس، فامتنع عن قبول أي مقابل. قال لموفد العصابة: " كل ما أطلبه منكم، هوَ عدم تعريض أهالي القرية لأذى وأن تغضّوا أبصاركم تجاه نسائهم وبناتهم ".

***
وهوَ ذا ضابط الصف على عتبة مدخل المخفر، يلقي نظره على السفح، الممتدة تحته بيوت القرويين وزرائبهم ومزارعهم. كان يتساءل في نفسه، عما سيجده أفراد العصابة لدى أولئك القرويين غير الدواجن: " وأخشى ما أخشاه أن يعمدوا إلى تشليح النساء ذهبهن، المتحلّيات به، ومن ثم تحلو إحداهن لعينيّ أحد أفراد العصابة ". ما أن أنهى التفكير بكل تلك الاحتمالات، إلا وأصوات تطرق سمعه، مختلفة عن أصوات كائنات الطبيعة، المستيقظة للتو. بحَسَب الخطة، كان على ديبو أن يطلق النار من القربينة، ولكن ليسَ قبل ساعة على الأقل من معرفته بأمر هجومهم على القرية. وهذا ما فعله، حينما أضاع بضع طلقات في الهواء. قبل حلول الظهر، توجه مع عدد من عناصره إلى القرية، ليفاجأ هناك بأن بعض النهّابين عمدوا إلى انتهاك أعراض النساء.
بضعة أعوام عليها كان أن تمضي، ثم عاد ديبو ليخدم في نفس القرية. ثمة، شهدَ قيامَ العصابة نفسها بالاغارة على بيوت السكان. كان عندئذٍ يتأهب للسفر إلى الشام مع امرأته، بعدما حصل على إجازة، لما سمع جلبة المهاجمين. وضع يده على جراب الطبنجة بشكل لا إرادي، وهوَ في مكانه أمام باب البيت. لكنه بوغت بأطفال صغار، عمدوا إلى قذف أفراد العصابة بالأحجار.
مساءً في مقهى قوّاص، صادفَ تواجد عضو العصابة ذاك، الذي اتفق معه قبل أعوام بخصوص الغارة على القرية. قال له ديبو بين الجد والمداعبة: " ألم أوصيكم بعدم التعرض لأعراض القرويين؟ أولئك الأطفال، الذين هاجموكم بكل جسارة، كانوا ولا شك من صلبكم!! ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع